تاريخ الحوامل ومستقبل الكتابة

د. رضوان بليبط


يسعفنا البحث في الذاكرة الأركيولوجية للكتابة، في علاقتها الممتدة بالحوامل، في فهم مختلِف التحولات التي طرأت على الحضارة الإنسانية التي تعد، في الأساس، نتاجاً لممارسة أنشطة الكتابة؛ فالكتابة والحضارة وجهان لعملة واحدة؛ لاسيما إذا علمنا أن الحضارة في أبعد تجلياتها تعد بنتاً للكتابة. فكيف أثر تطور الحوامل في فعل الكتابة؟ وما المصير الذي سيؤول إليه هذا الفعل في سياق المتغيرات الرقمية المعاصرة؟
 

مارس الكائن البشري فعل الكتابة منذ المراحل الجنينية الباكرة التي ألفى فيها نفسه عل سطح الأرض، ولا توجد دراسات دقيقة تسوقنا إلى الجزم في قضية من مارس الكتابة أولا بالضبط، غير أن الأبحاث التي صدرت عن المتخصصين، في هذا المجال، تؤكد ممارسة الإنسان القديم الذي ينتمي إلى عصور ما قبل التاريخ la préhistoire لأنشطة مختلفة تعبر عن رغبته في كتابة الذات، أو في تسجيل الأحداث المرتبطة بالمعيش اليومي، وبعلاقة "الأنا" بالآخر، وبالطبيعة والكائنات التي تقاسمت مع البشر الفضاء نفسه. وفي هذا السياق، تطورت الكتابة عبر العصور التاريخية، واستثمر الإنسان حوامل مختلفة تستجيب لظروفه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتغير بتغير الزمان والمكان. فالإنسان، بوصفه كائناً اجتماعياً يتأثر بالبيئة ويؤثر فيها، استثمر سائر الإمكانات التي أتاحتها له الطبيعة في كتابة التاريخ، وتسجيل أبعاده الحضارية؛ فكتب على الصخر والعظام والحجارة والشجر، ودوّن الرموز على القماش والخشب والشمع... ومن بين أبرز المحطات التي شهدتها ممارسة الكتابة على مرّ التاريخ، يمكن أن نقف على محطة الكتابة المسمارية التي عبرت عن اللغة التي تكلمها البابليون والآشوريون في بلاد الرافدين la Mésopotamie؛ حيث ولدت الكتابة التصويرية التي سبقت الأبجدية1، وصورت على اللوح الطيني مظاهر الحضارة البالية والآشورية، بوصفها من أقدم الحضارات الكونية.

وهناك أيضاً الكتابة على الألواح الخشبية في الثقافات الصينية واليونانية والرومانية التي كانت بمثابة فتح تكنولوجي ساعتئذ،؛ لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور المهم الذي اضطلعت به الحوامل اللوحية في توثيق مظاهر الحضارة الإنسانية في تلك المناطق الجغرافية التي شهدت تطور النشاط الإنساني فكرياً واجتماعياً، وعكست طرائق تأقلمه مع الفضاء، وسبل حله للنزاعات والخلافات؛ فالألواح الخشبية أتاحت فضاء منظماً لممارسة الكتابة، وسمحت بتدوين عدد أكبر من المعلومات والأحداث، بالمقارنة مع الحوامل السابقة لها (حجر، وشمع، وشجر، وقماش...). ولا يمكن أن ننسى الدور الذي أداه ورق البردي الملفوف في تسجيل تجليات الحضارات القديمة (الآرامية، واليونانية، واللاتينية والعربية)، وفي نقل اللغات السامية وشُعبها الشمالية والجنوبية، قبل أن ينتشر انتشاراً واسعاً في مصر. وقد ساهم لفاف البردي في الحفاظ على تاريخ بلاد النيل، وتسجيل أساطير الفراعنة ومعتقداتهم، وتدوين أيامهم وحروبهم وتوسعاتهم، كما أسهم في تفسير أسرار الكتابة الهيروغليفية les hiéroglyphes، وضمان استمرارها في سجل التاريخ الكوني2.

وعلى هذا النحو، ساهم تطور الحوامل في تسهيل كتابة التاريخ، وتصوير معالم الحضارة البشرية القديمة l’antiquité، ولكن هذا التطور لم يتوقف ههنا؛ وإنما اهتدى العقل البشري إلى اختراع الدفتر codex، حينما طور الرق الجلدي إلى كتاب جلدي، تفوق على لفافة البردي في تيسير عمليات الكتابة، بفضل سعره الرخيص، ووفرته في السوق، وما يتيحه من مساحة أكبر للتدوين، فضلا عن استعمالاته المتعددة آن القراءة، وإمكانية حمله والسفر به، واعتماده في مخططات نشر الديانة المسيحية في العالم.

ولاريب في أن ظهور الكتاب الورقي قد غير ملامح الحياة البشرية، وضاعف النشاط الفكري، وربط الكتابة بالقراءة التي انتشرت في الأمصار كما تنتشر النار في الهشيم، وقد ازداد عدد القراء باختراع المطبعة التي أعلنت نهاية سلطة الكنيسة، وقوضت هيمنتها على العقول، وعممت القراءة التي لم تعد حكراً على الفئة المثقفة، وبذلك تغيرت مظاهر الحضارة الإنسانية، وفُسح المجال للجميع للمشاركة في صناعة التاريخ، ونَضج الوعي الفردي، مما أثر تأثيراً إيجابياً في ظروف عيش الإنسان الذي صار يقرأ ويقارن ويستنتج، ويتمتع بالحس النقدي الذي ترعرع في فضاء ديمقراطي، وتحرر من ربقة التخلف.

وعلى الرغم من أهمية هذه الفتوحات التقنية التي شهدتها ظاهرة الكتابة طوال هذه العصور، فإن الثورة الإلكترونية قلبت سائر الموازين، وتجاوزت الحوامل التقليدية، بفضل اختراع الحاسوب الذي وفر للإنسان حاملاً رقمياً ذكياً يسعفه في الكتابة والقراءة، وتخزين البيانات data، مع إمكانية الإرسال والاستقبال، وهو ما أدى إلى اهتزاز غير مسبوق في عادات الكتابة والقراءة لدى الإنسان على مر التاريخ3، وغير مفهوم الكتابة بمعناه القديم؛ فالحامل الجديد يعتمد الذكاء الاصطناعي، وينفتح على روابط مختلفة، ويتيح إمكانات هائلة للتواصل التفاعلي، مما يجعل الكتابة نشاطاً تفاعلياً مرتبطاً بالقارئ/المتلقي الذي تتعدد أشكاله بتعدد مظاهر الكتابة؛ فالباث يمكنه أن يستثمر تطبيقات رقمية وبرمجيات ذكية عدة، ويوظفها في كتابة نص رقمي بصيغ إلكترونية مختلفة (html - powerpoint - word - pdf)، مع إمكانية دمج عناصر أخرى في النص المكتوب؛ من قبيل الصورة والمؤثرات الصوتية والموسيقى... كما يمكنه الكتابة مباشرة أثناء التعليقات وردود الأفعال الآنية التي تجعل الأدوار متبادلة بين الباث والمتلقي إلى الدرجة التي يستحيل فيها وضع حدود فاصلة بين أدوراهما.

وإذا كان اختراع الحاسوب قد غير مسار الكتابة والقراءة على نحو غير مسبوق؛ فإن اختراع الهواتف الذكية والألواح اللمسية وربطها بالأنترنت قد فتح آفاقاً أوسع لانتشار الكتابة الرقمية، وهي كتابة غيرت مفاهيم المكان والزمان والمعرفة4، وحولت العالم إلى قرية صغيرة، أصبح الإنسان مجرد أصبع صغيرة داخل فضاءاتها الافتراضية، وهذه الأصبع تحمل شبكة من الأصدقاء، وفضاءات وأماكن تحدد عبر خاصية GPS، ومعارف ومعلومات لا حصر لها، وتستثمر هذه المحاور الثلاثة من أجل إعادة اكتشاف كل شيء، بعيداً عن الأحكام المسبقة الجاهزة. وهكذا، تصبح الكتابة بمثابة ضربة غضب ضد سائر الآباء الكبار الغاضبين الذين يمنعون الإنسان المعاصر، حسب ميشيل سير، من النظر إلى حاضره بثقة، وإلى مستقبله بأمل.

وفي هذا السياق المعرفي الجديد، يحق لنا أن نتساءل عن مستقبل الكتابة في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يهدد وجود الكتاب الورقي، وينذر باختفائه الوشيك. ولكن الإجابة عن سؤال من هذا القبيل يضعنا في قلب المجازفة، في ظل استمرار الحامل الورقي وانتشاره، بغض النظر عن نسبة قراءته وأرقام مبيعاته؛ فمن البدَهي أن يتعايش حاملان مختلفان أو أكثر مدة طويلة، كما حدث في مختلف المراحل التاريخية التي مر بها فعل الكتابة5، ومع ذلك سنسمح لأنفسنا، في ظل الأحداث والمتغيرات التي نعيشها اليوم، بأن نتوقع أفول نجم الكتاب الورقي؛ لأن القُوى التي تتحكم في عالم ما بعد الثورة الإلكترونية وجدت في الفضاء الرقمي إمكانات لا حصر لها، لتحقيق الأرباح الاقتصادية السهلة وغير المكلفة؛ فالكتاب الإلكتروني/الرقمي صار مادة مهمة بالنسبة إلى عمالقة الاقتصاد العالمي الذين أحكموا قبضتهم على العالم، وصاروا يفرضون رسوماً على عاداتنا وأساليب حياتنا، وفرضوا علينا الحصول على حق الولوج droit d’accès، واستغلوا هذه الثورات التكنولوجية الرقمية التي غيرت معالم الكتابة، وقلبت مفاهيم التواصل الإنساني المندغم في أشكال جديدة تمزج بين الطاقة والتواصل والإسال6، من أجل قلب نمط العيش في العالم، مما أدى إلى ولادة جيل جديد يسعى إلى التكيف مع التغيرات المتسارعة7، وينغمس في عوالم الذكاء الاصطناعي، ويمتلك مهارات متطورة في ميادين الرقمية، ويتقن توظيف الوسائط والبرمجيات الإلكترونية التي تستدعي مهارات وكفايات ذهنية، لا يمكن مقارنتها بمهارة الكتابة على الورق التي تحن إلى طقوس الماضي وعاداته القديمة، المرهونة بالوسيط المادي الملموس.

ولكن هذا الطرح الذي يدافع عن إمكانية اختفاء الكتابة والكتاب الرقمي، مسوّغاً ذلك بالبعد التكنولوجي المتفوق في عالم الأنترنت الذي تتدفق فيه المعلومات، ويتزلج الإنسان على سطحه المعرفي، بتعبير جويل روزناي (Joël Rosnay)، يظل طرحاً مؤسساً على الأحلام التي تراود رواد الفتوحات التكنولوجية الذين يرومون أن يتفوق الكائن البشري على الآلة يوماً ما، وهو تصور يؤمن بفكرة السايبورغ8 Cyborg، أو اندماج الإنسان والآلة، لتعزيز قدرات البشر، ولتحقيق رفاهية يضمنها الانتصار على قوى الطبيعة. غير أن ما يسترعي الانتباه، في هذه الرحلة المعرفية التي تصور نصر الإنسان، هو أنه كلما حققنا نصراً، وجدنا أنفسنا بالمقابل نخسر أشياء ثمينة جداً؛ فالانتقال إلى فعل الكتابة الرقمية وحواملها الذكية، جعلنا نفقد قدرات فكرية ما زالت تميزنا عن غيرنا من الكائنات؛ مثل الذاكرة، والإحساس المفعم بالعواطف المتراكبة التي تثيرها الكتابة المباشرة على الورق في دواخل ذواتنا، وإمكانات التخييل والإبداع الذهني الفني التي سلبها منا الذكاء الاصطناعي، وما يتيحه من خوادم تقتل فينا الإبداع، وتغتال الإحساس بمتعة الكتابة والقراءة، ولعل هذا ما دفع بعض الدول المتقدمة مثل السويد إلى التخلي عن الحوامل الرقمية في المدارس، والعودة إلى الحامل الورقي بعد تراجع مستوى مهارات القراءة والكتابة لدى المتعلمين، مع فقدانهم القدرة على التركيز، وتشتت انتباههم9. ولا ننسى أن الحامل الرقمي قد يجعل الإنسان عبداً للآلة، بدلا من أن يظل سيداً لها، ولذلك يحق لنا أن نطرح سؤالا جديداً ومختلفاً، في ضوء هذه المتغيرات، وهو لِمَ يتخلى الإنسان بهذه البساطة عن سيطرته على الآلة؟ ولِمَ يجعلها مثالا يحتذى، ويسعى إل التحول إلى مجرد نسخة ثانية منها؟

لن نجيب عن هذه التساؤلات في النهاية؛ لأن الزمن كفيل بالإجابة عنها، ما دامت تؤرق مصير الإنسان على سطح الأرض، ولكننا نعترف بأن هذه التحولات، التي شهدها ولا يزال يشهدها موضوع الحوامل ومستقبل الكتابة، لن تتوقف عند حدود الحاسوب والهاتف الذكي واللوحات اللمسية الرقمية؛ وإنما من الممكن أن تتطور عبر حوامل جديدة أكثر ذكاء، ستؤدي لا محالة إلى تغيير ملامح فعل الكتابة وطرائق ممارستها، لكنها لن تنجح في اختفاء الكتابة، بوصفها ممارسة ثقافية تسجل التاريخ، وتصور مظاهر الحضارة البشرية، فمهما تطورت الحوامل ستظل الكتابة حاضرة في حياتنا.

 


الهوامش:
1. موسوعة ويكيبيديا، كتابة مسمارية، اطلع عليه بتاريخ 10 يناير 2024.
2. L’ivention de l’écriture, retour sur cette grande aventure, https://www.geo.fr/histoire/linvention-de-lecriture-retour-sur-cette-grande-aventure, consulté le 10 janvier 2024
3. محمد أسليم، الرقمية وتحولات الكتابة والقراءة، يُنظر https://www.aslim.org/، اطلع عليه بتاريخ 11 يناير 2024.
4. Michel serres, les nouvelles technologies : révolution culturelle et cognitive, hw_dungeonstory10a_h_en_171 (youtube.com), vidéo consultée le10 janvier 2024
5. محمد أسليم، موجز تاريخ الحوامل والكتابة، محاضرات جامعية، ص: 2.
6. Jeremy Rifkin, la troisième révolution industrielle, https://youtu.be/ZzRufSZ1KDM, vidéo consultée le 11 janvier 2024
7. يُنظر في هذا الشأن: ميشيل سير، الأصبع الصغيرة، ترجمة عبد الرحمان بوعلي، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، 2012.
8. نحت هذا مصطلح «سايبورغ» العالمان الأمريكيان مانفرد كلاينز وناثان كلاين، في عدد سبتمبر 1960 من مجلة "الملاحة الفضائية" Astronautics‏، وهو اختصار لتعبير cybernetic organism بالإنجليزية، ويعني "متعضٍّ سيبرناطيقي". يُنظر في هذا الشأن موسوعة ويكيبيديا.
9. مدارس السويد تهجر الأجهزة اللوحية وتعود إلى الكتب، سكاي نيوز عربية - أبوظبي، 8 يونيو 2023 - 16:46 بتوقيت أبوظبيhttps://www.skynewsarabia.com/technology، اطلع عليه بتاريخ 16 يناير 2024

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها