هل مات المُؤلِّفُ حَقّاً؟

د. أيوب أبو دية

ملخص البحث

ينطلق البحث من المدرسة البنيوية التي أسّس دعائمها فرديناند دي سوسور في بدايات القرن العشرين، والتي رأت في اللغة نظاماً من العلاقات المتشابكة لا مجرد كلمات منفصلة. وقد انتقل هذا المنهج إلى ميادين أخرى مثل الأنثروبولوجيا -العلم الذي يدرس الإنسان في كليته: من حيث تطوره البيولوجي، وثقافاته، ولغاته، وسلوكه الاجتماعي، وأنماط تفكيره، عبر الأزمنة والمجتمعات المختلفة- مع كلود ليفي-شتراوس، والنقد الأدبي مع رولاند بارت، والتحليل النفسي مع جاك لاكان. غير أن البنيوية سرعان ما واجهت انتقادات أدت إلى ظهور فلسفة "ما بعد البنيوية" مع ميشيل فوكو وجاك دريدا، حيث لم يعد الهدف اكتشاف بنية ثابتة بل كشف تعددية المعاني وتداخل الخطابات.
 

في هذا السياق ظهرت فكرة "موت المؤلف" عند رولاند بارت، الذي دعا إلى تحرير النص من سلطة نوايا كاتبه، وإفساح المجال للقارئ ليصبح هو صانع المعنى. أما ميشيل فوكو فقد ذهب أبعد من ذلك في نصه "ما المؤلف"؟ إذْ رأى أن المؤلف ليس شخصاً مادياً من لحم ودم؛ إنما "وظيفة خطابية" يحددها السياق التاريخي والبيئة وأنظمة السلطة والمعرفة. فالنص ليس انعكاساً لذات فردية بل هو نتاج بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية تحدد ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله.

يبرهن البحث على أن النصوص الأدبية والفكرية لا تُفهم إلا في ضوء بيئتها التاريخية. فقصائد المتنبي، مثلاً، ليست مجرد تعبير عن عبقرية شخصية، بل تعكس ثقافة الفروسية والصراع السياسي في العصر العباسي. كذلك، روايات دوستويفسكي وتولستوي لا يمكن فصلها عن تحولات روسيا في القرن التاسع عشر. بل إن النصوص الدينية الكبرى نفسها خضعت لقراءات متباينة: ففي الإسلام نجد تفسيرات المعتزلة والسلفية والصوفية للنص، وكل منها يبرز معنى مختلفًا تبعاً لموقعه من الصراع الفكري والسياسي. وفي اليهودية والمسيحية أيضًا، إذْ خضعت النصوص لتأويلات متناقضة؛ من القبالة الباطنية إلى التفسيرات الحرفية، ومن الإصلاح البروتستانتي إلى المسيحية الصهيونية. الأمثلة ذاتها تنطبق على البوذية والتاوية والزردشتية والمثرية، حيث تتغير معاني النصوص من جيل لآخر بحسب حاجات القارئ وظروفه.

ينتهي البحث إلى أن المعنى لا يُختزل في قصد المؤلف، بل يولد في لحظة القراءة ويتشكل بتفاعل النص مع القارئ وظروفه الاجتماعية والسياسية. فالنصوص ليست كيانات جامدة بل فضاءات مفتوحة قابلة للتجدد. وبذلك يصبح "موت المؤلف" شرطاً لولادة نص حيّ قادر على أن يعيش في كل عصر بقراءات جديدة. هذه الرؤية تحرر النص من سلطة الفرد وتمنحه حياة دائمة تتجاوز الزمن والذات، وتجعل القراءة فعلًا خلاقًا لا يقل أهمية عن الكتابة نفسها.


مقدمة عن المدرسة البنيوية Structuralism

انطلقت البنيوية في بدايات القرن العشرين من أعمال عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسور، الذي وضع أساس فكرة أن اللغة نظام من العلاقات، لا مجرد كلمات منفصلة. سرعان ما انتقل هذا المنهج إلى مجالات أخرى مثل الأنثروبولوجيا مع كلود ليفي-شتراوس، والنقد الأدبي مع رولاند بارت، والتحليل النفسي مع جاك لاكان، حيث صار النص أو الظاهرة الاجتماعية يُفهم بوصفه بنية متكاملة تحكمها قوانين داخلية.

لكن البنيوية لم تَسلم من النقد، فظهرت فلسفة "ما بعد البنيوية" مع ميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهما، الذين شككوا في ثبات "البنية"، وأكدوا على تعدد المعاني وتداخل الخطابات والسلطة. وهكذا تحولت البنيوية من مدرسة تسعى إلى "الكشف عن البنى العميقة" إلى تيار نقدي مفتوح على التفكيك، حيث لم يعد الهدف الوصول إلى نظام ثابت، بل فهم تعدد المعاني وتغيرها.

اليوم، أثرت البنيوية وما بعد البنيوية في دراسات الفلسفة، والدراسات الأدبية، واللسانيات، وحتى في العلوم الاجتماعية والسياسية والنفسية والفنية، بحيث لم تعد البنيوية "مدرسة" مغلقة بل إرثاً فكرياً حيّاً يطال نشاطات الإنسان الفكرية والوجدانية المتنوعة كافة.
 

موت المؤلف وولادة المعنى:

رولاند بارت (Roland Barthes، 1915–1980) ناقد أدبي وفيلسوف فرنسي بارز، يُعد من أهم رواد البنيوية وما بعد البنيوية. ركّز على تحليل اللغة والنصوص باعتبارها أنظمة من العلامات (السيميولوجيا). من أشهر أفكاره مقولة "موت المؤلف" التي دعا فيها إلى تحرير النص من سلطة نوايا كاتبه، وجعل المعنى مفتوحاً أمام القارئ وتعدد القراءات.

أما ميشيل فوكو (Michel Foucault، 1926-1984) فهو فيلسوف ومؤرخ أفكار فرنسي، اهتم بدراسة علاقة السلطة بالمعرفة وكيف تشكّل الخطابات المجتمعية الأفراد. من أبرز كتبه "المراقبة والمعاقبة" و"تاريخ الجنسانية". وفي مقاله الشهير "ما المؤلف"؟ وسّع طرح رولاند رولاند بارت بالقول إن المؤلف ليس شخصاً بل "وظيفة خطابية" تحددها أنظمة السلطة والمعرفة في زمن معين.

وهكذا قام رولاند بارت وميشيل فوكو بالإشترك في نقد فكرة "المؤلف"، لكن مقاربتهما كانت مختلفة. رولاند بارت رأى أن النصوص يجب أن تُقرأ بعيداً عن نوايا الكاتب، وأن "موت المؤلف" شرط لتحرر النص وفتح باب التأويل أمام القارئ. بينما ميشيل فوكو ذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا أن "المؤلف" ليس شخصاً؛ وإنما "وظيفة خطابية" تنتجها أنظمة المعرفة والسلطة في سياق تاريخي محدد، أي أن النصوص ليست مجرد نتاج فردي، بل وليدة خطاب اجتماعي وسياسي ومعرفي.

باختصار، سعى رولاند بارت إلى تحرير النص من سلطة الكاتب ليمنح القارئ سلطة جديدة للكشف عن معنى النص، أما ميشيل فوكو فقد أزال الكاتب من أساسه وجذوره الذاتية ليضع النص ضمن شبكة السلطة والمعرفة والبيئة التي أنتجته.

ذهب ميشيل فوكو في نصه "ما المؤلف" أبعد من رولاند بارت، حين أكّد أن "المؤلف" ليس شخصاً حقيقياً بل وظيفة خطابية تظهر في أنظمة معينة من السلطة والمعرفة، وهو ما نراه في أغلبية المقالات التي نقرأها يومياً في الصحف. فالكاتب، بالنسبة لميشيل فوكو، ليس "المصدر" بل "نتيجة" لبنية معرفية أنتجته. فهو لا يقول ما يشاء، بل ما كان يُسمح أن يقال في منظومات الخطاب في زمنه.

طرح ميشيل فوكو في محاضرته الشهيرة "ما المؤلف"؟ (1969) سؤالاً جوهرياً حول وظيفة المؤلف ودوره في إنتاج النصوص والمعاني. وقد جاء نصه امتداداً ومجاوزةً لمقولة رولاند بارت عن "موت المؤلف" (1967)، التي أعلنت أنّ النص لا ينبغي أن يُقرأ باعتباره انعكاساً لذات الكاتب أو نواياه، بل باعتباره فضاءً مفتوحاً تتشابك فيه أصوات وثقافات متعددة، ليصبح قارئ النص هو مَن يمنح النص معناه.

وذهب ميشيل فوكو إلى أن "المؤلف" ليس شخصاً مادياً أو له هُوية ثابتة، بل "وظيفة خطابية" مرتبطة بأنظمة السلطة والمعرفة. فالكاتب لا يكتب ما يشاء، بل ما تسمح به منظومات الخطاب التي ينتمي إليها في زمنه. فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم نصوص الفلاسفة في العصور الوسطى خارج إطار الكنيسة وسلطتها، تماماً كما لا يمكن فهم نصوص التنوير بمعزل عن سياق الصراع مع الاستبداد الديني والسياسي، وتماماً كما لا يمكن فهم مقالاتنا اليومية اليوم بمعزل عن هواجس الحكومات المتنوعة. فالكاتب إذنْ ليس "المصدر" الحقيقي للمعنى، بل نتاج شبكة من القوى الاجتماعية والثقافية المسيطرة.

وِفق هذا التصور؛ فإن النّص يعكس البيئة التي نشأ فيها الكاتب أو النص أكثر مما يعكس ذاتية مؤلفه ومنطويات نصه وخلجات نفسه. فعلى سبيل المثال، روايات تولستوي أو دوستويفسكي لا يمكن قراءتها دون ربطها بالتحولات الاجتماعية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا خلال القرن التاسع عشر، حيث كان يحتدم الصراع بين الأرستقراطية وتيار الإصلاحات الحديثة.

وأعمال أخرى من الأدب العالمي تكشف عن هذه الحقيقة، فرواية "1984" لجورج أورويل، مثلًا، قُرئت بداية كإدانة للستالينية، لكنها اليوم تُقرأ كتحذير من أنظمة المراقبة الرقمية الحديثة. وقصائد المتنبي لم تعد فقط مرآة لعبقريته الفردية، بل وثائق عن ثقافة الفروسية والسياسة في العصر العباسي. وبالمثل، لا يمكن قراءة دوستويفسكي وتولستوي خارج تحولات روسيا الاجتماعية في القرن التاسع عشر.

وقصائد المتنبي ليست مجرد تعبير عن عبقرية فردية، بل هي مرآة لثقافة الفروسية والسياسة العباسية وصراعاتها في تلك الأزمنة، حيث يتحول الشاعر إلى لسان حال قيم المجتمع وطموحات طبقاته. بهذا المعنى؛ فإن النصوص التي نقرأها في أيامنا هذه تترسّب فيها البيئة التاريخية والفكرية لعصر المؤلف، والتي أسهمت في صناعتها أكثر مما أسهمت فيها إرادة الكاتب الفردية.

أما بالنسبة لمعنى ما نقرأ، أي ما يصل إلينا من فهم لنص المؤلف، فيرى كلاً من رولاند بارت وميشيل فوكو أن المعنى ليس ثابتًا عند الكاتب، بل يتشكل من خلال القارئ وثقافته ونفسيته وآيديولوجيته. فالقارئ هو من يعيد بناء النص وفق خلفياته الثقافية والمعرفية الذاتية في ذلك الزمان والمكان، ويمنحه حياة جديدة تختلف عن ما أراده صاحب النص. فالنص الذي قرأه جمهور القرن التاسع عشر لا يُفهم بالطريقة ذاتها في القرن الحادي والعشرين.

والتجرِبة مع النصوص الدينية والفكرية الكبرى في اليهودية والمسيحية تُظهر بوضوح أن النص لا يُقرأ أبداً بمعزل عن بيئة قارئه وصراعات عصره، بل يُعاد تفسيره باستمرار وفق حاجات الجماعة المؤمنة وظروفها. ففي اليهودية نرى أن التوراة والتلمود خضعا لقراءات متعددة، فالفريسيون فتحوا باب التأويل الواسع عبر "التقليد الشفوي"، بينما تمسك الصدوقيون بالحرفية النصية. وفي التقاليد الشتاتية لليهود برزت قراءات للتوراة تبرر التكيف مع المجتمعات المضيفة، مقابل قراءات أخرى متشددة في أوساط جماعات مضطهدة رأت في النص وعداً بالخلاص القريب. ولاحقاً، أعادت الحركة الصهيونية قراءة النصوص التوراتية في ضوء مشروعها السياسي، فحمّلتها دلالات قومية لم تكن مطروحة في القرون السابقة.

الأمثلة من اليهودية والمسيحية أيضاً توضح بجلاء أن النص لا يحمل معنى واحداً ثابتاً، بل يولد معانيه في لحظة القراءة وظروفها التاريخية والفكرية، ففي اليهودية قُرئت نصوص التوراة بطرق متباينة: فالتقليد الرباني (الحاخامي) فسّر الشريعة بشكل تفصيلي لإدارة الحياة اليومية، بينما جاءت القبالة (Kabbalah) لتقرأ النصوص نفسها بوصفها رموزاً لأسرار كونية وروحية. هذا التباين جعل النص الواحد يُستخدم أحياناً لإرساء نظام قانوني صارم، وأحياناً أخرى لتغذية تصوف باطني.

ومثال آخر يأتي من قصة الخروج (Exodus) في العهد القديم التي تروي خروج العبرانيين من مصر؛ ففي بعض القراءات تمثل حدثاً تاريخياً لقوم إسرائيل، بينما في القراءات الحديثة "خاصة عند حركات التحرر في أميركا اللاتينية وأفريقيا" صارت رمزاً للتحرر من الظلم والعبودية، أي أنها اتخذت معنىً سياسياً اجتماعياً معاصراً.

وفي المسيحية، نجد تعددية تأويلية مشابهة، ففي القرون الأولى، كان الصراع بين التيار الأصيل الرمزي الذي قرأ النصوص على أنها استعارات روحية، وبين التيار الأنطاكي الحرفي الذي شدّد على التفسير المباشر. وخلال الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، فسّر مارتن لوثر النصوص الإنجيلية بوصفها ترفض سلطة الكنيسة الكاثوليكية، فخرج بقراءة ثورية غيّرت مسار أوروبا، بينما كانت الكنيسة ترى في النص ذاته أساساً لسلطتها. وحتى اليوم، نجد في الولايات المتحدة المسيحية الصهيونية تقرأ "سفر الرؤيا" كمقدمة لوقائع سياسية معاصرة، في حين تراه كنائس أخرى نصاً رمزياً يتحدث عن صراع الخير والشر في التاريخ الروحي.

هذه الأمثلة، من اليهودية والمسيحية والإسلام، تُظهر أن النصوص ليست كيانات مغلقة، بل هي مرايا متعددة التقعرات والتحديبات تعكس حاجات ولواعج ومخاوف القارئ في زمنه، كما تعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية التي كانت سائدة في تلك الفترة الزمنية.

وبناء عليه، النصوص ليست أصواتاً محايدة، بل تُعاد ولادتها في كل قراءة. فالنص القرآني مثلًا قرأه المعتزلة باعتباره نصاً يعقلَن العالم، وقرأه الصوفي كطريق للباطن والاتحاد مع الله، وقرأه السلفي كمنظومة أحكام ملزمة من عصور سالفة وراشدة. ومثل ذلك حصل في التوراة والإنجيل والبوذية والتاوية والزردشتية والمثرية؛ الأمر الذي يؤكد أن النص لا يعكس رأي المؤلف بقدر ما يعكس بيئة القارئ، وصراعه، وأفق توقعاته وطموحاته.

ونصوص السوترا البوذية قرئت بشكل مختلف بين مدارس "الثيرافادا" التي ركزت على الانضباط الفردي للوصول إلى النيرفانا، و"المهايانا" التي أعادت صياغة النصوص نفسها لتؤكد دور "البوديساتفا" في إنقاذ الآخرين، فتحولت المعاني من خلاص فردي إلى خلاص جماعي وروح من التضامن المجتمعي.

وفي التاوية، كتاب "الداو دي جينغ" لمؤلفه "لاو تسو" قُرئ في الصين القديمة كحكمة سياسية حول الحكم باللاعنف والبساطة، بينما قرأه المتصوفة التاويون كتعاليم باطنية عن الانسجام مع "الداو" (الطريق الكوني الأزلي). أما في القراءات الغربية الحديثة، فقد فُهم كنص بيئي يدعو إلى العيش المتناغم مع الطبيعة بعناصرها كافة.

وفي الزردشتية الفارسية الأصل نجد أن نصوص "الأفستا" قد جرى تأويلها دينياً كصراع بين "أهورامزدا" (إله الخير) و"أنغرا ماينيو" (روح الشر)، أي كصراع بين الخير والشر، لكن في القراءات الفلسفية الحديثة عُدّت رمزاً لصراع الخير والشر داخل النفس البشرية والمجتمع، أي أنها غدت قراءة وجودية وأخلاقية أكثر منها أسطورية.

وفي ديانة "ميثرا" في إيران القديمة، ثم في روما لاحقاً، قرئت طقوسها السرية في الأصل كتجسيد للعهد والوفاء بين المحاربين، لكن الباحثين المحدثين أعادوا قراءتها بوصفها تمثيلاً لدورة الطبيعة (ولادة الشمس وموتها) وإعادة إحياء الزراعة، أي أنها غدت رمزاً كونياً لمسألتي الحياة والموت.

لذلك، فإن تنوّع القراءات في البوذية، والتاوية، والزردشتية، والمثرية، يُظهر بجلاء أن النصوص ليست كيانات جامدة، بل فضاءات مفتوحة يعيد كل جيل أو جماعة تشكيلها وفق حاجاته وأسئلته. فالنص البوذي تحوّل من خلاص فردي إلى مشروع تضامني، والكتاب التاوي من حكمة سياسية إلى فلسفة بيئية، والأفستا الزردشتية من أسطورة كونية إلى تجربة أخلاقية داخلية، والمثرية من طقس عسكري إلى رمز لدورة الطبيعة.

إن هذه الأمثلة، إلى جانب الأمثلة السابقة من المسيحية واليهودية والإسلام، تؤكد أن النص يولد عبر القراءة في الزمكان (الزمان والمكان)، حيث لا يمكن للإنسان أن يتخيل مكاناً بلا زمان، أو زماناً بلا مكان، وأن معنى النص لا يُختزل في قصد المؤلف أو لحظة التدوين، بل يتجدد باستمرار عبر عيون القرّاء وصراعاتهم الفكرية والاجتماعية.

 

خاتمة:

بحثت هذه المقالة في إشكالية "موت المؤلف" كما طرحها رولاند بارت وطوّرها ميشيل فوكو، وما يترتب عليها من إعادة تعريف العلاقة بين النص والمؤلف والقارئ. فالبنيوية، التي انطلقت من علم اللغة عند فرديناند دي سوسور، وضعت حجر الأساس لفكرة أن اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير فردية، بل نظام من العلاقات والاختلافات. ومن هذا المنطلق توسعت البنيوية لتشمل النقد الأدبي والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي، حيث لم يعد النص يُقرأ كنتاج عبقريّة فرد، بل كبنية رمزية تعبّر عن ثقافة ومجتمع كاملين.

جاء رولاند بارت ليعلن أن النص ليس انعكاساً لنية المؤلف، بل فضاءً مفتوحاً للمعاني، وأن القارئ هو من يمنح النص حياته. ففي مقاله الشهير "موت المؤلف"، شدد رولاند بارت على أن سلطة المؤلف يجب أن تُلغى، وأن لحظة الكتابة الحقيقية هي لحظة القراءة، حيث تتشكل معانٍ جديدة باستمرار. هذا الموقف يقوّض الاعتقاد التقليدي بأن النصوص تحمل "معنى ثابتًا" مقصوداً من الكاتب، ويعطي حرية أكبر للقارئ في تأويل النص وربطه بزمانه ومجتمعه.

أما ميشيل فوكو فقد عمّق هذا الطرح في نصه "ما المؤلف"؟ إذْ أكد أن المؤلف ليس فرداً مادياً له سيادة مطلقة على نصه، بل هو وظيفة خطابية مرتبطة بأنظمة السلطة والمعرفة في عصره. فالمؤلف يُنتَج داخل شبكة اجتماعية وثقافية تحدد ما يمكن قوله وما يُمنع قوله، وبالتالي لا يكون "المصدر الأول" للنص بقدر ما هو نتاج لمجموعة خطابات تاريخية. فالنص، بهذا المعنى، لا يُفهم كإبداع ذاتي مستقل؛ وإنما كبنية تحمل آثار السياقات التي نشأت فيها.

ينتهي البحث إلى أن النصوص ليست كيانات جامدة ولا مجرد انعكاسات لإرادة مؤلفها، بل هي فضاءات دينامية تولد معاني جديدة في كل قراءة. فموت المؤلف لا يعني موت الإبداع، بل تحرير النص من سلطة فردية، وفتح الباب أمام تعددية تأويلية تجعل النصوص حيّة على الدوام. ومن هنا، يصبح دور القارئ خلاقاً، يتجاوز التلقي السلبي إلى المشاركة في إنتاج المعنى. فالمعنى ليس نهائياً أو واحداً، بل متحركاً ومتعدداً، ومرتبطاً بالزمان والمكان والخطاب الذي يُقرأ من خلاله.

خلاصة هذا البحث أن موت المؤلف هو ولادة النص، وأن استقلالية النص عن نوايا كاتبه لا تنتقص من قيمته، بل تضاعفها، إذْ تجعله قادراً على التفاعل مع أجيال وثقافات مختلفة، وتؤكد أن الحقيقة والمعنى ليسا ثابتين بل يُصنعان باستمرار في أفق القراءة، وأن المعنى في أي نص لا يظهر المعنى نفسه الذي قصده المؤلف، بل ما يراه القارئ في إطار زماني ومكاني وثقافي متغيّر. فمن خلال ميشيل فوكو ورولاند بارت نفهم أن "المؤلف" لم يعد مرجعاً مطلقاً للمعنى، بل مجرد وظيفة أنتجتها الخطابات. والنص لا يعكس إرادة ذاتية للمؤلف بل يترسّب فيه السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي نشأ فيه، بينما يظلّ المعنى مفتوحاً ومتجدّداً مع كل قارئ. ولعل هذه الرؤية في النهاية يمكنها أن تُحرّر النصوص من هيمنة الفرد، ومن "الأنا" العالية عند المؤلفين والكتّاب ونزعتهم النرجسية، وتمنح النص حياة دائمة لا تنتهي بموت مؤلفها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها