
فِردينان دي سوسير _ رائد اللسانيات البنيوية
استبعدت تقاليد البحث اللساني الموروثة عن فِردينان دي سوسير الكلامَ من خانة الدراسة المنهجية التي ينشغل بها علم اللغة، معتبرةً إياه نشاطاً فردياً، ومتحججة بأن درس اللغة يُعنى فقط بوصف نظامها ومنطق اشتغالها، وليس باستعمالها. إلا أن هذا الطرح لم يسلم من انتقادات لسانيي النصف الثاني من القرن العشرين، بل تُجووِزَ لدى لسانيي الألفية الثالثة في إطار ما بات يُعرف بالدراسات البينية (Interdisciplinary Studies).
لنا في الصراعات الابستمولوجية الطاحنة بجامعة السوربون (Sorbonne) منذ خمسينات القرن العشرين، خير مثال على هيمنة التصور البنيوي الوصفي في اللسانيات؛ إذ أُطلقت عليه تسميات إقصائية لما دونه، رافضة أيةَ دراسة للكلام والاستعمالات اللفظية، ومن قبيل ذلك: الاتجاه الرئيس في علم اللغة (Le courant principal de la linguistique)، والتيار الحقيقي للسانيات (Le vrai courant de la linguistique).
وبالموازاة مع ذلك، طالت هذا التصور الوصفي انتقادات واسعة النطاق من لدن علماء اللسانيات الاجتماعية، وفلسفة اللغة، ومدرسة لندن على وجه الخصوص. بحيث ظهرت أصوات عديدة استماتت في دراسة اللغة في علاقتها بالمجتمع؛ نذكر منها: النظرية السياقية مع فيرث، والتصور الاجتماعي لدراسة اللغة مع مالينوفسكي، وفرضية سابير، ونظرية اللغة والاستعمال مع فِجينشتاين، ثم الاتجاه الوظيفي المنبثق من مدرسة براغ.
إن المشترك بين هذه الأطاريح المناقضة لموقف سوسير من الكلام، هو أن استعمال اللغة اجتماعي تواصلي بامتياز، وليس تحققاً فردياً كما كان يدعي؛ علاوة على أن التفاوت في استعمال اللغة بين الأفراد مرتبط شديد الارتباط بالمتغيرات الاجتماعية، مما يجعله مادة أساسية صالحة للدراسة اللسانية الجامعة بين نطاق اللغة ونطاق المجتمع. ويعني ذلك أن ما يحدث من تغيرات في اللغة مترتب على المتغيرات الاجتماعية، وأن دراسة استعمال اللغة اجتماعياً كفيلة بأن تفسر نواحيها الخفية التي لا يصل إليها الدرس الوصفي.
نستدعي هنا أحد المساقات المعاصرة للمنظور الاجتماعي في دراسة اللغة، ونقصد أحدث مقاربات تحليل الخطاب ذي التوجه اللساني، والمسماة بالتحليل النقدي للخطاب (Critical Discourse Analysis). فإذا كان تحليل الخطاب قد قطع أشواطاً كثيرة في دراسة اللغة في الاستعمال، من خلال تراكم معرفي ومنهجي لعديد من المقاربات التي درست وظيفة الاستخدامات اللغوية؛ فإن سنة 1989 ستعرف ظهور مقاربة التحليل النقدي للخطاب التي تتفق مع جل النظريات والنماذج اللغوية ذات المنظور الاجتماعي في ضرورة دراسة اللغة في سياق الاستخدام. بل إنها تجاوزت ما سبقها بالرؤية الاجتماعية النقدية للاستعمال اللغوي، وما يكرسه من أطماع الهيمنة ومظاهر السلطة المجردة للغة.

فيركلو _ أحد الرواد اللسانيين المؤسسين لمقاربة التحليل النقدي للخطاب
لن نخوض هنا في تفاصيل هذه المقاربة المعاصرة أو مناهجها الستة1، بقدر ما سننفتح على أبعادها الاجتماعية، وما أفرزته من تحولات في مسار الدرس اللساني منذ بداية تسعينات القرن الماضي. ينتفي اعتبار استعمال اللغة (الكلام/الخطاب) نشاطاً فردياً محضاً مع هذه المقاربة، إذ تعده شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية، وتفاعلاً لمستعملي اللغة مع واقعهم ومجتمعهم. ويترتب على هذا الفهم أن المحلل الناقد للاستعمال اللغوي يخوض في تشريح العلاقة الجدلية بين الممارسة الاجتماعية والبناء الاجتماعي؛ فبنية المجتمع والممارسات التي يحتضنها، عواملُ تؤثر بشكل بالغ في بناء الخطاب، كما أن الممارسة الخِطابية مؤثرة كذلك في الهياكل الاجتماعية على صعيد المعرفة والمعتقدات والمواقف والميول.
بات التحليل اللغوي مع مقاربة التحليل النقدي للخطاب (C.D.A) منهجاً لدراسة التغير الاجتماعي، وتُجووِزت معها النظرة الأحادية المغرقة في الوصف، كما لم تعد إجراءات عزل المادة اللغوية المدروسة عن السياق والمجتمع والثقافة والسياسة قادرةً على مواكبة حاجات البشر؛ خصوصاً أن مواقفهم الحياتية المعيشة أصبحت مهددة - بشكل كبير- بالهجمات الأيديولوجية التي تتخذ من اللغة والخطاب مدخلا للهيمنة على المعرفة الاجتماعية، والتحكم في البنى الإدراكية، وتعديل المعتقدات والأعراف المشتركة. وقد رأى اللغويون الناشطون في مجال التحليل النقدي للخطاب -أمثال نورمان فيركلف وتوين فان دايك وروث فوداك- أن مسعى التوفيق بين الدرس اللغوي والشروط الاجتماعية يقتضي إعداد إطار تحليلي قائم على منهجية بينية (Interdisciplinary)، تضمن التوازن بين العناصر اللغوية والعناصر الاجتماعية في التركيب الخطابي.
لقد تأتى لرواد التحليل النقدي للخطاب من خلال جمعهم بين ما تراكم من النماذج والنظريات اللسانية من جهة، والرؤى والنظريات الاجتماعية من جهة أخرى، طرح مقاربة لسانية اجتماعية تتعامل مع النصوص والخطابات بحس نقدي مفرط؛ بحيث إن تحليل المداخل اللغوية لا يهدف إلى وصف المواد الصوتية أو المعجمية، أو تحليل شبكات العلاقات النحوية في النصوص، أو التفاعلات داخل نطاق الخطاب؛ وإنما هو جسر يُعبد الطريق أمام المحلل اللساني الناقد للكشف عن الأطماع الحقيقية للاستعمالات اللغوية على صعيد الممارسة الاجتماعية، وخصوصاً الأطماع السلطوية ومرامي الهيمنة والتحكم في الفئات المستهدفة بالخطاب.
إن الغرض الأَوْلَى للنقد اللساني داخل مقاربة التحليل النقدي للخطاب هو الكشف عن شتى العلاقات بين السلطة المجردة (وليست السياسية) واللغة في ميدان الخطاب. لذلك، تتوجه الأبحاث في هذا المجال إلى مسألتين: السلطة داخل الخطاب، ثم السلطة من وراء الخطاب2. فبالنسبة إلى المسألة الأولى، يُعد الخطاب الميدان الذي تُمارس فيه السلطة بالاستخدامات اللغوية المخصوصة والمنسقة وفق ما يخدم مصالح الإطارات الأيديولوجية، فالخطيب التواق إلى فرض سلطته في الخطاب المنطوق أو المكتوب، ينتقي -من بين إمكانات لغوية وأدائية غير محدودة- ما يخول له التحكم في مضمون الخطاب وعلاقاته الاجتماعية مع الناس، والمواقع التي تتخذها الذوات المشاركة في الممارسة الخِطابية التفاعلية أو الاحتكارية. لنتصور مثلا كيف يتحكم مقدمو البرامج الحوارية في مجريات التخاطب عن طريق الانتقال من مناقشة فكرة إلى أخرى، أو كيف يتخلون عن المناقشات الجزئية التي تقاوم سلطتهم الإعلامية، أو كيف يوزعون أدوار الكلام بين المشاركين، أو كيف يُغذون موادهم الإعلامية بموارد أخرى من خارج بلاتوهاتهم، كالتقارير والربورتاجات والمراسلات الصوتية المصاحبة3.
إن الاستعمالات اللغوية هي مفاتيح التحكم في الممارسات الخِطابية، بل إنها ما يخول للخطيب أن يجعل من المضمون العام والعلاقات والمواقع قيوداً على المشاركة في الواقع العملي. لنستحضر مثلاً القيم الخبراتية للضمائر المهيمنة أو الصيغ الفعلية الأكثر ترداداً داخل الخطاب؛ فكثيراً ما يُحال إلى المراجع الأيدولوجية المتصارعة بسُلَّمِيَّة قيمية، فقد يُحال إلى ذات الخطيب أو من يمثلهم بضمير الجمع (نحن-نا) عند تسويق الشعبية والامتداد والمقبولية لدى الجماهير، وقد يُحال إلى النِّدِّ المنافس في حالات التقليل والتبعيض ونفي الاتصال بمواقف الجماهير وحاجاتهم ورغباتهم الاجتماعية بضمائر الغياب والإفراد، دلالةً على بعده وانفراده وخدمته لمصلحته الخاصة. والأمر سيان بالنسبة إلى الصيغة الفعلية، فكثيراً ما يُستعمل البناء للمعلوم -مثلا- إذا انصب الحديث عن إنجازات الخطيب والإطار الأيديولوجي الذي يمثله، في حين يُوظف البناء للمجهول عند الحاجة إلى السكوت عن الإخفاقات وطمس الخسارات أو إلقاء المسؤولية على أطراف أخرى.
أما بالنسبة إلى المسألة الثانية -نقصد السلطة من وراء الخطاب- فللخطاب علاقات ممتدة مع النظام الاجتماعي؛ معنى ذلك أن الوسيلة الواصلة بين الممارسة الخطابية والممارسة الاجتماعية هي فرض السلطة المجردة على البنى الإدراكية لعناصر الفئات المستهدفة. فغاية الخطاب هي تطويع المخاطَب وتوحيد الأفكار حسب ما يخدم مصالح الخطيب. لذلك، فإن هناك عناصر أخرى تستند إليها السلطة غير العناصر اللغوية، نعني هنا الأبعاد الرمزية للذوات المشاركة في الممارسة الخطابية، واستثمار الشعارات الشعبية، والأحداث التاريخية، والمعتقدات الدينية، والانتماءات الجغرافية والفكرية.
تتآزر -إذن- عناصر التركيب الخطابي اللغوية وعناصر التركيب الاجتماعي المجردة، محققةً اتصالا بين البنى الداخلية للخطاب والبنى الاجتماعية لفرض الأمر الواقع على المخاطَب، وجعل المضامين والأفكار منطقاً سليماً لا يقبل النقاش ولا المقاومة. لكن، ما مظاهر تجاوز الدرس اللساني التقليدي مع مقاربة التحليل النقدي للخطاب؟
لم يعد وصف البنى اللسانية لذاتها وفي حد ذاتها مطلباً ملحاً مع توجه التحليل النقدي للخطاب، كما أن مسار البحث اللغوي تجاوز الاقتصار على الملاحظة والوصف للهياكل والأشكال. ووفق هذا السياق، أضحى البحث اللساني يُعنى بتفكيك العلاقات المعقدة بين البنية الخِطابية والبنية الاجتماعية، وفضح المادة اللغوية المكرسة للأوضاع والعواقب الاجتماعية المترتبة على أبنية النص والخطاب4. إن البحث اللساني حسب هذا المنظور انتقل إلى معالجة الجدوى الاجتماعية للاستخدامات اللغوية، كالتأثير في المعتقدات والأفعال، والتعبير عن السلطة وإنتاجها خِطابياً. فاللغة أداة للاستقطاب، وترسيخ التفاوت الاجتماعي، وانتهاك الحقوق المعنوية والاجتماعية للأفراد والجماعات.
من المظاهر كذلك، تسخير دراسة اللغة لتبيان الآثار البناءة للخطاب في الهويات والعلاقات الاجتماعية، وأنظمة المعارف والإدراكات والعقائد الثقافية والاجتماعية. علاوة على الكشف عن أدوار السلطة والأيديولوجيا في تشكيل الخطاب. بمعنى أن التحليل النقدي للخطاب يستثمر محصلات الأبحاث اللسانية التقليدية لتشريح ما يسميه نورمان فيركلف بجدلية القوالب والممارسات5، أي علاقة التأثير والتأثر بين الممارسات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية، والممارسة الخِطابية.
على عكس ما كان يسمى بالتيار الرئيس في الدراسات اللغوية، لم تعد الدراسات اللسانية المعاصرة تعزل اللغة عن سياق إنتاجها واستخدامها اجتماعياً، بل إن الظواهر اللغوية باتت اجتماعية؛ فالإنتاج اللغوي يخضع لا محالة لطرائق يفرضها المجتمع والأعراف الاجتماعية. كما أن الظواهر الاجتماعية ذات أبعاد لغوية، فالخطاب ينقل الصراعات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعرقية، إلى صيغ وصفات لغوية تكون محط نزاع، كمفاهيم الحرية، والتطرف، والليبيرالية، والإرهاب، والنضال، وغيرها.
أخيراً، يمكن أن نقول إن علم اللسانيات قد أصبح في حاجة ماسة إلى الانفتاح على النظريات الاجتماعية في دراسة اللغة لتحقيق غرضين اجتماعيين حضاريين: أولهما هو مواكبة التطورات الابستمولوجية للعلوم الإنسانية والاجتماعية المتجهة نحو تكسير الحدود بين المجالات والاختصاصات (الدراسات البينية)، وثانيهما هو عدم الاقتصار على المطلب الطويل الأمد الذي هو فهم اللغة، والسير نحو دراسة اللغة لفهم الإنسان والمجتمع.
الهوامش: 1. اُنظر: محمد يطاوي، المرجعية اللسانية في التحليل النقدي للخطاب (في الأصول ونقد المناهج)، نور للنشر، ألمانيا، 2018. / 2. اُنظر مثلاً: نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016. / 3. محمد يطاوي، نحو مقاربة لسانية بلاغية لنقد التواصل الإعلامي، ضمن: يطاوي محمد وآخرون، التحليل النقدي للخطاب: مفاهيم ومجالات وتطبيقات، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا، 2019، ص: 45. / 4. توين فان دايك، الخطاب والسلطة، ترجمة غيداء العلي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014، ص: 34 / 5. نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ص: 35.