لم تَكُن في الحسبان!

أحمد الوارث


صباح اليوم الموعود استيقظتُ باكراً على وقع خطى ثقيلة في الزقاق الذي تطل عليه نافذة الغرفة. واصلت الاستماع إليها، وأنا أفكر في القادم، حتى نسيت أمرها. لم أكن قط خائفاً من الموت لكني كنت مرعوباً مما قد يسبقه، مزعوجاً جراء التفكير في مجريات حياتي الماضية، ذات الصلة بما أنا فيه، والتي بقدر ما أحببتها لما منحني ربي من منح عظيمة، بقدر ما كرهت الغباء الذي كان يمنعني من صنع قرارتي، حتى إن أحد الحكماء أخبرني أن معظم الذين يتعرضون لما أصبت به في حلقي سببه، بنسب كبيرة، ابتلاع الخيبات تلو الخيبات، وكأني أعاقَب على إيماني المفرط بأن الخير يغلب الشر، وأن الطيبوبة أكرم. وهل تبت عن خطيئة السكوت؟ أبداً إذْ فضلت التكتم عما أعاني منه أيضاً، رحمة بأعصابهم؛ هكذا ظننت، وهكذا تربيت، مذ وعيت، حتى إن والدتي كانت تقول لي دوماً: لعل رزقك في لين قلبك، دون أن أسألها يوماً عن المعنى.
 

ظللت أزور الأطباء شهراً بعد شهر، في صمت مطبق، وأترقب بفزع رهيب نتائج التحاليل الطبية، وكل ما يتطلب التشخيص، كان هذا دأبي نهاراً، فإذا حل الليل تكورت كما تفعل القطة بالقرب مني؛ هي نائمة وأنا أعد الثواني.

لما اتخذت القرار بإجراء العملية، ألحت الطبيبة على ضرورة حضور أفراد من عائلتي، مستعملة عبارة بليغة :(الدنيا والزمن)، دون أن تدري أنها إنما زادت من مخاوفي؛ لأني لم أخبر أحداً سوى صديق لي، وواحدة أخرى طالما وصفتني بكل العمر لم تحرك ساكناً.

قضيت الليلة في تلك الغرفة ببيته، ومنها خرجنا في اتجاه المصحة؛ كنت كلما اقتربت السيارة من المكان ازدادت شراسة الاحتمالات المخيفة، حتى إذا خطوت الخطوة الأولى في اتجاه الباب الكبير، وجدتني في مأزق حقيقي. وكم أحسست بالشفقة على نفسي، وهي تمشي وإياي، وحدنا، في اتجاه ما يشبه المقصلة. أحاول أن أتضرع بالصبر واستجداء العزائم المتبقية فأبتسم. نعم، أبتسم ابتسامة الشعور بالإحباط لأن من حسبتهم يشعرون بأحزاني في ابتسامتي خذلوني. نعم، ونعم، شعرت بغصة لم أفلح بهدوئي المعهود في التقليل من مرارتها.

بعد خمس ساعات ظللت خلالها غائباً عن نفسي الناطقة وحسي وعقلي، ثم ساعات وساعات بت خلالها نائماً أحسست كأني تعرضت لصعقة. فتحت عيني على فضاء كئيب رغم أنه واسع؛ فتقدم نحوي ممرضان يهنئاني بالسلامة. ابتسم أكبرهما لما نظرت إليه وقال: كنت شجاعاً يا أستاذ. الحمد لله على نعمة الدواء والنسيان.

بدأت أسترجع شعوري بالحياة، وجدت جفني متورمتين، ويدي ورجلي كأنهما مكبلتان. رمقني أحد الممرضين وفهم أني أريد الذهاب إلى الحمام فهمس في أذني: اصبر قليلاً لدينا زوار. ثم شرع وصاحبه في تغيير فراش النوم فاخر نظيف. فرحت لأجل نفسي، فالفراش القديم كان ملطخاً بالدم وبقايا الألم. بعد هنيهة، حضر رجل يظهر من هيئته أن له مكانةً بين القوم كبيرة. تفحص الجرح، طمأنني وغادر. بعده رحل الجميع وتغيرت ملامح الغرفة نفسها. آه يا ربي. النفاق حاضر حتى بين ملائكة الرحمة... ولأن فمي مقفل، كنت أسمع في داخلي صرخة لا يسمعها أحد؛ أنادي ببكاء لا يراه أحد: الرحمة يا ناس، الرحمة.. إنني أتشبث بالحياة فقط لأنني لم أمت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها