أولا : تعنى الفلسفة إلى حد كبير بالتصدي لأسئلة لم نعرف بعد طريقة نظامية مرضية للإجابة عنها.
ثانيا : تتصف الأسئلة الفلسفية بما أود تسميتها بالأسئلة "النطاقية" كونها تميل إلى معالجة نطاق واسع من الظواهر، ولا تكتفي بالتصدي لأسئلة أحادية محددة.
ثالثا : تجسد الأسئلة الفلسفية نموذجا للأسئلة التي تعالج قضايا المفاهيم ، أي أنها تعرض للمفاهيم والعلاقة بين هذه المفاهيم من جهة، وبين العالم الذي تمثله من جهة ثانية.
قد تبدو هذه الأسئلة أكثر وضوحا مع الأمثلة التالية فالسؤال: " ما سبب الإصابة بمرض السرطان؟" يعد على سبيل المثال سؤالا علميا لا فلسفيا في حين أن السؤال " ما طبيعة العلاقة بين السبب والمسبب؟" سؤال فلسفي وليس علميا. كما أن السؤال " كم عدد الناقلات العصبية؟" سؤال علمي في حين أن سؤالا مثل
" ما العلاقة بين العقل والجسم؟" باق إلى حد كبير سؤالا فلسفيا.
وهكذا فإن الأسئلة الفلسفية أيّا كانت تبقى غير قابلة لأن تحل بمجرد التطبيق البسيط للأساليب التجريبية أو الرياضية، فهي أسئلة تختص بنطاقات و أطر واسعة وتشتمل على قضايا ذات طابع مفاهيمي.
تمثل التطورات العلمية الهامة في بعض الأحيان إسهامات جوهرية تنضاف لمجالي العلم والفلسفة لأنها تنضوي على تغييرات في هيكلية ونطاق الأسئلة ولأنها تستدعي منا أيضا مراجعة المفاهيم . وتعتبر نسبية أنشتاين في القرن العشرين نموذجا واضحا في هذا الصدد.
تميل الفلسفة بحكم اهتمامها بالأسئلة النطاقية والأسئلة التي لا نعرف إجابتها على نحو نظامي إلى الاحتفاظ بعلاقة غريبة مميزة من العلوم الطبيعية، ذلك أننا ما أن نتمكن من مراجعة وصياغة سؤال فلسفي على نحو يمكننا من إيجاد طريقة نظامية للإجابة عنه حتى يفقد هذا السؤال ماهيته الفلسفية ويتحول إلى سؤال علمي.
وهو الأمر الذي نعرف أنه انسحب بشكل واضح على ما عرف بمسألة الحياة. فقد اعتبر السؤال عن كيفية تحول المادة الجامدة إلى مادة حية سؤالا فلسفيا فيما سبق، لكننا ما أن نقترب من فهم الجانب الجزيئي البيولوجي لآلية الحياة حتى يتوقف هذا السؤال عن أن يكون سؤالا فلسفيا، ويغدو عوضا عن ذلك مسألة علمية حقيقية ثابتة.
لقد بات من الصعب علينا اليوم أن نستعيد الطرح المكثف الذي نوقشت به هذه القضية سابقا. وهذا الأمر لا يعني بحال انتصار القائلين بالمذهب الآلي وانهزام القائلين بالمذهب الحيوي، إنما يعكس حقيقة توصلنا إلى قدر وافرمن المعرفة التي عمّقت مفهومنا البيولوجي لآلية الحياة ناهيك عن مفهومنا الوراثي.
آمل أن ينطبق هذا الأمر في المستقبل على مسألة الوعي وعلاقتها بالعمليات الدماغية. أعرف أنه لازال الكثير منا حتى كتابة هذه المقالة يعتبر السؤال عن مسألة الوعي سؤالا فلسفيا، لكنني أعتقد أننا نقترب بناء على التطورات الحديثة في مجال علم الأعصاب البيولوجي، وعبر مسار النقد الفلسفي للتصنيفات الذهنية والجسدية التقليدية من إيجاد طريقة علمية نظامية للإجابة على هذا السؤال. وفي هذه الحال يصبح هذا السؤال سؤالا علميا. تماما، كما تحول سؤال الحياة من سؤال فلسفي إلى سؤال علمي.
هذه الملامح والسمات الخاصة بالأسئلة الفلسفية، أعني كونها تميل من جهة لأن تكون أسئلة نطاقية، وكونها لا تميل من جهة ثانية للانصياع للبحث النظامي التجريبي، تفسر لنا لماذا يبدو العلم صحيحا دائما وتبدو الفلسفة خاطئة أبدا. إنه بمجرد أن نتوصل إلى طريقة نظامية للإجابة على سؤال ما يجمع على صحة إجابته كل البحاثة المبرزين في المجال المختص نتوقف عن نعته أو تسميته سؤالا فلسفيا، ونشرع بالمقابل في تسميته سؤالا علميا. هذه الفروق والاختلافات لا تعني الخروج بنتيجة مفادها أن كل شيء جائز و ممكن في الفلسفة، بمعنى أن المرء يستطيع أن يقول أي شيء وأن يخمن التخمينات و التوقعات التي يريد. على العكس تماما، فهي تستوجب أن نكون أكثر دقة واهتماما في تحليلاتنا الفلسفية ذلك لأننا نفتقد إلى توفر أساليب رياضية وتجريبية ثابتة تمكننا من اختبار المسائل الفلسفية.
قد يبدو مما ذكرته سابقا أن الفلسفة ستختفي في نهاية المطاف كحقل ومجال دراسي إذا وجدنا طريقة علمية نظامية للإجابة على كافة الأسئلة الفلسفية. أعتقد أن هذا الأمر كان ولازال حلم الفلاسفة منذ عهد الإغريق الأوائل لكننا في الواقع لم نحقق نجاحات كبيرة للتخلص من الفلسفة بالإجابة على كافة المسائل الفلسفية.
كان ثمة اعتقاد واسع لدى الجيل السابق بأنه قد تم التوصل مؤخرا من خلال جهود فتجنشتاين وأوستن وغيرهم من الفلاسفة اللغويين إلى أساليب نظامية لحل المشاكل الفلسفية. وقد بدا لبعض الفلاسفة أننا سنكون قادرين على الإجابة على كافة الأسئلة في المستقبل القريب. وهكذا كان أوستن مثلا يعتقد أنه لم يتبق لنا سوى ألف سؤال بلا جواب، وأننا سنتمكن عبر البحث النظامي من الإجابة عليها جميعا. لا أعتقد الآن أنه بيننا من يصدق مثل هذا القول فالأمر لا يتعدى مجموعة بسيطة من المسائل الفلسفية التي أصبحت قابلة للحلول العلمية والرياضية واللغوية مما ورثناه عن القرون السابقة منذ عهد الإغريق. أعتقد أن السؤال عن طبيعة الحياة قد تمت إجابته في نهاية الأمر ولم يعد سؤالا فلسفيا. أتمنى أن ينسحب هذا الأمر في القرن الحادي والعشرين على ما تسمى بمشكلة العقل- الجسم. ومع ذلك هناك أسئلة لازمتنا منذ زمن فلاسفة اليونان الأوائل بصفتها أسئلة فلسفية مثل : ما طبيعة العدالة؟ ما المجتمع الجيد؟ ما الغاية الصحيحة للحياة الإنسانية؟ ما طبيعة اللغة والمعنى؟ ما طبيعة الحقيقة؟
في تقديري إن تسعين بالمئة من المسائل أو الإشكالات الفلسفية التي تركها لنا الفلاسفة الإغريق بعدها باقية معنا، ونحن لم نجد بعد طريقة علمية أو رياضية أو لغوية لإجابتها، علاوة على ظهور مسائل وإشكالات فلسفية جديدة نشأت عنها فروع فلسفية حديثة. لم يكن ممكنا أن يكون الإغريق قد عرفوا نمط المسائل الفلسفية التي عرفناها في التوصل إلى تأويلات فلسفية صحيحة لنتائج ميكانيكا الكم وفق نظرية جودل أو مجموعة المفارقات النظرية. علاوة على أنهم لم يعرفوا مواضيع من مثل فلسفة اللغة أو فلسفة العقل بالطريقة التي ننظر بها إليهما اليوم. يبدو أنه حتى مع نهاية القرن الواحد والعشرين ستبقى كثير من المسائل والإشكالات الفلسفية قائمة.
لقد حاولت أن أناقش فيما سبق السمات العامة للفلسفة كمجال للبحث وكيف أنها تختلف عن العلم. وقبل أن أبدي توقعاتي حول آفاق الفلسفة أريد أن أعرض في إيجاز لبعض السمات الخاصة بفلسفة القرن العشرين، ذلك أننا إذا أردنا أن نختبر إمكانات الفلسفة في القرن الواحد والعشرين علينا أن نتعرف أولا على محط أقدامنا الذي نريد أن نقفز منه إلى القرن الواحد والعشرين .
تتسم الفلسفة في القرن العشرين بملامح كثيرة خاصة لكن الملمح البارز الفاصل بين فلسفة القرن العشرين والحقب المبكرة يكمن في الدور الرئيسي الذي لعبه المنطق واللغة في فلسفة القرن العشرين نهجا و موضوعا. بدأ هذا العصر الجديد فعليا في العام 1879 عندما عمل أستاذ في الرياضيات ذو شهرة محدودة بجامعة جينا يدعى جوتلوب فريجه على تطوير المنطق وابتداع ما عرف بفلسفة اللغة. لقد سادت نظرية القياس المنطقي
لأرسطو المنطق حتى العام 1879 م بل وهيمنت عليه للحد الذي قاد للاعتقاد بأن نظرية القياس المنطقي ربما تساوقت في مدها وشموليتها مع المنطق ذاته بصفته حقلا ومجالا للدراسة. بل حتى أن فيلسوفا عظيما مثل كانت قال باكتمال المنطق جوهريا في القرن الثامن عشر. وهكذا لم يكن ثمة ما يضاف إلى المنطق باكتمال نظرية القياس المنطقي إلا أن فريجه استطاع تطوير المنطق بابتكاره لما عرف بحساب الإسناد الحملي أو المنطق الكمي أي منطق التعابير الكمية الرياضية.
لقد بدا المنطق مع فريجه أكثر قدرة وفعالية مما هو عليه منطق أرسطو التقليدي وهو الآن يشغل حيزا كبيرا من حياتنا المعاصرة حتى بتنا نجهل تقريبا سمات التطوير النوعي التي تحققت في هذا الصدد. فنحن على سبيل المثال نتعامل الآن مع حساب الإسناد الحملي المستخدم في علم الكمبيوتر باعتباره من المسلمات ولعله من الصعوبة بمكان تصور إمكانية تطبيق نظرية الحساب الحديثة دون المنطق الكمي ونظرية المجموعة. كان فريجة قد ابتكر موضوع فلسفة اللغة على نحو غير مقصود تقريبا خلال مسار تطويره للمنطق\.
اهتم الفلاسفة السابقون منذ الإغريق الأوائل باللغة لكن الاتجاه العام كان ماثلا في التعامل مع اللغة وفق نظرة تسلم جدلا بمكنتها وصحتها، وبموجب هذه النظرة تم العمل على بعض القضايا الفلسفية الهامة. وقد كانت التصورات السائدة حول اللغة والمعنى على سبيل المثال عند الأمبيريقيين البريطانيين لوك و بيركيلي وهيوم تتمثل في كون الكلمات تستمد معانيها من كونها تجسد أفكارا في الذهن وأن الأفكار الماثلة في ذهننا تجسد أغراضا وأشياء في العالم من خلال عملية المشابهة والمماثلة. فكلمة (كرسي) على سبيل المثال تجسد عندي صورة ذهنية للكراسي وأن هذه الصورة الذهنية تجسد كراس حقيقية في العالم الخارجي من خلال عملية التمثيل . وأن الصورة الذهنية تبدو وكأنها كراس حقيقية. لقد عرض فريجه بالنقاش - أيضا فيتجنشتا ين في مرحلة متأخرة- لهذه الفكرة التي تبين بطلانها وعمل على تقديم مقاربة أكثر ثراء رغم أنها غير تامة ألا وهي فلسفة اللغة. لم يهتم أحد لطرح فريجه عدا بعض الرياضيين الأوروبيين وفيلسوف إنجليزي ناشئ هو بيرتراند رسل.
لقد بدأ الأسلوب المميز لنشاط الفلسفة في القرن العشرين مع مقالة رسل الشهيرة المنشورة في كتابه العقل سنة 1905 والمعنونة ( دلالة الألفاظ على مسمياتها) والتي طبقت أساليب فريجه على مشاكل خاصة بتحليل الجمل في اللغة الاعتيادية. لقد استهجن فريجه اللغة الاعتيادية التي كان يراها غير متماسكة وتناقض نفسها، لذا اعتقد بأننا سنكون أفضل حالا مع لغة منطقية متكاملة كتلك التي ابتكرها. لم يكن رسل أيضا من أنصار اللغة الاعتيادية لكنه كان يظن أنه بالإمكان إيضاح أشكال الغموض و التأثيرات الأخرى في اللغة الاعتيادية من خلال تحليل جمل اللغة الاعتيادية وفق الحساب الإسنادي.
أردت من وراء هذا النقاش إيضاح أن الفلسفة في القرن العشرين اتسمت بثلاث سمات جديدة نتيجة التطوير الذي أحدثه فريجه و رسل وتلميذه فيتجنشتاين بالإضافة إلى زميل رسل الفيلسوف جي. إي. مور.
أولا: استطاع منطق فريجه أن يمدنا بأساليب أكثر قوة وفعالية لتحليل العلاقات المنطقية ولنقاش المشاكل الفلسفية بشكل عام مما قدمه لنا فلاسفة الأجيال السابقة.
ثانيا: أصبح الانشغال بالتحليل الفلسفي للغة نفسها أمرا مركزيا، بل المسألة المركزية كما يقول البعض. ما العلاقة تحديدا بين اللغة والواقع؟ كيف يتأتى للكلمات أن تجسد الأشياء في العالم الخارجي؟ ما هي طبيعة الحقيقة والمرجع تحديدا؟
ثالثا: لم تعد اللغة مجرد موضوع للبحث الفلسفي، بل صار تحليل اللغة بمثابة أداة هامة للبحث في مجالات فلسفية أخرى. لهذا السبب نحن في حاجة للتفريق بين فلسفة اللغة و الفلسفة اللغوية.
تتناول فلسفة اللغة بعض السمات العامة في اللغة مثل الحقيقة والمعنى بينما تستخدم الفلسفة اللغوية أساليب التحليل اللغوي لحل المسائل أو المشاكل التقليدية.
وهكذا يتبين على سبيل المثال أن المشكلة التي ذكرتها سابقا المتعلقة بطبيعة العلاقة السببية قد تمت معالجتها من قبل فلاسفة القرن العشرين كمسألة لتحليل استخدام مفهوم السببية في العلم والحياة . ما المقصود تحديدا من قولنا أن( س ) تسبب في ظهور ( ص ) وهل بإمكاننا التوصل إلى تحليل العلاقة السببية بسمات أساسية أفضل؟. هذا الأمر لم يعتبره كثير من فلاسفة القرن العشرين تغييرا جذريا في الفلسفة، إنما مجرد محاولة لإيجاد نماذج وأطر تحليلية كانت موجودة أصلا في الفلسفة على نحو أكثر وضوحا ودقة. وهكذا فإن هيوم حاول تحليل مفهوم السببية باختبار الأفكار المتعلقة بالسببية في ذهنه. وكذلك فعل فيلسوف القرن العشرين مواصلا التحليل، لكنه عوضا عن أن يحلل الأفكار المتعلقة بالسببية في ذهنه أخذ يحلل اللغة التي نستخدمها في تقرير حقائق سببية حول العالم.
إنني لا أرغب في إعطاء انطباع مفاده أن الفلسفة أصبحت موضوعا موحدا. هناك الكثير من المدارس والأساليب والمقاربات في الفلسفة، وهذه الفلسفة التي وصفتها سابقا غالبا ما تعرف ( بالفلسفة التحليلية). إنها ليست الطريقة الوحيدة لمقاربة الفلسفة، لكنه ما من شك في أنها أصبحت الطريقة السائدة لمقاربة الفلسفة، والاتجاه الغالب في أبرز الجامعات في بريطانيا وأمريكيا وبعض البلدان الأخرى الناطقة بالإنجليزية . حتما هناك اتجاهات ومقاربات أخرى مثل الوجودية والظاهراتية . تعد الظاهراتية وما تبعها من مناهج فلسفية أكثر تأثيرا في بعض البلدان الأوروبية خاصة فرنسا.
ليس المقام هنا مقام شرح الفروق والاختلافات بين ما عرف بالفلسفة في القارة الأوروبية والفلسفة التحليلية، لكن أحد أبرز الاختلافات الهامة التي يتوخى هذا المقال إيضاحها هو أن الفلاسفة التحليليين أكثر اهتماما وانشغالا بالعلم، فهم يرون أن الفلسفة تهدف تحديدا للوصول إلى نمط الحقيقة الموضوعية الذي نجده في العلم. غير أنني من خلال معرفتي وتجربتي أجد الفلاسفة الأوروبيين- مع بعض الاستثناءات المعروفة- يميلون لاعتبار أن الفلسفة لا تشابه العلوم، وهي أقرب لأن تكون فرعا من الأدب أو أنها على الأقل أكثر التحاما بدراسة الأدب والنظريات الأدبية.
هناك سمة أخرى لفلسفة القرن العشرين ينبغي ذكرها هنا. لقد قلت أن الفلاسفة في القرن العشرين أظهروا تعلقا خاصا باللغة لكن دراسة اللغة كحقل مستقل شهدت تطورا وتحديثا هاما مع نعوم تشو مسكي وغيره منذ بداية أواخر الخمسينات. لقد كانت الإضافة الرئيسية ولازالت في طرح تشو مسكي تتعلق بتصوره لنحو اللغات الطبيعية. ما هي القواعد المحددة التي يستخدمها البشر لبناء جمل في اللغات الطبيعية المختلفة؟ وما هي القواعد المشتركة بين كل اللغات الطبيعية، قواعد" النحو الكوني" ؟ .
غير أن الفلاسفة كانوا دائما أكثر اهتماما بعلم الدلالة و علم البراجماتية أو التدواولية منهم بعلم النحو. ويُعنى علم الدلالة وفق التعريف السائد بتناول شروط الحقيقة في الجمل: أي تحت أي شروط تكون الجملة صادقة أم كاذبة؟ وأما علم البراجماتية فهو العلم الذي يعنى بدراسة استخدام الجمل في سياقها البشري الفعلي، كاستخدام الجمل لإعطاء الأوامر أو لتقرير حقائق أو إعطاء وعود... الخ
يبدو لكثير من فلاسفة اللغة -أنا من بينهم- أنه علينا السعي للتوصل لوجهة نظر موحدة فيما يخص نحو تشومسكي من خلال الأبحاث التي تواصلت في علمي الدلالة و البراجماتية. أعتقد أن هذا الجهد أثبت فشله وإخفاقه. ورغم أن تشومسكي استطاع أن يطور موضوع اللسانيات إلا أن النتائج الثابتة التي يمكن الاعتماد عليها عبر هذا التطوير ظلت وحتى نهاية هذا القرن غير واضحة لنا. أستطيع القول أنه لا توجد قاعدة واحدة بإمكان كل اللسانيين أو حتى السواد الأعظم منهم الاتفاق على كونها تصلح أن تكون قاعدة.
وصل التفاؤل في استخدام المنطق واللغة كأدوات جوهرية أولى للفلسفة أقصى مداه في منتصف القرن العشرين، تحديدا في العقود التي عقبت الحرب العالمية الثانية. وقد بدا لي بالفعل أن قدرا كبيرا من النجاح تحقق خلال تلك العقود. كان الكثير من التفاؤل والثقة بالنفس قد استمدا من الاعتقاد بالتوصل إلى تمييزين لسانيين:
أولا- التمييز بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية.
ثانيا- التمييز بين الأقوال الوصفية والأقوال التقييمية.
إذا قبلت هذين التمييزين في صيغتهما الخالصة- وهو الأمر الذي يقبله كثير من الفلاسفة- تبين لك كيف يبدو أنهما يعملان على تعريف طبيعة الفلسفة بل وتحديد برنامجها البحثي الخاص.
يتعلق التمييز الأول بالجمل التحليلية والجمل التركيبية أي أنه يميز بين الجمل من حيث كونها صادقة أو كاذبة بموجب التعريف كالجمل في المنطق والرياضيات وجمل الفهم المشترك التوتولوجية مثل:( كل العزاب غير متزوجين) وبين الجمل التي تصدق وتكذب بموجب حقيقتها في العالم الخارجي كالجمل في العلوم الطبيعية وكالجمل المتعلقة بحقائق محتملة الحدوث في العالم الخارجي مثل : ( كل العزاب يشربون الجعة ). وأما التمييز الثاني فيعنى بالتمييز بين الجمل الوصفية والجمل التقييمية، أي بين الجمل التي تصف أوضاعا في العالم الخارجي والتي تصدق وتكذب بموجب معناها اللفظي، وتلك التي تترجم مشاعرنا ومواقفنا وتقييماتنا والتي لا تخضع وفق النظرية لمبدأ الصدق والكذب. وللتدليل على الجملة الوصفية نمثل بقولنا:( حوادث جرائم العنف
ارتفعت في العقد الأخير ) ونمثل للجملة التقييمية بقولنا: ( من الخطأ أن يسلك المرء سلوكا إجراميا ). النمط الوصفي يشمل الجمل التحليلية والتركيبية.
وهكذا يتضح لنا أن من يقبلون بهذه النظرية يعتبرون الجمل في العلوم والرياضيات جملا وصفية لأنها تصف مسائل ذات حقيقة موضوعية، بينما يعتبرون الجمل في علم الأخلاق وعلم الجمال جملا تقييمية لأنها تستخدم للتعبير عن المشاعر والمواقف وتوجيه سلوكنا أكثر منها لتقرير حقائق.
ويرى هؤلاء الذين يقبلون بهذه التمييزات وهم يمثلون التيار السائد في العقود الوسطى من القرن العشرين أن هذه
التمييزات قد عرّفت طبيعة الفلسفة. ينشد الفلاسفة الحقيقة ولهذا السبب هم غير معنيين باتخاذ تقييمات من أي نوع. ليس عمل الفيلسوف أن يخبر الناس كيف يعيشون. لكن الحقائق الفلسفية ليست حقائق تركيبية محتملة من النمط الذي نجده في أي من العلوم الطبيعية. إنها بالضرورة حقائق تحليلية حول المفاهيم. فمهمة الفيلسوف كمهمة المنطقي والرياضي تماما تكمن في تقرير الحقائق التحليلية الضرورية. إنها حقائق مفاهيمية تفسر المفاهيم الفلسفية المحيرة مثل السببية والمعرفة والعدالة والحقيقة نفسها. لطالما تم فهم الفلسفة و تعريفها على أنها تحليل مفاهيمي، ولقد استمد الكثير من التفاؤل في العقود الوسطى من القرن العشرين إذ كان هناك اعتقاد راسخ بأنه قد صار للفلسفة حينئذ مشروع بحثي محكم التعريف، وأيضا أساليب ومناهج محكمة التعريف توصلها إلى النتائج.
لقد تضعضت الثقة الآن في هذه التمييزات . لم تعد اللغة تبدو سهلة ومنتظمة بحيث تمكننا من تقسيم الملفوظات فيها إلى هذه التصنيفات البسيطة من الجمل التحليلية والتركيبية والوصفية والتقييمية. وذلك راجع جزئيا لفقد الثقة في كفاية هذه التمييزات كما غاب التفاؤل العام إزاء إمكانية حل كل أو حتى أغلب المسائل والمشاكل الفلسفية من خلال استخدام أساليب ومناهج التحليل المفاهيمي. وكانت النتيجة أن غدت الفلسفة أقل ثقة بنفسها مما كانت عليه في الخمسينات والستينات، ولكنها باتت أكثر أهمية وجاذبية. ذلك لأن كل الأسئلة التي كان ينظر إليها على أساس أنها ليست أسئلة فلسفية حين كان التحليل اللغوي في أوجّه باتت اليوم أسئلة ممكنة، وهو الأمر الذي سأعرض له عاجلا. لكن في الوقت ذاته قلت الثقة في إمكانية الوصول إلى حلول حاسمة للمسائل الفلسفية التقليدية باستخدام أساليب التحليل اللغوي.
هناك أيضا تطور آخر هام في فلسفة القرن العشرين لست شخصيا واثقا منه، لكنه في النهاية قد يكون أهم نتائج فلسفة القرن العشرين. لقد استولى على الفلاسفة انشغال واحد عظيم طيلة ثلاثة قرون بعد ديكارت من منتصف القرن السابع عشر حتى أواخر القرن العشرين وهو معالجة قضايا ومشاكل المعرفة والإرتيابية. لقد جعل ديكارت من المعرفة- نظرية المعرفة- مركز اهتمام الفلسفة. لقد كان السؤال الأولى الأهم لديكارت هو ما هو الأساس والأرضية الراسخة التي يمكن أن نخلعها على مزاعمنا المعرفية في العلوم وفي مسائل الحس العام وفي الدين وفي الرياضيات ...الخ. وقد استشعر الفلاسفة اللاحقون لديكارت مثل لوك وبيركيلي وهيوم وليبينز وسبينوزا وكانت أن محاولة ديكارت للإجابة على الإرتيابية لم تكن كافية. غير أن مشكلة ديكارت ظلت أكثر وضوحا في أعمال هؤلاء. فقد اتخذ لوك على سبيل المثال من السؤال التالي سؤال الفلسفة الجوهري: ما طبيعة المعرفة البشرية وما مداها؟ . وانتهى الأمر بهيوم إلى صيغة متطرفة من الإرتيابية فاقت كل تصورات ديكارت نفسه. لكن هيوم شعر أنه بإمكاننا التعايش مع الإرتيابية من خلال تبنينا لموقف طبيعي كامل تجاه أنفسنا والعالم. علينا أن نقبل بمحدودية معرفتنا وأن ندرك أننا لا نعرف الكثير وإن كنا نمضي وكأننا على دراية واسعة رغم أننا لا نستطيع تقديم تبرير لافتراضاتنا حول العالم. لقد قرأ كانت هيوم وشعر بضعفه من خلال " وسنه الجزمي". وهكذا بذل كانت جهدا بطوليا للتغلب على ارتيابية أو شكوكية هيوم لكن جهده باء بالفشل كما أظن. لقد تمثل اهتمام فلاسفة القرن العشرين الأوائل في اللغة والمعنى وليس في المعرفة وتبريرها. كان سؤال ديكارت " كيف تعرف؟ " ثم عمل كل من مور و رسل فيما بعد على تغيير السؤال واستبداله بحيث أصبح "ماذا تعني؟ " ومع ذلك فقد كرس كل من رسل ومور وفتجنشتاين وأوستن جهدا فكريا كبيرا ساعين من خلاله للتغلب على الشكوكية مستخدمين أساليب لغوية. ورغم أن الجهد الأساسي لتحليلاتهم عزّز اللغة والمعنى إلا أن كثيرا من هذه التحليلات كانت تهدف لإيضاح وتبرير مفاهيم الحقيقة والدليل و المعرفة. أعتقد بل و آمل صادقا أن تكون هذه الحقبة قد وصلت إلى نهايتها. من الطبيعي أن لا يختفي الشيء في الفلسفة فجأة والى الأبد، لكنني أتصور من خلال تفسيري للمشهد الفكري الراهن وما آمل أن يكون عليه القرن القادم، أننا سنتخلى عن هاجس الشكوكية ونمضي قدما باتجاه فلسفة تتصف بقدر أكبر من السمات البناءة. لقد قاد هاجس نظرية المعرفة و هوسها الراسخ بالتغلب على الشكوكية إلى ظهور ملمح ثان في الفلسفة خلال القرون الثلاثة التي تلت عهد ديكارت. يربط كثير من الفلاسفة التقدم الحقيقي في الفلسفة بالاختزال. لكي نفهم ظاهرة ما ينبغي أن نختزلها إلى ظواهر أكثر بساطة. وهكذا فإن كثيرا من فلاسفة العقل الأمبيريقيين يعتقدون أن الطريقة الوحيدة لفهم حالات الذهن البشري هو اختزالها إلى سلوك (السلوكية). وعلى نحو مماثل يعتقد كثير من الفلاسفة أننا لكي نفهم الواقع الأمبريقي، علينا أن نختزله إلى خبرات حسية (الظاهراتية) . كانت النتيجة الطبيعية لهاجس نظرية المعرفة أن نرى حل إشكال الشكوكية متجسدا في الاختزال. وهكذا فإنني أرى أن خطأين سادا الفلسفة- آمل أن نكون قد تجاوزناهما الآن- هما الشكوكية والتوسع غير الصحيح للتيار الاختزالي.
لا أحسبني أتجشم المغالاة في تقدير أثر التحيز المعرفي على ممارسة الفلسفة قرابة أربعمائة سنة، ذلك أن السؤال المعرفي كان مركزيا حتى في المواضيع بعيدة الصلة بنظرية المعرفة. وقد كان هذا الأمر ظاهرا على نحو واضح في علم الأخلاق والفلسفة السياسية. قد تعتقد أن السؤال" كيف تعرف؟" لا يبدو بالغ الوضوح في مثل هذه المجالات، غير أنك ستجد في واقع الحال أن السؤال المركزي لعلم الأخلاق في هذه الحقبة كان " كيف يمكن أن تكون لنا معرفة موضوعية في علم الأخلاق؟". " كيف يكون لنا هذا النوع من اليقين المعرفي في أحكامنا الأخلاقية التي نكد من أجل الوصول إليها في أحكامنا العلمية؟". يبدو أنه لم يكن من الممكن أن يكون هناك سؤال جوهري في علم الأخلاق عند آبائنا وأجدادنا الفلاسفة بالقدر الذي كان عليه هذا السؤال. لقد كانت نتيجة التحليل الفلسفي لخطاب علم الأخلاق شكوكية بالفعل لدى من يقبلون بالتمييز بين الوصفي والقيمي. وبحسب وجهة النظر هذه، يستحيل أن تكون هناك معرفة موضوعية في علم الأخلاق، لأن الجمل الأخلاقية لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة موضوعيا. الفلسفة السياسية أيضا أصابها تحيز معرفي فجاءت صيغة السؤال مرة أخرى على النحو ذاته " كيف لنا أن نتأكد، وكيف تكون لنا موضوعية معرفية إزاء أحكامنا ومزاعم واجباتنا السياسية؟" وهكذا كما تأثر علم الأخلاق وقعت الفلسفة السياسية في شلل مماثل بسبب من الشكوكية ذاتها. لكن الفلسفة السياسية تطورت وسرت فيها الحياة مجددا مع نشر كتاب " نظرية العدالة " لجون راولز وهو الكتاب الذي سأعرض له لاحقا.
ليس ثمة مجال كان التحيز المعرفي صارخا فيه أكثر من فلسفة اللغة. لم يكن لدى فريجة قلق معرفي حيال المعنى، لكن لاحقيه في القرن العشرين أحالوا الأسئلة الخاصة بالمعنى إلى أسئلة خاصة بمعرفة المعنى. وقد كان هذا الخطأ المتوارث إلى أيامنا بمثابة كارثة في تصوري. هناك اتجاه وحركة كاملة في فلسفة اللغة تعتقد أن السؤال المركزي هو: ما نوع الدليل الذي يمتلكه المستمع حين يعزو المعنى إلى المتكلم في لغة ما؟
ما نوع الدليل الذي أمتلكه للقول بأنك حين تلفظ كلمة " أرنب " مثلا، تعني ما أعنيه أنا بالكلمة " أرنب "؟
ولم تؤخذ الإجابة- التي أراها شخصيا خاطئة- على هذا السؤال على أساس أنها مجرد سمة معرفية حول الطريقة التي نقرر بها الأسئلة الخاصة بالمعنى ، بل أخذت على أساس أنها بمثابة مفتاح لفهم طبيعة المعنى.
المعنى يُحَلّل بالكامل عبر أنواع الدليل الذي يمكن أن يمتلكه المستمع حول ما يعنيه المتكلم. لقد ظن كثير من الفلاسفة المبرزين أن السؤال المعرفي قد منحنا بالفعل جوابا للسؤال الأنطولوجي، أي أن الحقائق المتعلقة بالمعنى قد تشكلت بالكامل عبر الدليل الذي يمكن أن يكون لدينا حول المعنى.
أعتقد أن هذه وجهة نظر خاطئة سواء كانت في فلسفة اللغة أم في العلوم والفلسفة عموما. الأمر يبدو وكأن المعرفة في الطبيعة – الفيزياء - يفترض بها أن تكون معرفة تختص كليا بالتجارب والقراءات القياسية، طالما أننا نستخدم التجارب والقراءات القياسية لاختبار معرفتنا الطبيعية بالعالم. على نحو مماثل يتجلى الخطأ في افتراض أن الحقائق الخاصة بالمعنى حقائق خاصة بالظروف المحيطة التي يتلفظ الناس فيها بالتعابير، طالما أننا نستخدم الظروف المحيطة التي نتلفظ فيها بالتعابير كدليل للحكم عم يعنون. أعتقد أن هذا التحيز المعرفي يمثل خطأ عصرنا الفلسفي ، وهو أمرسأعرض له بمزيد من النقاش في الجزء اللاحق. إنني أهدف فكريا إلى جعل ما أقترحه هنا يتعين في ضرورة تركنا الشكوكية والإختزالية. أعتقد أنه لا يمكننا التوصل إلى تحليل بنّاء مرض للغة والعقل والمجتمع والعقلانية والعدالة السياسية وغيرها حتى نهجر هوسنا بفكرة أن افتراضاتنا حول كل ما نقوم به من بحث و تحقيق يقدم تبريرا لإمكانية المعرفة. وأن التقدم الحقيقي في المعرفة الفلسفية عموما يتطلب تقليص واختزال المستوى الأعلى من الظاهرة إلى نزعة معرفية أوسع حيال الظواهر في الأساس. مقاربة الشكوكية ليست محاولة لدحضها من خلالها، إنما للتغلب عليها وتجاوزها على نحو يمكننا من المضي قدما بغية التعامل مع المسائل والمشاكل الراهنة. وكما قلت سابقا، فأنا لست واثقا من كوننا قد توصلنا إلى ذلك فعلا، لكنني واثق من أنني أخوض على صعيد فكري غمرات هذه المرحلة. وبحسب تفسيري للمشهد الفلسفي المعاصر أرى أن الشكوكية قد تراجعت عن أن تمثل الاهتمام الرئيسي للفلاسفة وأن الاختزالية قد أخفقت عموما. الوضع الذي نحن فيه الآن يشبه تماما حالة الانتقال من سقراط و أفلاطون إلى أرسطو في تاريخ مسار الفلسفة اليونانية. لقد انشغل سقراط و أفلاطون على نحو جاد بالشكوكية وناضلوا من أجل قضايا جزئية. غير أن أرسطو لم ينظر إلى المفارقات الشكوكية نظرة جادة تشكل تحد لمشروعه الكلي محاولا إيجاد فلسفة نظرية نظامية بناءة. أظن أننا الآن نمتلك العتاد للتحرك باتجاه طور جديد من الفلسفة الأرسطوية في القرن الواحد والعشرين.
المراجع:
1- John Rawls, A Theory of Justice ( Cambridge: Harvard University Press 1972 ).
جون راولز، نظرية العدالة ( كامبريدج: دار نشر جامعة هارفرد 1972)
2- Searle J.R., Minds, Brains and Programs, Behavioral and Brain Sciences, 1980, Vol.3,pp.417-457
جي .آر. سيرل، العقول، الأدمغة والبرامج، علوم السلوك والدماغ،1980 ، مجلد.3 . ص. 457-417
3- Searle, J. R., The Construction of Social Reality, New York: The Free Press, c. 1995.
جي. آر. سيرل، بناء الواقع الاجتماعي، فري بريس، سي. 1995 .
4- Thomas Kuhn, Structure of Scientific Revolution ( Chicago: University OF Chicago Press 1962 ).
توماس كون، بنية الثورة العلمية ( شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو 1962 ).
* جون سيرل(1932- ) : أستاذ فلسفة اللغة والعقل بجامعة كاليفورنيا- بركلي . اقترن اسمه مع أوستن بنظرية أفعال الكلام وهو يعد من أبرز فلاسفة اللغة المعاصرين وإن كانت انشغالا ته الراهنة تنحاز لفلسفة العقل ومعالجة ميكانزم الوعي.
* منصور العجالي كاتب ومترجم ليبيز