رسائل هاربة!

عبدالكريم بن محمد النملة

أتلفها الشوق والانتظار والأمل المنطفئ، ضجّت كلماتها في أقصى نفْسها وتدافعتْ لتثب إلى صفحات دفترها، تكتّمها حيناً وتتغافل أحياناً، وفي أوقات عديدة تمحّصها وتهذّب عوارها واندفاعها، يقسو عليها حين يصدّ عنها، تشكو لنفْسها وتدمع، في القلم منجاة من اكتظاظ الروح وعنتها وتأجّجها، وعندما قرّر المغادرة لهب قلبها واحترق، استدعتْ أمسياته الخادرة، فصّلت سويعاتهما، حتى إذا صارت كلّ ساعة تحمل قلباً وشوقاً، أرهقتها بالأسئلة لتستدرّ أجوبة تخلد إليها وتصفو، كلّ ذلك لم يجعلها تسلو وتنسى، فكتبت رسائل عديدة، رسائل شوق وعتاب ووله واشتياق وانتظار. قبل أن تشرع في الكتابة كانت تستدعيه في خيالها، تجلس أمامه في مقهى ما، تبادله النظرات ثم تركّز نظرها على عينيه، تتدفّق الكلمات وتتلقّفها بسرعة واضطراب ومحبة، وكلما أوغل في الغياب كان لأثر مشاعر كلماتها وقعٌ عميق، مائة رسالة أو تزيد، نسّقتها وراجعتها، واقتبست من كتب المشاعر والحب ما يرفد جُملتها حتى اكتملت قصيدتها، وشعرت بأنّ صدرها قد تخفّف من فيض مشاعر كظّته، وربما كان فارغاً لتجربة أخرى!

هذا المساء ستكون مدعوّة في دار النشر لحفل التوقيع، غلاف اختارت بياضه ليصوّر نقاءها وخطوط حُمر تستدعي لوعة الفراق وصخبه، في تمام الساعة التاسعة حيث ازدحمت ممرّات معرض الكتاب، سارت وقد نهض قلبها بشوق إلى كتابها الذي تلامس ورقه للمرّة الأولى، كان مقعدها وكانت طاولتها وكانت نسخ كتابها، قبل أن تلقي التحية على صاحب دار النشر تناولت نسخة من كتابها، ومدّت إليها نظرات عجلى مليئة بشوق واكتناز، ودّت لو هربت بنسخة واحدة فقط من كتابها وعاشت العمر تردّده على نفسها تحت ظل شجرة نائية.

اصطف زوّار الدار، ارتدتْ كمّامة ورديّة اللون، وشرعت في التوقيع على نسخ القرّاء.

هل كان حرفاً متمرّداً أم كلمة لم تُطق البقاء في صفحات كتابها، هل هو هاجسه الماكث أبداً في حنايا قلبها، بصُرتْ به، عيناه تقطران خجلاً، لم ترتبك كما كان يأمل، لم تضع قلمها، لم تفزّ من مكانها، شخص بصرها للحظات في عينيه، في مكمن كلماتها، قرأت سطور كتابها في سواد عينيه في بياض صفحاتها، صمت الزمن وتوقفت حركة زوّار المعرض، جمدت الأشياء، قامت من مكانها، هربت بنسخة من كتابها لتعيش معه تحت ظل شجرة في مكان بعيد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها