
عرفت الرواية التونسية تراكماً في عدد المسارد المنجزة وبشكل متفاوت، هناك تجارب تمتح من التراث السردي العربي مثل "النخاس" لصلاح بوجاه وتجارب روائية أخرى قامت على التجريب من خلال عملية البناء الفني للرواية، خصوصاً طريقة السرد مثل رواية "المشرط" لكمال الرياحي، في حين عمدت بعض الروايات إلى تَذْويت الكتابة بجعل الذات الكاتبة محور العمل الروائي مثل "حنة" لمحمد الباردي، وانطلاقاً من هذه الأسماء والتجارب المتعددة الاتجاهات والأشكال نلتقي بماهر عبدالرحمان الذي يعتبر من الأصوات الإعلامية العربية التي راكمت العديد من المنجزات في هذا المجال، ناهيك عن تجربته الروائية، التي أثمرت مؤخراً رواية صدرت عن دار الكتاب بتونس العاصمة، واختار لها من العناوين" ثنائية عين الحمام"، تقع في 453 صفحة من القطع المتوسط، وتشتمل على جزأين، الأول موسوم بـ"شجرة التين الأول"، والثاني "كلارينات شماتلوخ".
والمقبل على الدفة الأولى للرواية يقف على عنوانها المركزي باعتباره مستهلاً وميثاقاً أولياً بين المؤلف والمتلقي، وحسب "شارل غريفل"، فهو تسمية للنص وتعييناً لمحتواه ووضعاً له بعين الاعتبار، وبالنسبة لعنوان رواية "ثنائية عين الحمام"، يقرأ القارئ جملة اسمية "ثنائية عين الحمام" التي تتكون من لفظة ثنائية وهي اسم مؤنَّث منسوب إلى ثُناء يطلق على ظاهرة الازدواج، في حين تحيل "عين الحمام" على "الهوارية" المدينة الساحلية الجبلية التونسية المعروفة بولاية نابل.
وعليه، يكون عنوان الرواية، قد برمج القارئ لتلقي جزأين، وكثير من الثنائيات الضدية التي تحبل بها من قبيل: الفضاء الأوروبي الألماني والفضاء التونسي، البحر واليابسة، الجنون والعقل، الهدوء والاضطراب، القدامة والحداثة، الكرامة والقوادة، وغيرها من العوالم المتباعدة.

هكذا، تسرد رواية "ثنائية عين الحمام" تفاصيل الحياة مع المهجر والجنون والحب والأعطاب الاجتماعية والسياسية والبحر بدقّة شديدة وماهرة، في هذا الفضاء المهجري الألماني والمائي "عين الحمام" تنطلق أحداث الرواية بين الحاضر والماضي ويتحرك تونسيون وأجانب: رابح الصياد ومليكة المومس، وخليفة وزوجته الألمانية كاترين ووالدها "شماتلوخ"، وزبيدة وكابوشا المنحرف المضارب بالأسماك والشنتي المهرب والجويني وطليبة المجنون.
سردية البحر
تمتدّ علاقة الرواية والبحر في المتن الروائي العالمي والعربي، وثمة أكثر من رواية كان البحر فضاءها الواسع وموضوعها الملهم1، ونستحضر رواية «عمال البحر» لفيكتور هيغو، «جزيرة الكنوز» للكاتب الاسكتنلدي روبير لويس ستيفنسون، - و"بحار غريق" لغابرييل ماركيز، ورواية «الشيخ والبحر» للأميركي إرنست همنغواي وغيرها، كذلك الروائيون العرب فتح البحر شهيتهم، وعلى رأسهم حنا مينه، كما أغرت الرواية التونسية ونذكر على سبيل المثال "البحر ينشر ألواحه" لمحمد صالح الجابري، "شط الأرواح" لآمنة الرميلي، و"ثنائية عين الأحلام" للإعلامي والروائي ماهر عبدالرحمان.
وعليه، للبحر في هذه الرواية مكانة ملفتة ومجال واسع، ولا يمكن أن نتخيل البحر إلا في "ثنائية عين الحمام" فهو لصيق بها وهي مرتبطة به، فمن خلاله تتجسد وحدة الأثر وتتشكل ملامح الرواية، وبالنظر إلى البحر في فصول الرواية وجدناه مكاناً يعج بمجموعة من الأنشطة المتنوعة والمتضاربة، أنشطة تعكس نمط ساكنة "عين الحمام" مهما كانت أعمارها واختياراتها ومواقعها الاجتماعية، فهو مصدر للرزق الشريف وأيضاً مصدر:
• للألم والكراهية وبات حرقة موجعة، فهو من رزأ الأم في ابنها "بسام" وهيج فيها مشاعر السخط "يا الله... جفف مياه هذا البحر، يا الله... هذا البحر يجلب المصائب ويحرق أكباد الأمهات" [ص: 131].
• للاستنزاف والأطماع الأجنبية باستغلالهم لثرواته: "يا أخي، هؤلاء الأوروبيون يتدخلون حتى في قوتنا وما نأكل وما لا نأكل؟ بالله عليك، هل سيفرغ البحر في عين الحمام"؟ [ص: 120].
• للمضاربة والغش والتهريب والتنافس غير الشريف كما يتداول لدى "كابوشا" و"الجويني" ومافيا البحر: "المافيات لا يخلو منها بر ولا بحر، ولكل طريقته في التحيل والنهب" [ص: 385].
• للرشاوي والعلاقات الوسائطية والزبونية، نقرأ في الصفحة 314 مثلاً: "أن تحك جيبك وتخرج منه مالاً".
• للتلوث بتواطؤ مع السلطة وأرباب المعامل: "اتهم المحتجون الوالي بإعطاء الإذن لأصحاب المصانع بإلقاء فضلات مياههم في البحر حتى ينفسوا عن خزاناتهم" [ص: 319]، ثم مصدر للهدوء والمتعة ويتجلى ذلك في رحلة الصيد التي اصحب خلالها "خليفة"، "رابح" و"الزومبا".
سردية الحب
لا تكاد تخلو رواية عربية من تيمة الحب، "ولعل أهم الأعمال الروائية وأبرزها عالمياً وعربياً تلك التي احتفت بتيمة الحب كقيمة إنسانية فسربلت حيوات الشخوص بهالة من التوهج والبهاء أحياناً والشجن والحزن الدفين أحياناً أخرى" ترى الروائية المغربية اسمهان الزعيم.
وبخصوص حضور الحب في رواية "ثنائية عين الحمام"، نشير إلى أنه يتمثل في الكثير من العلاقات التي تشابكت من خلالها كثير من الشخصيات وسنتوقف هنا من خلالها على العلاقات التي يحفل بها المحكي في الرواية:
• الأولى تتعلق بالعلاقة التي تربط "رابح" بـ"مليكة".
• الثانية تجسدها علاقة "خليفة" و"كاترين"، وقبلها "آية".
• الثالثة تتمثل في علاقة "فيلهالم شماتلوخ" وزوجته.
• "طليبية" وزوجته الألمانية "ماتليدا"
ولا يكاد يخلو حضور الحب في هذه النماذج من التزام ولحظات إيروتيكية وسلطة للأعراف في مجتمع لا يرحم "مليكة ورابح"، ومن هشاشة وحنين ومزاجية وعدم القدرة على الصمود في وجه العواصف والمعيقات "خليفة" و"كاترين"، ثم من وفاء والتزام بهذا الميثاق الوجداني الغليظ كما هو الحال في علاقة "طليبية" و"ماتليدا" رفيقة النضال.
سردية العنف
بداية، دعونا نتفق أن العنف سلوك عدواني ومأساة إنسانية خالصة و"لا يتلاءم وإنسانية الإنسان"2، إلى درجة أنه طغى بشكل لا يمكن تصوره، وإذا عدنا لرواية ماهر عبدالرحمان سنجدها تتناول ظاهرة الإرهاب والعنف، وسنقف على هذه الظاهرة كما يلي:
• العنف الجسدي الذي تعرضت له مليكة من قوادها: "وعقب آخر لقاء جمعها برابح وأصدقائه الطلبة لحقها إلى شقتها وضربها حتى فقدت وعيها، فتركها على الأرض وخرج" [ص: 58].
• قتل "كابوشا" للعجوز الإيطالي المثلي بقصد الاستيلاء على أمواله: "كان يكسب بعض المال من مصاحبة السياح المثليين وأنه تعرف على العجوز الإيطالي وأصبح يزوره بين الحين والآخر في بيته بمقابل، كان العجوز يضع أمواله في خزانة داخل إحدى الغرف، فطمع كابوشا في الاستيلاء عليها كاملة، وتسلح بسكين وقتل العجوز ثم فر" [ص: 166].
• العنف الذي يمكن حصره في بوتقة الغريزة ويجسده الاعتداء الجنسي في حق "فرط" من قبل معلمه "بريك المشاي" حين كان تلميذاً وفق لعبة مغشوشة وماكرة.
• العنف الذي تعرض له "طليبية" الذي انتهى به إلى الجنون بعد خروجه من دهاليز المعتقل وتعود أسبابه إلى انتمائه السياسي.
• العنف الرمزي كما يبدو من خلال عنصرية واستعلاء صهر خليفة الألماني "فيلهالم شماتلوخ".
• العنف الوحشي واللاإنساني المؤدي إلى الموت، وتعرضت له "مليكة" بتحريض من "كابوشا" من قبل أذنابه ومريديه: "تدفق الدم فجأة في رأسه، فهاجمها بالسكين وشق بطنها وهو يكبّر" [ص: 170].
• عنف المهجر الذي تفاقم لدى "خليفة" بالعجز، عندما لم يقدر على تحقيق التلاؤم بينه والمجتمع الألماني.
ومن خلال هذه النماذج لتجليات العنف بكل أشكاله وأنواعه، تكون رواية "ثنائية عين الحمام" حريصة على متابعة تحولات ومتغيرات الحياة بكل ما تنطوي عليه من شراسة وحيوية – من الحيوان– للقيم الإنسانية والكونية، ومن ظواهر مرضية تجسدها ظاهرة الإرهاب التي أمست تهدد الإنسانية ككل.
في التفاعل الملفوظي والنصي
يعتبر الحوار طريقة لتبادل الكلام بين متحاورين أو أكثر حول موضوع ما، بغاية الوصول إلى الحقيقة بوجهات نظر مختلفة. ولا شك أن الحوار من التقنيات الهامة والشائعة في العمل الروائي حتى إن هناك الكثير من الروائيين من جعله العنصر الرئيسي في الخطاب السردي.
وعليه، يشغل الحوار في هذا النص حيزاً واسعاً يتمظهر في أنماط عديدة، فهناك الحوار الخارجي الحجاجي ونمثل له بحوارات "خليفة مع رابح وكاترين وفيلهالم شماتلوخ"، من خلال الدفاع عن موقف معين تفنيداً أو تأكيداً، ثم الحوار الداخلي المتمثل في حديث "خليفة" إلى نفسه حين يتفاقم الحنين والشوق إلى "كاتلين".
وقد يجمع الحوار إلى جانب اللغة الفصيحة الصيغ الشفوية التي تجرح نقاوة اللغة المؤسساتية: "انشويت يا أخيتي في كبدي، انشويت وناري حرّى" [ص: 150].
كما تتفاعل في رواية "ثنائية عين الحمام" جملة من النصوص التي تمتح من الخطاب الرسائلي الإلكتروني والخطاب الديني والتاريخي والأدبي مما "أفضى إلى تنويع السياقات الحكائية وصيغها، بشكل يجعل انفتاح الرواية على الممكنات الأدبية خصيصة نصية تستدعيها مواصفات السرد وأبعاده"3.
وهكذا، يحضر الخطاب الرسائلي مقترنا بالغياب ويستدعي القرب والحضور والحنين والشوق وتسجده الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين "كاتلين" و"خليفة".
وبخصوص الخطاب الديني تمتح الرواية من الحقل الديني، بغاية تحويلها إلى حوافز سردية دون المساس بقدسيتها من قبيل:
"اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا".
{الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، ومن أصدق من الله حديثا}.
أما الخطاب التاريخي، فيتمثل في بعض المحطات التاريخية التي يستحضرها المحكي الروائي من أحداث متنوعة، ليعتمد السرد الاسترجاعي بالحفر في التاريخ المحلي التونسي، وكذا بالعودة إلى أحداث الحرب العالمية الثانية: "آه.. بدأ زحف قوات الحلفاء من الجزائر" [ص: 196]، مما حقق التشويق في الرواية.
ثم الخطاب الأدبي عبر استحضار الأغنية الشعبية بغاية ترصيع النسيج الروائي، ومن ثمة اصطياد القارئ للتفاعل مع المحكي.
"وصمت خليفة للحظات وعيناه لا تفارقان الطائر المحلق في الفضاء، ثم أطلق عقيرته بالغناء: "ياطير البرني يا عالي، ومعلّي في سماء
إذا ريت الزين الغالي، قلّه قلبي معاك
يا طير البرني يا عالي قله توا قلبي وين
من بعد قداش جرالي، يا غايب ع العين" [ص: 266].
تركيب
تعتبر رواية "ثنائية عين الحمام" للروائي التونسي ماهر عبد الرحمان، إضافة روائية ماتعة وجادة لملامستها مجموعة من التيمات التي تقارب البحر والحب والعنف، وهي تيمات تنتصر لما هو إنساني، اعتمدت مجموعة من التقنيات المتنوعة من قبيل الاستعانة بالخطاب الديني والتاريخي والرسائلي، واستعانتها ببنية تستوعب كل عناصر العمل من عتبات أيقونية ولغوية ومقدمة وفصول وخاتمة.
هوامش: 1. " ثنائية عين الحمام "، ماهر عبد الرحمان، دار الكتاب، الطبعة الأولى، 2022 ┇ 2. مصطفى العارف، العنف والذاكرة والصفح، الفاصلة للنشر، الطبعة الأولى، 2021 ص: 25. ┇ 3. أحمد فرشوخ، جمالية النص الروائي مقاربة تحليلية لرواية لعبة النسيان دار الأمان، 1996، ص: 112.