في ممارسة السيميولوجيا وأشكالها!

"مغامرة الدّال"

عزيز توما

 في البدء كانت العلامة Signe تعبيراً عن العالم المحسوس وغير المحسوس، فيما بعد تجاوزت إطار لفظة (الكلمة)، التي تستمد دلالتها من القيمة الممنوحة لها داخل منظومة لغوية وثقافية معينة، وتحكمت بموقع الإنسان داخل محيطه الطبيعي والسوسيولوجي، لتنسج معه علاقة وطيدة تأسست على أنظمة دلالية. هل يمكن قراءة الظاهرة الاجتماعية قراءة سيميولوجية؟ هل يمكن للاجتماعي أن يولّدَ نصاً؟ 



دأب رولان بارت، منذ البداية، على الانهمام بسيميولوجيا الدلالة الحافة غير اللسانية، كأنظمة الموضة، وغيرها خاصة تلك المتصلة بالأدب والفن، بصفتها شكلاً من أشكال التواصل؛ أمر كهذا جاء كخيار واع، بل ارتبط عميقاً بالممارسة السيميولوجية، إذ لم تكن الأخيرة، في أي وقت من الأوقات لديه، تخصصاً علمياً؛ إنما مغامرة محفوفة بالمخاطر، قائمة على انشغالات الدّال، وقد وصل به الأمر إلى اعتبار السيميولوجيا مغامرة1، أي مغامرة الدّال المنفلتة من كل إطار، من كل تحديد، فكرة توّجَها في كتابيه الاثنين الذائعي الصيت درجة الصفر في الكتابة المنشور عام 1956، ومبادئ في السيمياء، حيث قام فيهما بالاشتغال على النصوص النابضة بالحياة. وعلى خلاف كتبه السابقة التي كانت فيها محاولات التنظير القائمة على الممارسات الوصفية؛ فإن كتاب نظام الموضة يذكر فيه بارت النظرية قبل التطبيق، ويبدأه بوصف الزي الذي يلبسه الأشخاص فيسميه (الزي الحقيقي)، ويقابله الزي – الصورة، الذي يوجد مكتوباً في مجالات الأزياء. وقد كان بارت، طوال حياته، الشاهد الحي على دلالات العالم الحديث، فقد توغل في بحر الدعاية، والأزياء، والسينما، ووسائل الإعلام، والتلفزة، والإذاعة.

تكمن أصالة الأعمال البارتية مدى ما تربطه من علاقات جدية بين فروع السيميولوجيا وأنساق أخرى من المعرفة؛ لذلك تتسع هذه القراءة الراهنة مسالك علم السيمياء، في تتبع التقاطعات بينها ضمن حقل معرفي واحد، سعياً في اتجاه البحث عن معايير تمييز لنظام اجتماعي ممكن يستند إلى السيميائية، وتنسج مفاصله من المعيش اليومي، وفي النشاط الممارس.

رغم أن مصطلح السيمياء استعمل في بدايته في الحقل الطبي، للدلالة على الدراسات الدّالة على المرض2؛ فإن هذا المصطلح قد انتقل تالياً إلى ميدان اللغة، ثم بات منهجاً في المعرفة، كان هدفه وضع حقائق مناسبة لكل الميادين التي تُستخدم فيها الأنساق العلامية، وهذا ما يذهب إليه رولان بارت الذي يعتبر السيميولوجيا علماً عاماً يستمد في أصوله النظرية من اللسانيات، ولأنها فرع من فروع علم اللغة العام. وهذه النزعة التي تَعدُّ بارت، وبينفنست، وجوليا كريستيفا من أبرز ممثليه، تميل إلى إرساء قواعد السيميائية الأدبية قبل تأسيس أية علامية عامة؛ لأن النص الأدبي يُعتبر أهم نظام علامي حيث مادته اللغة. وعندما انتقل المصطلح إلى ميدان الأدب والنقد بصورة عامة بات منهج التحليل السيميائي للنص الأدبي ينطلق من اعتبار النص يتضمن بنية ظاهرة وبنية عميقة، ينبغي تحليلهما، وبيان ما بينهما من علائق، لأن انسجام النص الأدبي، ناجم عن تضمنه بنية عميقة محكمة التركيب. وبهذا تخلصت السيميائية، في ممارساتها، من ثنائية الشكل والمضمون؛ لأنه لا يوجد تركيب اعتباطي مستقل بذاته، بل إنّ كل تصور وكل قاعدة هي في الوقت ذاته تركيب ودلالة.

ومن الجدير الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ بارت يرفض فكرة وجود ارتباط محكم بين الدّال والمدلول، وهو الذي دعم فكرةً مفادها (إنّ العلامات تطفوا على السطح لتغري المدلولات، فتنبثق معها لتغدو بمجملها دوالا أخرى ثانوية متناسلة). الأمر الذي حرر المفردة وجعلها إشارة حرة، و"حالة حضور" لأنها موجودة أمامنا. وبالمقابل فإنّ "المدلول" يمثل "حالة غياب"؛ لأنّه يعتمد على ذهن المتلقي بغية إحضاره إلى العالم الخارجي؛ وهذه العلاقة لا تنشأ إلا بفعل المتلقي الذي يؤسس العلاقة بين الدال والمدلول، وتالياً الدلالة، ولأن الصلة تقوم بين دال حاضر وهو (الكلمة)، ومدلول غائب هو (الصورة الذهنية)، والمدلول نفسه يصبح عالة على الدّال، ويستحيل أن نتصور مدلولا دون دال؛ لأنه العدم الذي يفضي إلى اللامتصور. ومن هنا كان الوجود اللفظي هو الأساس للحضور الذهني. وهكذا فإنّ فاعلية الاتصال تحتم أن يكون لكل (دال) مدلول واحد لا غير، ولكل (مدلول) دال واحد لا غير. تلك هي حال اللغات العلمية، وأنظمة الإشارات والرموز المنطقية. لكن الواقع العملي يؤكد وجود العديد من الأنظمة، بحيث يرجع الدال إلى مدلولات كثيرة، وحيث يعبر المدلول عن ذاته عبر دالات متعددة، كما هي الحال في أنظمة الرموز الشعرية مثلاً.

إنّ المجتمع نسق من العلاقات قائم بين الأفراد، قوامه الإنجاب والدفاع، والتبادلات والإنتاج... وليست الأعياد والطقوس والأزياء والاحتفالات والألعاب سوى أشكال من الاتصال. ومن خلالها يحدد الفرد ذاته مع الجماعة، وتحدد الجماعة دورها إزاء المجتمع. والإشارة هي كل ما يشير إلى تصور فكري، إذ كلّما تقدمت الحضارة الإنسانية ازداد استعمال الإشارات. إنّ العقل البشري يلجأ إلى الاقتصاد في الحركات والجهود العضلية، وعالمنا يزخر بالإشارات البصرية والسمعية، إشارات السير، اللغة المحكية، رنين جرس الهاتف، زمور السيارات... وهذه الإشارات المتعاظمة دفعت رولان بارت إلى دراسة (إمبراطورية الإشارات) في اليابان، حيث الإشارة فيها مجردة من أي تطبع أو عقلانية. إنها إشارة فارغة: مدلولها يهرب. لا آلهة تقبع فيها ولا أخلاقية. تسيطر فيها الدالات بلا منازع3. واللغة هي أكثر هذه الأنظمة تعقيداً. فهي تتكون من إشارات لا بُدّ من استعمالها في عملية التواصل بين الأفراد، وذلك من أجل الاقتصاد في الوقت، إذ يمكن تحديدها بأنها نتاج اجتماعي واع يتكون من دال ومدلول يمثلان مفهوماً غير الإشارة ذاتها. ثمة علاقة إذن بين الدال الصوتي، والمدلول الذهني، والمرجع المادي.

في كتابه نظام الموضة Le système de la mode الذي أنجزه عام 1963، يعتبر بارت أنّ كل عمل سيميائي تطبيقي ينبغي أن يكون نزوعاً إلى الاستكشاف، لهذا فقد قام باستكمال عمل سيميولوجي يتعلق بموضة الملابس، إذ كان هدفه في البداية تأسيس (دلالة الموضة) الواقعية بكل تشعباتها، الموضة المكتوبة حصراً. ومن مفارقات هذا البحث، أنه يحلل فيه بنيوياً ملابس النساء كما تصفها مجلات الموضة مستفيداً في ذلك من سيميولوجيا دو سوسير، إذ كان يرمي إلى تكوين نظام من المعنى دون اللجوء المكثف لمفاهيم خارجية4. لكنه كان يناقض هذا الأخير الذي يعتبر أن السيميولوجيا أشمل من اللسانيات، بينما يرى بارت العكس تماماً، فيجعل السيميولوجيا جزءاً من اللسانيات.

في الواقع، لم يكتف بارت بالكشف عن أهمية اللغة غير المنطوقة (اللاواعية) في الحياة الاجتماعية؛ أي بكل ما من شأنه أن يبدو –إلى جانب الاستعمال اليومي العادي– نسقاً من العلامات المتميزة بطابعها المنظم الذي يمكن تحليله إلى وحدات ذات دلالة بالنسبة لأفراد المجتمع الواحد؛ إنما قام بتوسيع دائرة السيمياء ليركز على الرسائل الكامنة اللاواعية التي تبثها وسائل الإعلام الداعمة للإيديولوجيات البرجوازية. وانتهى إلى أن مجمل اللغات الرأسمالية الثورية تعمل على إبقاء (أساطيرها) الخاصة، وذلك في سعيه وراء كشف أقنعة كل الأيديولوجيات، من أجل تدمير تأثيرها. وقد تناولت سخريته البالغة التاريخ البورجوازي، وهُوية الإنسان البورجوازي، والأمثال، والرقص، وتسلق الجبال، ومخرجي السينما، وأزياء الممثلين، ومعظم تناقضات المجتمع الحديث.

ويبدو أن المسعى السييميولوجي عند بارت يكمن في إماطة اللثام عن الأنساق الدلالية، ونزع القناع عن البداهات الأولى الخاطئة الشائعة في الأوساط الاجتماعية التي تتحكم بتعاملات الناس وعلاقاتهم، ويتوسع مشروعه السيميولوجي ليطال (النظام الرمزي والدلالي الحضاري في شموليته)5. ففي "الميثولوجيات" يقدم بارت نقداً أيديولوجياً، فيكشف من خلال دراسته "للتمثلات الجماعية" كأنظمة من العلامات، "ميثولوجيا" المجتمع الفرنسي الحديث، كما تروّج لها البورجوازية الصغيرة الفرنسية في تحويلها لثقافتها النخبوية إلى ثقافة ذات طابع عالمي6.

في هذا الصدد، أشار بارت إلى رياضة المصارعة على أنها إحدى التمثلات الجماعية، بل أكثر من ذلك، مشهد أو عرض فني7. وهو في ذلك يظهر القوانين السيميولوجية الكامنة في هذه اللعبة التي تتشكل من قطبين يتجاذبان وضعاً تواصلياً: المتصارعان من جهة والجمهور من جهة ثانية. ويبدو المتفرج غير معني بما في هذه اللعبة من خداع، بل ما يثيره هو ما يراه لا ما يعتقده، المصارع يعي ذلك ويقدم ما ينتظر منه بواسطة حركات مفخمة، تهدف إلى إثارة حالة من الانفعال لدى الجمهور، مثل الغضب والألم، والهزيمة أو لذة الانتصار، وهو بذلك لا يبدع شيئاً سوى أنه ينجز علامات ضمن سياق سيميائي، يبدو وكأنه متفق عليه مسبقاً.

في منحى آخر، ودائماً ضمن دائرة السيميولوجيا على أنها شكل للتواصل، تُعتبر الصورة الصحفية بوصفها رسالة لها مرسل ومرسل إليه، ومرجع للإرسال، وقناة التوصيل، لكن بارت، متأثراً بجاكبسون، لا يكتفي بهذا الحد بل يتعداه ليتأمل الصورة بما هي رسالة نابعة من منطق الدلالة السيميولوجية، فالرسالة الإيحائية التي تقدمها بلاغة الصورة الفونوغرافية تميل إلى التطور انطلاقاً من الرسالة التي تفتقر إلى الشيفرة code. إنّ الإيحاء connotation هو علامة أخرى من الممكن أن تتحول إلى مدلولات لامتناهية. من جهة أخرى، تتجاوز البلاغة حدود النص المكتوب، إنما الصورة ذاتها يمكن أن تتضمن أحداثاً بلاغية على عكس ما يعتبره البعض على أنّ البلاغة هي حكر على اللغة، وأنّ الصورة هي نسق بدائي بالنسبة إلى اللغة. ويرى آخرون أنّ الدلالة تستنفذ ثراء الصورة الذي يتعذر على الوصف. لكن بارت، ما يهمه هو مرجعية المعنى، فكيف يتطور المعنى من الصورة؟ وأين ينتهي؟ وفي حالة انتهائه، ما الذي يأتي لاحقاً؟ بغية الإجابة عن هذه الأسئلة، يعمل بارت على دراسة الصورة الإشهارية كونها قصدية وصريحة، إضافة إلى أنّ علاماتها مشبعة وغير مفخمة.

أخيراً؛ لا بُدّ من القول إنّ المشروع السيميولوجي عند بارت يميل عموماً إلى الكشف عن الأنساق الدلالية والقوانين السيميولوجية، ولكي تكتمل الصورة لا بد من التطرق إلى النص بوصفه فضاءً لا يحصى من المعاني، والجامع الشكلي للظواهر اللسانية، حيث تتبدل آفاقها باستمرار بتبدل القراءات الممكنة. والقراءة عند بارت هي في حد ذاتها ممارسة نصية، تتجاوز المقروء بتوليد قراءة جديدة متفجرة لا تتقيد بموضوع القراءة، بل تعدل وتضيف، وتفكك تفكيكاً حرياً بإنشاء نص جديد مختلف عن غيره من النصوص. فكل نص هو تجاوز لما سبقه، إنه ثراء الاختلاف الذي يفجر نصاً واحداً إلى نصوص مختلفة، فلو قرأت لوحة "غرنيكا"* لبيكاسو قراءات متعددة لأنشأت نصوصاً مختلفة، مما يعني أن "الممارسة الدلالية" يمكن أن تنشأ نصاً، إلا أنّ القراءة ليست ممارسة حرة تماماً فلها حدود يضبطها التكافؤ بين الكتابة والقراءة.

كل ما تقدم يفضي إلى الحديث عن لذة النص عند بارت؛ إذ إنّ هدم النص بهدف تأليف نص جديد هو بحد ذاته لذة. اللذة لا تتقيد بقواعد معينة بل لا يمكن تحديدها إلا من خلال ما تنتجه. فهي يمكن أن تقلب النص رأساً على عقب وأن تتعارض معه؛ لأن كل نص ينطوي على قابلية نقضه وعكسه. المقروء بلذة هو ما كتب ضمن اللذة، تبحث اللذة عن مكان الضياع والصدع، وهذا ما يستهويها قبل العنف والهدم.


الهوامش:
1 – Roland Barthe, l'aventure sémiologique, seuil, 1985, p.15
2 – Le petit Robert, Paris, P. 1633
3 – Roland Barthe, Mythologies, Ibid, p7
  4 – المرجع نفسه، ص: 16
  5 – المرجع نفسه، ص: 28
6 –  Roland Barthe, la cuisine du sens, Ibid, P. 78
7 –  المرجع نفسه، ص: 56

 

من أعلام السيميولوجيا:
1 – رولان بارت: Roland Barthe (19151980)
ناقد فرنسي معاصر، متخصص في الحقل السيميائي. كتب أكثر من عشرين كتاباً، أشهرها لذة النص (1964).
2 – فردينان دو سوسير  Saussur (18571913).
عالم لسانيات سويسري ورائد السيميولوجيا الفرنسية. ألف كتاباً واحداً هو محاضرات في اللسانيات العامة.
3 – جوليا كريستيفا: Kristeva (1941 -)
ناقدة بلغارية الأصل والمولد، هاجرت إلى فرنسا وعملت أستاذة في جامعة السوربون. وضعت: أبحاث من أجل تحليل سيميائي، الحقيقة المجنونة، رحلة العلامات.
4 –  إميل بنفنست: Benveniste (1902- 1976)
عالم لسانيات فرنسي، قام بتدريس النحو المقارن في كوليج دو فرانس منذ عام 1937، ساهم في بناء التيار الوظيفي في اللسانيات البنيوية الفرنسية، من مؤلفاته: سيميولوجيا اللغة (1961).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها