أوجه التّشابُه والمُغايرة بين كِتابيْ..

الإمتاع والمؤانسة وألف ليلة وليلة

محمد عبيدة


شهد القرن الرابع الهجري تطوراً بالغاً في الكتابة النثرية؛ وبلغ الكُتّاب شأواً كبيراً فاقوا فيه الشاعر والخطيب؛ وتحولت التقاليد الأدبية لتصير أكثر ارتباطاً بالكتابة والتدوين. وفي هذا القرن، ستشهد الساحة الأدبية ظاهرة تدوين أحاديث المجالس: فتم تدوين أحاديث مجالس العلماء والخلفاء، ومناظراتهم، وأسمارهم، وأماليهم... وقد ساهم في هذا الانتقال تطور أساليب الكتابة، وارتفاع مكانة الكُتاب، ونشوء الدواوين، إلى جانب ما توفره الكتابة من تأن وترو، وإعمال للفكر والنظر، وتأنق في الأساليب، وغيرها من المميزات التي تغيب عن التداول الشفاهي للمعرفة.


وإلى جانب هذا، فقد ارتبطت الكتابة بالنثر ارتباطاً شديداً، إلى حد يمكن فيه المطابقة بين الاصطلاحين، فصارت الكتابة إذا أُطلقت قصد بها الكتابة النثرية، وصار الكاتب لقباً يختص به الناثر أو المترسل. وفي هذا العصر اشتهر البلغاء من المترسلين في دواوين الخلفاء والوزراء، ومن أبرزهم: أبو الفضل بن العميد، والصاحب ابن عباد، وأبو إسحاق الصولي، وغيرهم كثير...

في هذا السياق المعرفي النشط، وفي القلب منه –أي بغداد- نشأ أبو حيان التوحيدي، فكبِر بين حلقات العلم ومجالسه؛ وشهد اللقاءات العلمية بين كبار العلماء من مختلف المشارب، وحضر مجالس الفقهاء والمتكلمين واللغويين والفلاسفة والأدباء؛ وقد مكنته هذه البيئة العلمية من أن يصير أحد أعظم أدباء هذا العصر، إلى الحد الذي صار فيه أبو حيان: أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. وقد كانت مؤلفاته المتنوعة ذات صيت واسع في عصره، وانتشرت في حياته انتشاراً كبيراً.

وهنا، نشير إلى ملامح ثلاثة أساسية من ملامح الكتابة عند أبي حيان: أولاها، تدوين أحاديث المجالس من مناظرات وأسمار، ومذاكرات ومباحثات؛ وثانيها، ارتباط صناعة الكتابة الفنية بالصناعات المعرفية الأخرى، بمعنى آخر، فقد مد أبو حيان من مساحة البلاغة لتصير فضاء تعبيرياً لباقي المعارف والفنون، وهو ما يمكن تسميته بـ"الافتنان". إن كتابة أبي حيان لا تقتصر على الإخوانيات، وليست كتابة في أدب النوادر والأخبار، ولا كتابات فلسفية صرفة، بل هي مزيج من كل هذه الأفانين. وبهذا، تصير الكتابة الفنية لدى أبي حيان، صورة لطبيعة المجالس وفضاءات إنتاج المعرفة وتداولها في القرن الرابع الهجري. وثالث الملامح التي يمكن الإشارة إليها من كتابة أبي حيان، هو الانتقال من تدوين المجالس، إلى نقلها لمن غاب عنها، بالاستفادة مما توفره الكتابة من إمكان لنقل المعرفة عبر المسافات والأزمنة.

من هنا، سيظهر شكل آخر من أشكال الصلات والعلاقات المعرفية بين رجال العلم والفكر في ذلك العصر، وهو أدب الرسائل. فلم تعد الكتب والرسائل خطابات وجيزة، تؤدي وظائف محدودة؛ بل صارت وسيلة للتواصل العلمي بين العلماء، يتغلبون فيها على إكراهات الزمن والمكان وقيودهما، فصار العلماء يتبادلون الرسائل، ويتناقلون المعرفة يتداولونها بينهم من خلال الرسائل.
 

أولاً: أوجه التشابه بين ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة

يلحظ القارئ للإمتاع والمؤانسة ولليالي مجموعة من السمات المشتركة بين الكتابين، سواء في الشكل السردي، أو في طبيعة السارد والمسرود له، وهذه بعضها:

التوالد الحكائي:

في مقدمة الإمتاع، يسرد أبو حيان التوحيدي سياق تأليفه لكتابه؛ ويمكن يجاز هذا السياق، في أن أبا الوفاء المهندس توسط لأبي حيان، وأوصله إلى مجلس الوزير ابن سعدان، الذي أعجب باتساع معرفة التوحيدي، فعقد مجموعة من المجالس والمسامرات الليلية بينه وبين أبي حيان... ولما علم أبو الوفاء بهذه المجالس غضب على أبي حيان لكتمانه لها عنه، وبعث إليه يوبخه، ويطلب منه أن يدون له جميع ما دار في تلك المسامرات، فوافق أبو حيان، وألف كتابه: "الإمتاع والمؤانسة".
هذا السياق فرض على أبي حيان أن يوفق بين أمرين: الاعتذار من أبي الوفاء واستلطافه؛ والحفاظ على مبادئه الأخلاقية من كرامة وتعفف ورفض للذل والمهانة. وقد أدى به السعي إلى التجديل بين هذين الموقفين إلى توظيف بلاغة قائمة على التصريح والتلميح؛ التصريح بالاعتذار والاستلطاف، والتلميح والرمز إلى مبادئه والإشارة إليها1.
وهنا يلتقي كتاب الإمتاع بألف ليلة وليلة، إذ تبدأ حكايات الليالي بحكاية شهريار وأخيه شاه زمان اللذين اكتشفا خيانة زوجتيهما، فقرر شهريار أن يتزوج في كل ليلة فتاة عذراء ثم يقتلها عند الفجر، إلى أن جاءت شهرزاد، واستطاعت تخليص بنات جنسها من القتل، من خلال سرد حكاية مشوقة لشهريار كل ليلة، تضطره للإبقاء عليها إلى حين انتهاء الحكاية.

استبداد المسرود له:

إذا قارنا بين المسرود له في الليالي، والمسرود له في كليلة ودمنة، والمسرود له في الإمتاع والمؤانسة، فسنجد عدداً من أوجه التشابه والاختلاف في الوظائف التي يؤديها كل مسرود له في هذه الحكايات؛ ففي ألف ليلة وليلة، لا يتدخل شهريار في بنية الحكايا، ولا يشترط شروطاً خاصة به؛ غير أن ثمة شرطاً ضمنياً تراعيه شهرزاد في حكاياتها، وهو أن تكون ممتعة ومشوقة، إلى الحد الذي يجعله يبقيها إلى الليلة المقبلة. لكن، ماذا عن الإمتاع والمؤانسة؟ ثمة تشابه بين الإمتاع والمؤانسة وألف ليلة وليلة، فنجاة السارد وأمله في الخروج من مأزق الفقر معلق برضا المسرود له2، وهو هنا يشابه وضعية شهرزاد، التي تعد نجاتها معلقة برضا شهريار، واستمتاعه وتشوقه لسماع الحكايات.

السارد العليم:

يتصف السارد في حكايات الليالي والإمتاع والمؤانسة بكونه سارداً عالماً، يمتلك معيناً لا ينضب من الحكايا، قد نهل من العلوم والمعارف وأخبار الماضين وعلوم الأوائل، ثم هو ينتخب من هذه العلوم ما يناسب حال المسرود له؛ ففي ألف ليلة وليلة، اختارت شهرزاد من الحكايات ما يشوق شهريار ويجعل شغف الاستمتاع بالحكايا يغلب شغفه بالقتل والانتقام؛ وأما أبو حيان، فكان في كل ليلة يجيب عن إشكالات الوزير وأسئلته، ويروي ظمأه من المعارف، دينية كانت أم فلسفية.

مجالس الحكي الليلية:

في كل من ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة، يبدأ الحكي ليلاً؛ شهريار بعد فراغه من شؤون الحكم وخلوده للراحة، وأبو حيان والوزير بعد صلاة العشاء؛ أي في المسامرة. وكل من شهريار والوزير يشغل منصباً سياسياً: الإمارة والوزارة؛ ولذلك، فإن الليل يعد الزمن الأمثل لبدأ الحكي وعقد مجالسه.

وتعد المجالس بمختلف أشكالها أحد أهم الفضاءات الثقافية العربية المبكرة، والتي من خلالها كان يتم تداول العلوم والمعارف؛ فهناك مجالس الفقهاء، ومجالس المحدثين، ومجالس المفسرين، والمتكلمين، والقضاة، والقصاص والوعاظ، ثم هناك مجالس التعليم، ومجالس المذاكرة، ومجالس البحث والمناظرة؛ ثم هناك مجالس الخلفاء والوزراء، ومجالس العوام في المساجد... وبما أن الحكي بوصفه فعلاً تواصلياً مباشراً بين الراوي والمروي يتطلب مجلساً خاصاً، فقد كانت له هو الآخر مجالس خاصة به، تختلف تبعاً للموقع الاجتماعي لأطراف الحكي، فهناك مجالس للعامة، وأخرى للخاصة.

كما أن طبيعة أطراف الحكي تتحكم في طبيعة مضامين المحكيات كما سنرى بإذنه تعالى. وقد كان للعرب قبل الإسلام مجالس خاصة بالحكي، وكثيراً ما كانت هذه المجالس تنعقد ليلاً، وهي التي كانت تسمى بالمسامرات، فيتذاكرون الأيام والأخبار، ويتناشدون الأشعار... ومع مجيء الإسلام، استمرت هذه العادة أيضاً، وإن بشكل أقل، لكنها عادت إلى البروز مرة أخرى بعد انتهاء عهد الخلافة الراشدة وبداية العهد الأموي. وأول من عرف –من الخلفاء- بمجالسة الرواة وأصحاب الأخبار هو معاوية بن أبي سفيان، وأصح من نسب إليه مجالسته عبيد بن شرية، وهو رجل مكثر من أخبار اليمن وملوكها؛ على أن الذاكرة العربية قد نسبت إلى معاوية مجالسة كثير من الرواة ممن لهم علم بأحوال الماضين، فتطورت العديد من المرويات السردية، وأضاف لها المخيال العربي كثيراً من التفاصيل القصصية، والزخرفة اللفظية.

ثم استمرت هذه المجالس في الذيوع والانتشار؛ واتسعت رواية مجريات هذه المجالس، وما دار فيها من أحاديث وأخبار، وحكايات وأسمار... ليتم الانتقال إلى مرحلة تدوين هذه المجالس وكتابتها؛ وللكتابة دور كبير وفاعل، فهي ليست كتابة تسجيلية فقط، بل تمتد آثارها إلى التأنق في الأسلوب، والتصرف بالحذف والإضافة والتنظيم والاستطراد، وغيرها من الإمكانات التي توفرها الكتابة.
 

ثانياً: أوجه المغايرة بين الإمتاع والليالي.. من المشافهة إلى السرد الرسائلي

يعتمد أبو حيان في سرده على طريقة جديدة في الكتابة لم تكن معهودة في زمنه، وبها تجاوز ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة؛ فالسرد هنا يتم عبر الكتابة، وداخل الكتابة عبر الرسائل؛ ومن خلال هذه الرسائل تتطور الحكاية وتنمو أحداثها. ولا شك أن لعصر التدوين دخلاً في الأمر؛ إذ ظهر إلى جانب المسامرات والمجالس نوع آخر من السمر: وهو السمر مع الكتب، وفي هذا العصر تحديداً –عصر أبي حيان- قال المتنبي بيته الشهير والدال في سياقنا هذا:
... وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الأنَامِ كِتابُ

فانتشرت الكتابة وصارت لها تقاليدها وقوانينها، وأعرافها وأنماط تلقيها، وصار للكتابة سوق معرفية رائجة. ومن الملاحظات التي تثيرها وضعية المسرود له في هذه الحكاية، تدخل أبي الوفاء بوصفه متلقي الكتاب المركزي، والأساس في بناء الكتاب وفي تشكيل بلاغته، حيث يحدد السمات البلاغية والأسلوبية التي يجب أن يخرج فيها الكتاب.

وهناك وجه آخر للمغايرة بين طبيعة السرد في الإمتاع والمؤانسة، وطبيعته في الليالي، فالسرد في هذه الأخيرة مباشر، شفهي، غير مدون، ولم يدون إلا بعد نهاية الحكي؛ وأما في الإمتاع والمؤانسة، فالسرد جاء مكتوباً، ولهذا الأمر تفسير يتعلق بعصر التدوين والتحولات التي مارسها على طبيعة التلقي.

يقول أبو الوفاء: "ليكن الحديث على تباعد أطرافه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً، وتوخ الحق في تضعيفه، والصدق في إيضاحه وإثباته، واتق الحذف المخل بالمعنى، والإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغني عنه، واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، والقبيح فانقص من قبحه، واقصد إمتاعي وإفادتي..."3.

إن هذه العناصر تقودنا إلى الوقوف عند خصائص الكتابة النثرية المتميزة، من وجهة نظر هذا المتلقي الخاص.. فهو يذهب إلى الوضوح باعتباره السمة المميزة للنثر، وتركِ التعقيد وجعلِ المعاني على أقدار الألفاظ، دون إخلال بأحدهما دون الآخر... كما نجده يركز على الجوانب العقلية، فالنثر غير الشعر، وليست وظيفته تخييلية إمتاعية محضاً، بل هو يجمع بين الإمتاع والإفادة، بهذا تغدو الكتابة وظيفية، تتجاوز الأفق الجمالي لتصل إلى المعرفي والعقلي. وهنا نجد التوحيدي ملزماً بالوفاء بهذه الشروط؛ لأنها صادرة من المتلقي المباشر للكتاب، فيسارع التوحيدي إلى إعلان موافقته على هذه الشروط رغم صعوبتها ومشقتها.


هوامش: 1. انظر: أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تح: محمد حسن إسماعيل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2007، ص: 10 فما بعدها.┊2. الإمتاع، ص: 25. ┊3. الامتاع والمؤانسة، ص: 17.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حاتم صلاح السروي

مقال متميمز ودراسة أدبية سهلة ومفيدة، لقد تعلمت أشياءً من هذه المقالة، منها: أهمية الكتابة في الحضارة العربية منذ القرن الرابع الهجري، ونشأة أدب الرسائل، ومفهوم الافتنان عند أبي حيان التوحيدي، وأوجه الشبه بين ألف ليلة وليلة وكتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (التوالد الحكائي- استبداد المسرود له "شهريار في ألف ليلة وليلة وأبو الوفاء المهندس في الإمتاع- السارد العليم- مجالس الحكي الليلية"وأعجبتني الشرط وط التي وضعها أبو الوفاء لكتابة "الإمتاع والمؤانسة" وأشكر لمجلة الرافد نشرها لهذه الدراسة المتينة والنافعة والمهمة أيضًا..وهكذا عودتنا مجلة الرافد على نشر كل ما يثري معارفنا ويساهم في نهضة الثقافة العربية.

4/23/2022 5:30:00 PM

1