أدب الأطفال.. بين الانتماء والإنماء! 

سامي محمود طه


يَكادُ يكون أدب الأطفال في مقدمة الآداب التي عرفتها البشرية، فهو من المكونات الأولى للتربية والسلوك داخل الأسرة.. وكما لكل فعل إنساني مراحل تطور وانتقال تصاعدي؛ فإن لأدب الطفل مساراً متدرجاً، وخطاً بيانياً متنامياً.

 

إحاطة معرفية:

تُرجع الدراسات نشأة هذا الأدب الجميل إلى القرن الثامن عشر مع كتابي (كاجانوس العملاق) للكاتب بورمان، و(كتاب الجيب الجميل الصغير) للكاتب نيوبري، وتقسم نشأته وتطوره إلى ثلاثة أطوار، هي: المرحلة الأولى مع نهايات القرن السابع عشر، وصدور "حكاية أمي الإوزة" للشاعر الفرنسي تشارلز بيرو، ولاحقاً ترجمة أنطوان جالان لحكايات "ألف ليلة وليلة"، ثم ظهور كتاب "إميل" لجان جاك روسو الذي كان أول من درس أدب الطفل كدراسة علمية.

والطور الثاني مع دراسات علمية ومنهجية حول الطفل ككيان مستقل جسدت نضجاً حقيقياً لاتجاه أدبي مكتوب وواضح. والطور الثالث أو كما اعتبره باحثون كثر عصراً ذهبياً، بدأ مع منتصف القرن العشرين، وموجة الكتب والمجلات والأعمال الفنية الموجهة للأطفال ترسيخاً حقيقياً لجنس أدبي متكامل.

هذه الأطوار الثلاثة قد تبدو منطقية إذا اقتصر الحديث على الأدب الطفلي المكتوب، إلا أن السبق في ذلك كان لأدب الطفل الشفاهي متمثلاً بالحكايات الشعبية التي تسم كل مجتمع بخصائص معينة، فالأدب الموجه للأطفال بدأ عبر لسانيات الجدات والأجداد وأصحاب التجارب في المجتمع، وهذا ما يمكن اعتباره مرحلة شفاهية لأدب الطفل.
 

في رؤية تعريفية لأدب الطفل:

هو القصص والحكايا والأشعار والأشكال التعبيرية التي تتناسب مع مراحل الطفولة، فتحدث أثراً في البناء المعرفي والتربوي لديهم، وتساهم في اتساع آفاق الخيال الخلاق.
وهو من الركائز الأساسية في بناء شخصية الطفل وتشكيل هويته الثقافية.

ولأدب الطفل وظائف متعددة وقدر كبير من الأهمية، وستقتصر الإحاطة هنا على وظيفتين محددتين:

الوظيفة الأولى: تعزيز الانتماء والتمسك بالهوية

الهوية أساس بناء إنساني، وعلى الأدباء الذين يكتبون للأطفال أن يولوا أهمية كبرى لغرس مشاعر الانتماء إلى الوطن بتاريخه وجغرافيته وخصوصيته، وأن تحضر في كتاباتهم قصص التراث الإنساني والقيم المجتمعية، فعندما يتعرف الطفل إلى تاريخ وطنه ومجتمعه ستتعمق صلته بجذوره، وسيتماهى مع المعايير الأخلاقية التي سيتعرف إليها من خلال سِيَر الأبطال وحكايات الكرم والجود والمروءة والصدق.

وفي عالمنا العربي أدباء كثر قدموا نصوصاً أدبية ماتعة للأطفال، واعتمدوا الإرث التاريخي الحضاري في كتاباتهم.. ومن أوائل هؤلاء الأدباء كامل الكيلاني الذي ألف للأطفال حكاية السندباد البحري، وقدم "سيرة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم" ميسرة متكاملة. وأحمد شوقي في مجموعة من قصائده، حيث يقول:
لنا الهَرمُ الذي صَحِبَ الزَّمانا
ومِنْ حدثانهِ أخذَ الأمانا
ونحن بنوا السنا العالي نَمَانَا
أوائلُ علموا الأمم الرُّقيا 

وفي كل قطر عربي أسماء أدباء سخروا قيم العروبة والعادات والتقاليد لأدب الطفل.. وفي التاريخ العربي أسماء وحكايات كثيرة يمكن أن تكون مادة غناء للكتابات الموجهة للطفل، وسير بطولات تتألق في عالم العطاء الإنساني الثري.

وعلى الكتاب أيضاً الإضاءة على اللغة العربية والتمسك بها، وإتاحة الاطلاع على كنوزها، وتعميق محبتها.

الوظيفة الثانية: الإنماء المعرفي والمجتمعي

أدب الأطفال ليس نصوصاً ترفيهية فحسب؛ إنه دعامة في تطوير مهارات الطفل وتوسيع مداركه العقلية وفتح آفاق الخيال المنتج. تساهم الكتابة للطفل في استثارة الأسئلة لديه، ودفعه إلى التفكير الخلاق المبدع.. وهنا لا بد من مراعاة المراحل العمرية للطفولة ومخاطبة الأطفال بما يتفق مع نموهم المعرفي والمجتمعي.

وتنقسم مراحل الطفولة إلى:

◅ الطفولة المبكرة: وتمتد من السنة الثانية وحتى الخامسة من العمر، والكتابة الموجهة لهذه المرحلة العمرية تبنى في كثير من جوانبها على أنسنة الحيوانات والأشياء، وتقديم حكايات تربوية من خلال هذه الأنسنة، إلى جانب استحضار شخصيات من البيئة والمجتمع لتوثيق الصلة بين الطفل وأسرته، كالحديث عن الأب وتفانيه، وحنان الأم، والعلاقة الطيبة بالجيران، والتهيئة لدخول المدرسة وحب العلم. وللصور والرسومات التوضيحية الجميلة دور مشوق ومحفز على اختزان هذه الكتابات في الذاكرة الطفلية.

◅ الطفولة المتوسطة: وتشمل الأطفال بين سن السادسة والحادية عشرة.. ويمكن للأدب الطفلي في هذه المرحلة العمرية أن يقدم القيم الأخلاقية والتربوية، ويفتح مدارك الأطفال لتلقي العلوم المختلفة في قالب أدبي بسيط، ويثري المفردات اللغوية، ويتيح للأطفال تلقي قواعد علمية ومعرفية وبيئية.

ويستقبل الأطفال في هذه المرحلة أدباً كالقصص الواقعية التي تتعلق بجوانب حياتهم ومشاعرهم وعلاقاتهم مع الآخرين، وقصصاً خيالية وتاريخية، قصائد ونصوصاً مسرحية مشهدية تحاكي اهتماماتهم.

◅ مرحلة الطفولة العليا: وتمتد بين سن الثانية عشرة والثامنة عشرة، وهنا يمكن للأديب أن يقدم وجبة معرفية كاملة للأطفال، وأن يجعلهم مشاركين في الإبداع والتأليف من خلال نصوص مفتوحة، وعلى الكاتب أن يراعي النضج المعرفي فلا يقدم نصوصاً ساذجةً للأطفال.

وفي عصرنا الحالي يجب التركيز على قضايا العلم وتطوره، من خلال التركيز على الخيال العلمي، والتأسيس لفكر اكتشافي ابتكاري من خلال طرح قضايا معرفية إشكالية، كالتحديات التي يواجهها الإنسان على صعيد الظواهر الطبيعية، أو الحاجة إلى مزيد من الاختراعات لتلبية الاحتياجات الإنسانية في عصر التسارع العلمي، أو التعامل الفعّال الإيجابي مع التطورات المذهلة في علم الذكاء الاصطناعي، والدفع باتجاه مشاركة فاعلة من الأطفال في إيجاد حلول ومشاركة في هذه القضايا.

ولأدب الأطفال في هذه المرحلة خصوصية بالغة الدقة، تتمثل في مراعاة بناء الشخصية واستقلاليتها. ويمكن أن يأتي أدب الطفل هنا من خلال تنوع الأجناس الأدبية كالقصة والشعر، والمسرح وغير ذلك.
 

العلاقة بين الانتماء والإنماء في أدب الطفل:

لا بُدّ من خلق توازن بين البُعدين: الانتماء والإنماء، والأدب الطفلي يؤدي وظائفه حين يدمج القيم الثقافية والهوية مع محتوى معرفي متنوع، وبخاصة في العصر العلمي المذهل الحالي والعولمة.

تتكامل الرؤى المقدمة في أدب الطفل بين الانتماء والإنماء، ففي الوقت الذي نكرس خلاله الهوية والإرث التاريخي والحضاري، وننمي التمسك بالقيم والعادات المجتمعية يتم التركيز على الجوانب المعرفية والجوانب التخيلية الابتكارية والنقد البناء، وصولا إلى طفل على استعداد تام للانخراط في البناء الإنساني المنتج.

ومع إسدال الستارة على هذا البحث: العناية بأدب الطفل مهمة نبيلة، يجب أن تتكامل في أدائها المؤسسات التربوية والثقافية والرسمية؛ لأن أطفالنا مستقبلنا ومستقبل أوطاننا، والاستثمار في الطفولة هو الأساس المتين والحصين للحفاظ على المجتمعات والأوطان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها