صار يعيش بعالم يطل على نوستالجيا شاردة، تنبعث منها الأحلام، لتظهر معالم خفت عن قارئ الوجوه، من تشابك الشعيرات تنبت الخطوط، تقرأ على سطور تجاعيد الوجه حكايات تجسد معاناة الإنسان، قهر العيش، وسبل مفضيه إلى وهم الحياة، يخط بيد تسري في أوصالها رعشة وهن العمر:
جدتي..
عندما كنا صغاراً نلهو في حواري المدينة الضيقة بجوار منزلنا، كانت الأزقة تحتوينا في جوفها كلما دلفنا إليها، تطرب آذاننا لأغنية عبد العزيز محمود "مرحب شهر الصوم"، كنا نلهو وكل منا ممسك بيده فانوسه يلوح به مع نغمات إيقاع الأغاني، مرددين "اهو جه يا ولاد هيصوا يا ولاد"، وكانت تتراقص معنا أضواؤه المنبعثة من الشمعة التي ثبتت في منتصفه، كانت كلما انطفأت نذهب مسرعين إلى الجدة، التي تبتسم وهي ترانا مهرولين جزعين من انطفاء الشمعة، فتوقدها لنا وهي تبتسم ابتسامة تغلفها الحنان وتشملها الطمأنينة التي كانت تحفزنا على الاستمرار في اللعب والمرح، كانت أضواء فوانيس الشوارع تخطف أبصارنا، هي وزينة الحواري الضيقة المصنوعة من الورق، كنا أطفالاً نتشارك اللهو والاحتفال، لا يميزنا عرق أو دين، وكأن الجيران هم عائلة من عرق واحد، لا نعرف من منا صائم بنيّته، ومن منا لا يصوم، الكل يجتمع على الاحتفال بالشهر الكريم، كانت تُرهف أسماعنا لصوت عبد المطلب "رمضان جانا وفرحنا به"، كانت الزينة تمتد من كل الشرفات، ليسري عبرها تيار المودة إلى الشبابيك التي تقابلها، لم تعد لنا من هذه الأيام الجميلة إلا ذكرى نسيجها مهترئ، كلما برقت لنا منها واردة أبكتنا على طفولتنا الجميلة، كان هذا العصر البكر ممزوج بعفوية الفطرة، ها هو يا جدتي قد ذهب الزمان، واهترأت الذكرى، وشاخ الأطفال، وتغيرت معالم الذاكرة، كما تغيرت معالم شوارعنا التي أصبحت بشعة، حتى الآباء ذهبوا وراءكِ، ولم تتبقَ من ذكراهم إلا صوراً بهتت معالمها، واسودَّت بحجمها رقع مستطيلة على الحائط، الذي أصبح هو الآخر ينوء بثقل الزمن.
جدي..
لم يأتِ العيد كما كان، ولم تعد أكفنا تشعر بملمس العدية، توارت أيامك يا جدي، وصارت ابتسامتك أمل يهفو إليه وجداني، صارت تكبيرات العيد تزيد من عمرنا، كبرنا مع كل تكبيرة نسمعها، لم يأت العيد يا جدي كما كان، ونحن نلتف حولك بعد صلاة العيد لتدخل علينا بهجة الكون بطيبتك، وأنت تناول كل منا نصف ريال، لم نعرف يومها ما هو الريال ولكننا كنا نعرف أن نص الريال هذا، هو أول عدية تأتينا في صبيحة كل عيد، لم نعرف معنى للمسمى الذي بأيدينا غير كونها عديتك، لم أشعر في يوم ما قيمة المال، إلا يوم أن حملت كفي الصغير نصف ريالك، أنا وكل الأطفال، كنا ننطلق إلى جدتي لتعطينا العدية، كنا نحمل الكثير من أقربائنا وجيراننا، الكثير من العديات ولكنها كلها لا تعني لنا شيئاً غير عديتك، كم كانت أغنية العيد "أهلاً بالعيد" هي مصدر طربنا الوحيد عندما نسمعها تنبعث من كل البيوت، كم حلمنا بعدما صرنا كهولاً، بنصف ريال يدخل على قلوبنا نصف ما كنا نشعر به أيام طفولتنا، صرنا كما صرت رفاتاً لبقايا أجساد، تحمل في رفاتها ذكرى باهتة لا تستطيع مقاومة عوامل الزمن لمحوها تدريجياً، أصبحت يا جدي أكثر منا قوة بذكراك، كما كنت دومًا أقوى منا بحضورك.
أبي..
في حضرة الغياب جادت الأطياف بذكراك، قلبي يتلظى وتنسكب دماؤه حمماً، والعين تذرف نورها، فما يومًا أبصرت غير وجهك الوضاح، إلا ثارت في سحابات الكون الرياح، لتعصف بحزني عليك، كم كنت يا أبي حنوناً دافئ المرفأ، كم كنت يا أبي معطاء كريماً، حتى جدت بحياتك لنا، علنا نراك في خلد السماء، فاضت أعين القلوب وما نامت أعين المكلومين، حينما ذهبت نعت أغصان المدينة جذوعها، وتجمعت السحب لتتساقط حبات دمع السماء، لك في مثواك رحمة الرحمن.. أبكي ليصعد صوت نواحي عنان السماء، لنا في دار الغيّ حيرة الأشقياء، أبي تركت لي موطناً، وسكنت آخر مواطن الخيال، في جنة دنت منك أبوابها، يوماً ما سأهنأ بقربك كما كنت دوماً.
أقدامنا ما عادت تحمل غير الوهن، ورعشات تفقد توازن ما عليها، هرمت ولكنها تحن دوماً لتلتقط من بين رفات الزمان شعلة لفانوس، أو نصف ريال يكمل بهجتها يوماً.