الإنسان وصناعة القيم.. في فلسفة نيتشه

حميد الركراكي

إن المعنى الكامن للمعرفة يتمثل في الغاية نفسها التي تصبو إليها ألا وهي تمكين الإنسان من علاقة جديدة بالعالم تكون أكثر توازناً، ومنحه كذلك صورة جديدة للحياة. يهتدي من خلالها إلى تنظيمها وفق تصور جديد. وهنا يتنزل المعنى النيتشوي "لخلق القيم" بما هي قيم تعلن عن تصورات جديدة للحياة. وهذا ما يناقشه الباحث نبيل عبد اللطيف في كتابه "فلسفة القيم: نماذج نيتشوية".



معنى الحياة عند نيتشه

إن المشكلة لديه أننا نعيش في عصر تتكاثر فيه مفاهيم عديدة للحياة وتتنوع وتتقاطع إلى درجة كبيرة، حتى إننا يمكننا اعتبار هذا العصر أكثر العصور الموسومة بالطابع المعرفي حول الحياة؛ ولأجل ذلك يعتبره نيتشه أكثر العصور مرضاً من غيرها، وهو عصر لا ينقطع عن التألم من الشرور والتشوهات التي أحدثتها هذه النزعات الفكرية التي تروم تكوين معرفة بالحياة. في حين أن الإغريق مثلاً جعلوا الحياة مجال عيش لا مجال تفكير.

إن التفوق ميزة الإغريق وليس ميزة العصر الحديث، ذلك أنهم حولوا مركز الاهتمام من المعرفة إلى الحياة نفسها، إذ إن الإنسان الهيلينستي كان يعبر من خلال طقوسه عن جملة من الرموز الأبدية والعود الأبدي للحياة، ذلك المستقبل الموعود بما هو إثبات للحياة وتجاوز للموت، هذه الحياة الحقيقية التي تكون بمثابة امتداد جماعي عن طريق الصنع والخلق والطقوس الجنسية.
ومن أجل ذلك كان الرمز الجنسي عندهم هو الرمز الحقيقي بإطلاق إنه يتميز بالعمق، فكل جزئيات الأفعال المتعلقة بالتكون والحمل والولادة تنعش كل المشاعر الراقية والسامية.

إن الرمزية الإغريقية من هذه الوجهة هي أرقى أنواع الرمزية لأنها تتعلق بالأفراح، فهي تعبر عن أعمق غريزة للحياة؛ تلك الحياة التي تتوق بلا هوادة لأن تكون حياة أبدية وخالدة، فيجري التعبير عن هذا التوق بطرق دينية، ولكنه صوت الحياة نفسه، صوت الخلق والصنع وقد صار صوتاً مقدساً.
لكن خارج هذا الفهم الإغريقي للحياة بما هي إحياء للأفراح، نجد أن الإنسانية لا تنقطع عن إعادة نفس الخطأ، إذ يلاحظ نيتشه أن الإنسان جعل من مجرد وسيلة لخدمة الحياة مقياساً لقيمتها وذلك أن يبحث عن هذا المقياس في الحياة نفسها، في توهجها وقوتها، وفي مسار نموها وتعاقب لحظاتها.

إن الإنسان الذي يحيا هذه الحياة لا بد له أن يضع قيماً، ومعنى هذا أن يفاضل ويوازن ويعطي لبعض الأشياء قيمة أكبر مما يعطي لأشياء أخرى، فالحياة عند نيتشه تقويم بالأساس.

معنى التقويم

يؤكد نيتشه على أن الإنسان يحتاج إلى إنتاج أحكام قيمة يبرّر بواسطتها لنفسه وخاصة لمحيطه جملة أفعاله ومواقفه. ولكن العمل الفلسفي الأهم يتمثل في تحديد أصل هذه القيم الأخلاقية التي يتداولها الناس فيما بينهم.
وبالبحث في الأصل والمصدر، نتبين أن الأسياد كانوا دائماً مصدر التقويم، إذ إن العبيد والعامة يخضعون في كل الأحوال إلى الأحكام التي يطلقها عليهم هؤلاء الأسياد، فالعبد لا يستطيع أن يحدد القيم بنفسه بعيداً عن السيد "الأرستقراطي"؛ إذ إن خلق القيم هو حق لهذا السيد دون سواه.

إذاً فخلق القيم بصفة شخصية يقتضي قبل كل شيء تحرراً من الغيرية ومن الشعور بالتبعية والخضوع والضعف. وهذا التحرر يستوجب قدراً من القوة في الإنسان باعتباره فاعلاً وحراً يتجاوز التصور السائد للأخلاق الذي يعتبر الأفعال خيّرة أو سيئة بطبعها. وإن مثل هذا التصور لهو من قبيل التشويه للحياة. فلا شيء له قيمة في الحياة إلا درجة القوة فيها؛ لأن الحياة نفسها هي إرادة قوة، وقد عرّف نيتشه القيمة بأنها أكبر كمية من القوة التي يستطيع الإنسان أن ينتجها.

هكذا يجعل نيتشه من الكائن الحي طاقة كبيرة تعمل بلا هوادة من أجل تدمير القوى الارتكاسية، تصارع الانحطاط وتتفاعل مع القوة النافية، همّها الوحيد الوصول إلى درجة قصوى من القوة حيث إثبات الحياة هو السمة البارزة للفعل الإنساني.

التقويم وإرادة القوة

إذا كان التقويم بما هو إثبات للحياة يعتبر في جوهره رغبة ملحة تسكن الإنسان في تجاوز القيم السائدة وخلق قيم جديدة؛ فإن هذه القيم بالذات لا تنشأ إلا انطلاقاً من مقولة القوة التي هي مصدر كل تقويم.
وتجدر الإشارة إلى أن نيتشه لا يعني بالإرادة القوة النفسية كما عرّفها علماء النفس، بل هي نزوع الكائن إلى تجاوز ذاته نحو مزيد من القدرة على العمل على تحقيق المشروع فعلياً والذهاب به إلى أبعد الحدود وبهذا المعنى فإن إرادة القوة موجودة في كل كائن حي في النبات والحيوان والإنسان، فهي ساكنة في الغرائز والأهواء والانفعالات والإحساس والشعور، أي في كل الطاقات الحية. أما غاية إرادة القوة فتتمثل في تحقيق المزيد من القدرة لدى الكائن بهدف السيطرة والتحكم في امتلاك وسائل الإبداع.
ولا يعني نيتشه بإرادة القوة كذلك الإرادة التي تريد ممارسة القوة من حيث هي غاية في حد ذاتها، فالإرادة لا ترغب في القوة من أجل القوة، وقد انتقد نيتشه الفلاسفة الذين حللوا القوة بهذا المعنى. معلناً أن فعل الإرادة الحق هو فعل الخلق والإرادة في حد ذاتها فرح يحرر الكائن عبر خلق قيم جديدة. إن إرادة القوة هي صراع متواصل من الكائن ضد ما يقف أمام الحياة ويسعى إلى ابتلاعها.
ولا شك أن إرادة القوة تلقى في طريقها نحو تحقيق مشروعها عقبات عديدة أكبرها هو الألم الذي يكابده الكائن في مسيرته الهادف لبلوغ المزيد من القوة والقدرة. ومن الضروري التأكيد هنا أن نيتشه لا يقف موقفاً سلبياً أو معادياً للألم، فهو يعتبره مثل اللذة تماماً مسلكاً للإرادة لكي تحقق هدفها.

لذا نراه- نيتشه- يشيد بالألم الذي يجني الإنسان بتحمله الكثير من العزم والشجاعة والصبر والسمو. يقول: "لا يبحث الإنسان عن اللذة ولا يهرب من الألم، ما شاء الإنسان، ما شاء أصغر جزء من الجسم الحي، هو المزيد من القدرة، وفي التوق إلى هذا الهدف نجد اللذة بقدر ما نجد الألم.

إن مقولة إرادة القوة تعني فعل تجاوز الذات لذاتها، بحيث يحاول نيتشه أن يفكر في الكائن بربطه بمفاهيم الحياة الأساسية على غرار الإرادة والفعل والصيرورة؛ ولعل من نتائج تجاوز الذات لذاتها هو ظهور الإنسان الأرقى الذي بواسطته تتمكن إرادة القوة الإنسانية أن تحدد مصيرها ومهمة "الإنسان الأرقى" تتمثل أساساً في خلق قيم جديدة.

خلق القيم

لقد أراد نيتشه أن يجعل من الذات مصدراً للتشريع الأخلاقي بما هي تسعى إلى خلق قيم الارتقاء إلى الأعلى، ونراه كيف يتحدث عن نفسه بما يشبه الثقة المطلقة أو الغرور الذي يتحول إلى أنانية، ولكنها أنانية خلاّقة دونها لا يكون الإنسان مبدعاً لقيمه، تلك القيم الجديدة التي ترسم الطريق للحياة الصاعدة وتجعل من الفيلسوف مشرعاً حقيقياً ومبشّراً بنوعية حياة أرقى. ويجب التأكيد هنا أن مهمة نيتشه لا تتمثل في تأسيس الأخلاق، بل إنه يسعى إلى وصف الظاهرة الأخلاقية وتحليلها فعمله وصفي بالأساس.
وإن التحرر من الانحطاط يتطلب ظهور طينة جديدة من المفكرين يأخذون على عاتقهم إعادة تقويم ما كان يمثّل "قيماً أبديةً ومطلقةً" أو يمكن أن يكون هدفهم متمثلا أساساً في قلب هذه القيم.
إن هذه الطينة الجديدة من النوع الإنساني يطلق عليها نيتشه "إنسان المستقبل"، هذا الإنسان الذي يرسم للبشرية ملامح مستقبلها حيث يتشكل هذا المستقبل انطلاقاً من إرادة الإنسان، وبهذا المعنى فقط تتمكن الإنسانية من تحقيق مشروعها العظيم المتمثل في تربية الأذواق على النخبوية والانتقاء، ومن ثمة وضع حد لسيطرة اللامعنى الذي ما فتئت تكرسه الأغلبية.
إن تشريع الأخلاق يكمن حسب نيتشه في مجهود اختزالي تقوم به الذات لإعطاء معنى للعالم. إننا بقدر ما نلخّص الأشياء ونختزلها يبدو لنا العالم أكثر دقة وجمالا ورمزية. وعلى العكس من ذلك، فبقدر ما نتعمق في تفسير الأشياء تغيب أحكامنا الخاصة حول قيمتها ونعتقد شيئاً فشيئاً في خلوه من القيمة.

إننا نحن من يخلق عالماً بلا قيمة، ونحن كذلك من يخلق عالم القيمة، إن ما ينقصنا إذن هو الإرادة التي تسعى إلى اختزال كل شيء لتفسح المجال لبروز الجمال في أبهى صوره الإبداعية.

قلب القيم

إذا كانت الإنسانية قد دأبت على الاعتقاد بأن قيمة أي فعل تكمن في الهدف والمقصد من ورائه، فإن نيتشه يتساءل: ألسنا مدعوين اليوم، أكثر من أي وقت مضى إلى القيام بعملية قلب وتحويل للقيم؟ وإن ذلك لا يتم في نظره إلا من خلال تعميق التفكير في ذواتنا وصياغة تصور جديد وأكثر عمقاً للإنسان.
في هذا المستوى بالذات أقحم نيتشه مقولة "الإنسان الأرقى" بما هو الإنسان الحامل لراية التغيير والقلب للقيم السائدة، ولكن نلاحظ أن هناك كثيراً من سوء الفهم لما يعنيه نيتشه بالإنسان الأرقى، من ذلك أن البعض اعتبره كائناً خارقاً ولا علاقة له بالأرض، وعلى العكس من ذلك يذهب التصور النيتشوي إلى أن هذا الإنسان ليس "سوبرمان" بل هو كائن إنساني.

إن نيتشه يؤكد بوضوح أن الأمر لا يتعلق بتجاوز النوع الإنساني، ولكن الأمر يتعلق أساساً بالرفع من مستوى "نموذج الإنسان" الذي سيكون جديراً بالحياة. ويمكن القول بهذا المعنى، إن الذي يكون جديراً بالحياة هو ذلك الذي لا يبحث عن الهروب منها ولا عن احتقارها والحط من شأنها أو التطلع إلى عالم آخر أفضل منها.
وهناك من جهة أخرى، من رأى في "الإنسان الأرقى" صورة من الصور الداروينية التي تمثلها مقولة الانتقال من القرد إلى الإنسان ثم إلى الإنسان الأرقى، لكن نيتشه يستبعد هذه الرؤية، فلا يتعلق الأمر في نظره بانتقال الإنسان إلى شيء آخر ولا أن يخضع إلى عملية "تطور" بالمعنى البيولوجي حتى يصبح نوعاً أرقى. إن المسألة أبسط من ذلك بكثير، إننا إزاء الإعداد لنموذج من البشر القادرين على خلق قيم جديدة ورد الاعتبار للغرائز النافعة للحياة.

إن التغيير الذي يدخله "الإنسان الأرقى" ليس تغييراً في القيم في حد ذاتها أو تحريراً لها، بل هو أكثر من ذلك: قلب في العنصر الذي تشتق منه قيمة القيم، إنه تقويم على أساس مختلف. إن هذا "الإنسان الأرقى" هو أرفع إنسان وأسمى ما يمكن أن يوجد على الأرض، ولكنه في نظر نيتشه إنسان "لم يظهر بعد"، إنه فقط "الإنسان المأمول".

إن فلسفة القيم عند نيتشه، هي التأكيد الفعلي للنقد والصورة الوحيدة للفكر النقدي، حيث تبدو الحياة السائدة في حاجة إلى الزوال لكي تترك مكانها لنوع جديد من الحياة، إن الحياة بالمعنى الجديد عملية "تقويم" متواصلة" ووضع القيم هو شرط أساسي لكي يحيا الإنسان.




عن الكتاب: فلسفة القيم (نماذج نيتشوية)
كتاب من تأليف نبيل عبد اللطيف - دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،
القاهرة، طبعة 2010 (عدد الصفحات 177)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها