من الشائع بين الناس أن الفكر حر طليق، بدليل أن الإنسان لا يمكن أن يمنعه مانع عن التفكير فيما يشاء طالما هو لا يفعل شيئاً في سبيل التنفيذ. هو حر يستطيع أن يفكر كيفما أراد في حدود مواهبه الخاصة وفي حدود نصيبه من اتساع الخيال.
لكن هذه الحرية الفكرية الطبيعية ليست لها قيمة تستحق الاعتبار، إذ هي حرية لا تجدي من المرء ولا من جيرانه شيئاً، بل إنها حرية مؤلمة للإنسان المفكر ما دام لا يقدر على إيصال أفكاره للناس وما دام لا يستطيع بغير جهد جهيد أن يكبت أفكاراً قوية ويخفيها في الظلام. هكذا يقول جون بيوري.
جون بيوري John.B.Bury
ويرى بيوري أننا إذا سردنا حقوق الإنسان الطبيعية لا بد لنا أن نثبت في مقدمتها حق المحافظة على الذات وحق التكاثر والتناسل، ومع أن هذين الحقين ليسا محل إنكار أو معارضة؛ فإن المجتمعات البشرية قد فرضت على أفرادها قيوداً عند ممارسة هذين الحقين الطبيعيين. فالرجل الجائع لا يؤذن له أن يستولي على طعام رجل آخر، واتصال الجنسين بغية التناسل مقيد بشتى القوانين والعادات، لا ريب في أن المجتمع له الحق في تحديد هذه الحقوق الطبيعية، إذ بغير تحديدها لا يمكن أن يوجد مجتمع له أساس وطيد، ولكنا إذا سلمنا بأن التعبير عن الأفكار هو حق من ذلك الطراز الطبيعي، فليس من اليسير أن نزعم على هذا الأساس أنه حق يمكن إطلاقه بغير حدود، وأنه ينبغي أن يكون بمنجاة من تدخل المجتمع.
الواقع أن القياس هنا مع الفارق، فإن الحقوق الطبيعية التي من طراز حق المحافظة على الذات وحق التكاثر والتناسل؛ إنما هي حقوق تتصل بسلوك الناس جميعاً وتصرفاتهم، أما التضييق على حرية الفكر، فإنه لا يمس إلا طائفة قليلة نسبياً هم أولئك الذين لديهم أفكار تجديدية يودون التعبير عنها. وهنا لا بد من التسليم بأن حرية الفكر ينبغي أن يقوم الدفاع عنها على أساس آخر غير أساس الحقوق الطبيعية؛ لأن هذه الفكرة تشتمل على نظرية عويصة عن العلاقة بين المجتمع وأفراده.
وهنا توقف بيوري عند الفكر الطليق عند الإغريق والرومان، إذ يرى لو سئلنا أن نعدد أفضال الإغريق على الحضارة لقفزت أمامنا أثارهم في الأدب والفنون الجميلة قبل كل شيء، ولكن النظرة العميقة الفاحصة تبين لنا أن فضلهم السابغ علينا هو ابتداعهم حرية الفكر وحرية المناقشة. لقد كانت طلاقة الروح هي طابع تأملاتهم الفلسفية وتقدمهم العلمي وتجاربهم في الأنظمة السياسية، فضلا عن كونها طابع عبقريتهم في الآداب والفنون، تلك الآداب التي لم تكن لتبلغ مداها الرفيع لو أن أصحابها صدوا عن نقد الحياة نقداً حراً.
إننا لو تجاوزنا ما أنجزوه في أكثر نواحي النشاط البشري ولم يبق إلا إصرارهم على اتخاذ الحرية مبدأ وشعاراً، لكان هذا المبدأ الذي يعتبر إحدى الخطوات الكبرى في سبيل التقدم البشري كافياً لأن يسمو بهم إلى أرفع مراتب المصلحين من بني الإنسان.
لقد كانت شعوب الإغريق يتمايز بعضها عن بعض، فمنهم المحافظ ومنهم المجدد ومنهم المتأخر، ومنهم المتحضر ومنهم الخرافي ومنهم المفكر. لقد كانت أرض "أيونيا" في آسيا الصغرى مهد الفكر الحر، ولا ريب في أن تاريخ العلوم الأوروبية والفلسفة الأوروبية يبدأ من "أيونيا"، فهناك (في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد) حاول الفلاسفة الأوائل أن ينفذوا بعقولهم إلى أصل هذا العالم وتكوينه. ولا شك في أنهم لا يستطيعون التخلص -تخلصاً تاماً- من الآراء القديمة، ولكنهم هم الذين بدأوا مهمة تحطيم الآراء السائدة والعقائد الدينية.
وقد كانت أثينا في نحو منتصف القرن الخامس أقوى مدائن الإغريق وأعظمها، فضلاً عن أنها بلغت الذروة في الفنون والآداب، وكانت دولة ديمقراطية بمعنى الكلمة، دولة أطلقت فيها حرية المناقشة إطلاقاً. وكان يتزعمها في ذلك الحين "بيركليس" السياسي الذي كان يؤمن بحرية الفكر.
ويذكر بيوري أن الفلسفة الرواقية كانت خير معاون لقضية الحرية، ولم يكن مقدراً لها الانتشار والازدهار لو لم تنبت في جو أطلقت فيه حرية البحث والمناقشة. وقد كانت الفلسفة تناصر حقوق الأفراد. وكان سقراط قد أكد من قبل أن القوانين قد تكون ظالمة وأن الجماعات الإنسانية قد تسير إلى ظلال، ولكنه لم يرسم مذهباً واضحاً لهداية المجتمع. فجاء الرواقيون وكشفوا عن ذلك المذهب في صورة "قانون الطبيعة" الذي اعتبروه أسبق وأسمى من العرف والعادات والقوانين الوضعية، ذلك المذهب الذي تخطى حدود الجماعات الرواقية وتحكم في العالم الروماني وتأثرت به التشريعات الرومانية.
بيوري لم يغفل الحقبة التي تسلطت فيها الكنيسة وامتد نفوذها فكان العقل مكبلا حبيساً في السجن الذي أقامت المسيحية أسواره حول التفكير الإنساني. ولم يكن العقل في الواقع خامداً كل الخمود، ولكنّ نشاطه كان يتخذ في نظر الكنيسة صورة "الالحاد" والزندقة. يقول بيوري: وإن شئت أن نواصل التشبيه قلنا إن أولئك المفكرين الذين استطاعوا أن يحطموا الأغلال لم يتمكنوا من تسلق أسوار السجن الشاهقة، فلم تصل بهم حريتهم إلى أكثر من المعتقدات القائمة على الخروقات المسيحية مثلها في ذلك كمثل المعتقدات الدينية السائدة. ولا ريب في أن هذه القاعدة كان لها شواذ، فإن مؤثراً جديداً جاء في عالم آخر في القرن الثاني عشر وأخذ يشعر الناس بوجوده في كل مكان، إذ كان المثقفون في غرب أوروبا قد عكفوا على دراسة فلسفة أرسطو، وكان أساتذتهم في ذلك الحين من اليهود والمسلمين.وكان للمسلمين نصيب منه (حرية الفكر) جاءهم بفضل دراستهم للتفكير اليوناني القديم. وجاء ابن رشد المفكر الحر فبعث بمؤلفاته التي بناها على فلسفة أرسطو موجة من أمواج الحرية العقلية في البلاد المسيحية، وكان ابن رشد يؤمن بخلود المادة ولا يؤمن بخلود الروح، وهذا ما نستطيع أن نسميه (مذهب وحدة الوجود). وقد حاول ابن رشد أن يتجنب التصادم مع السلطات الإسلامية المحافظة فابتكر نظرية (الحق المزدوج)، والمقصود بها أن في هذا الوجود حقيقتين مستقلتين متناقضتين. حقيقة دينية وحقيقة فلسفية. ولكن هذه النظرية لم تحل دون نفيه وإبعاده عن بلاد الخليفة الأندلسي. وجاءت تعاليم ابن رشد إلى جامعة باريز فأنتجت مدرسة من المفكرين الأحرار، كانت تقرر أن قصة التكوين وبعث الأجساد وغيرها من العقائد الرئيسة قد تكون حقيقية من وجهة النظر الدينية، ولكنها باطلة ولا ريب من وجهة النظر العقلية.
وبخصوص عصر الإصلاح، يلاحظ بيوري أن التسامح مع المذاهب المختلفة كان أبعد الأشياء عن أذهان زعماء الإصلاح، فإنهم لم يزيدوا على أن أزالوا سلطة نقلية ليضعوا مكانها سلطة نقلية أخرى، إنهم أقاموا سلطة الإنجيل وأزالوا سلطة الكنيسة. أو أقاموا الإنجيل كما يفهمه "كلفن"، بدلا من الإنجيل كما يفهمه "لوثر"، ولم يكن هناك وجه للتفاضل بين الكنائس القديمة والكنائس الجديدة ما دامت روح التعصب قد ظلت باقية كما هي. إن الحروب الدينية لم تنشب لنصرة قضية الحرية ولكن لنصرة طائفة معينة من المذاهب، ولو أن البروتستانت انتصروا في فرنسا لكن من المحقق ألا يذهبوا في التساهل مع الكاثوليك أكثر مما ذهب هؤلاء معهم. لكن هذا لا ينفي أهمية فترة عصر الإصلاح وما رافقها من منجزات.
هكذا نصل إلى خلاصة مفادها أن الحرية شيء مقدس منذ فجر تاريخ البشرية، هذا الحق الذي عرف مداً وجزراً نظراً لظروف الزمان والمكان، وكما كان سيبقى ذلك المبتغى الذي يصبو إليه كل إنسان، وتبقى الحرية مسؤولية وإلا تحولت إلى وسيلة للقهر والظلم في حق الآخر، إذ إنّ للحرية حدوداً.