زهايمر

هانئ جميل دقة


كانت قد مرَّت سنوات طويلة منذ أن خرج مدرسُ اللُّغة الإنكليزية منصور إلى التقاعد، وكان قد اعتاد الرجلُ المسن منذ ذلك الوقت أن يقضي كلَّ يوم أكثر من ساعةٍ في الحديقة القريبة من منزله، وفي ظهيرة هذا اليوم الخريفي من أيام أيلول كان جالساً هناك على أحد المقاعد يتأمل الأوراقَ الصفراء التي كانت تسقط من أغصان الأشجار دون أن تحاول أمهاتها التشبثَ بها، ثمَّ تتهاوى على الأرض تحتها بمشهد ذكره بنفسه، وأثار في داخله الحزنَ والأسى... راح منصور حينها يتخيل كيف كانت تلك الأوراق خضراء يانعة في فصل الريبع، وكيف كانت تزين الأغصان أمامه على أنغام قيثارة الحياة العذبة..

كانت فتية تضجُ بالحياةِ وهي في صباها لكنها الآن باتت مستسلمة تماماً لرياح الخريفِ الباردة مذعنة أمامها دون مفر؛ وبينما كان منصور ساهياً في تساقطها على الأرض واحدةً تلو الأخرى، وشارداً في أقدام المارّة التي كانت تدوسها، وهي تحث الْخُطا مسرعةً في طريقها دون أن تبالي بما تُحْدثه فوقها، اقتربت منه فتاة في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها بملابس رثةٍ رقيقةٍ لا تتناسب مع برودة الطقس، غمره حزن طاغٍ وهو ينظر إلى حالها، واسترعى انتباهه الهالات السوداء التي بدت ظاهرة تحت عينيها، والشحوب الذي كان يغطي وجهها، وكانت تلك الفتاة تحمل بيدها سلَّة فيها بعض الورود الجورية الحمراء.. ❀ "اشتر مني وردة.. ستفرح زوجتك بها في البيت عندما تهديها لها"، قالت الفتاة للرجلِ المسنِ على أمل أنه سيستجيب لطلبها.

نظر منصور إلى الفتاة ثم تنهد ورد عليها بحسرة: "للأسف زوجتي ماتت وما عادت في البيت منذ سنوات طويلة، حتى إنني لم أعد أتذكر شكلها"!
❀ "تستطيع أن تهديها لابنتك.. لا بُد أنها ستفرح بها"، حاولت بائعة الورد مجدداً أن تجعل منصور يقتنع ويشتري وردة منها.
"لو أنها ليست مقيمة في الكويت كنت فعلت ذلك.. أنا لم أرَ ابنتي سوسن منذ أكثر من سنتين، وفي كل مرَّة أطلب منها زيارتي لا تفعل".
❀ "إذاً اشتر مني وردة لنفسك.. لا بُدّ أن عطرها سيدخل إلى نفسك البهجة"، حاولت الفتاة البائسة مجدداً إقناع الرجل المسن بشراء إحدى ورودها.
فكر منصور قليلاً ثم هز رأسه وقال لبائعة الورد: "حسناً سأشتري منك الوردة وأقدمها لابنتي سوسن عندما تأتي إلى هنا لتصطحبني إلى البيت".
استغربت بائعة الورد ماقاله لها الرجل المسن ثم علقت: ❀ "لكنك أخبرتني الآن أن ابنتك مقيمة في الكويت"!
"غير صحيح. ابنتي سوسن لم تغادر سورية أبداً في حياتها"، قال الرجل المسن هذه المرة وهو يختار إحدى الورود من السلَّة التي وضعتها بائعة الورد أمامه، وبعد ذلك قرر أن يشتري وردة جورية أخرى، فسألته بائعة الورود ❀ " لمن ستهدي الوردة الثانية"؟
"لزوجتي"، قال الرجل المسن دون تفكير. استغربت بائعة الورد مرة أخرى ثم قالت: ❀ "لكنك أخبرتني قبل قليل أن زوجتك قد توفيت!"
"أجل صحيح.. لقد توفيت زليخة منذ أكثر من عشر سنوات، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعيش لوحدي في البيت، هذا أمر مؤسف أليس كذلك"؟ قال منصور بحسرة.
❀ "لكن ابنتك سوسن تعيش معك"، سألت بائعة الورد بفضول واستغراب.
"غير صحيح.. ابنتي سوسن تعيش في الكويت وأنا لم أرها منذ سنتين"، ردَّ منصور بحسرة هذه المرة.
نظرت بائعة الأزهار باستغراب وتعجب إلى الرجل المسن، ثم غادرت من أمامه وابتعدت، بعد أن دفع لها ثمن الوردتين اللتين وضعهما بجواره على المقعد، وبعد ذلك هبت نسمة هواء باردة أخرى من نسمات الخريف، وراحت الأوراق الصفراء تتساقط من على أغصان الأشجار بوتيرة أكبر، جعلته يغرق في نفسه مجدداً وهو يشاهدها تطير في الهواء ثم تهوي على الأرض.
وحين نظر إلى جواره، وشاهد الوردتين، حملهما بيده وتساءل باستغراب: "من الذي وضع هاتين الوردتين على المقعد.."؟!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها