مفهوم الترجمة وأدوارها

قراءة في كتاب "بول بولز مترجماً" لعبد القادر سبيل

بوشعيب الساوري



ينطلق كتاب "بول بولز مترجماً" للأستاذ عبد القادر سبيل، الذي ترجمَه الأستاذ محمد مفضل عن الأصل الإنجليزي (Translating/Rewriting the Other: A Study of Paul BowlesTranslation of Moroccan Textsالصادر عن منشورات ) (LAP LAMBERT Academic Publishing سنة 2012، والذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه، من أن عمل بول بولز في التّرجمة يطرح إشكالية التّرجمة بحدة، التي تطرْح مجموعة من الأسئلة حول ترْجمات بول بولز: ما هو النص الذي من المفترض أنه تُرجم من العربية المغربية؟ هل هو النّص المترجم من الإسبانية أم من الفرنسية؟ وهل كانت هذه النصوص فعلاً موجودة في الأصل؟ وهل كان بإمكان شكري ولمرابط والشرادي التكلّم، مع أنهم أميون ولا صوت لهم؟


ينطلق عبد القادر سبيل من فكرة قلة الاهتمام الأكاديمي ببول بولز، كمُترجم؛ وحتى الدراسات التي اهتمت بنصوصه المُترجمة اكتفت بالاهتمام بالتّيمات التي تطرحها عوض فعْل التّرجمة، وبما أن البحث الأكاديمي يتطلّب العودة إلى الدراسات السابقة، فقد أكد الأستاذ عبد القادر سبيل أن مقال جون ماير: "حكاءان مغربيان في كتاب بول بولز خمسة أعين: العربي العياشي وأحمد اليعقوبي"، والذي ظهر في مجلة Postmodern Culture بتاريخ 13 ماي 1991، وأعيد نشرُه في كتاب أغاني صحراوية: صور غربية عن المغرب وصور مغربية عن الغرب [1996]، هو النقد النافذ الوحيد لحكايات بولز المترجمة، منطلقاً من تصورات ما بعد حداثية لمشيل فوكو وإدوارد سعيد، والأنثروبولوجيين غيلفورد غيرتز وديزي هلس دوار. لكن ما يلاحظه عبد القادر سبيل على ماير هو أن دراسة هذا الأخير تقتصر على الحكايات، ولا تتّسع لتشْمل السّير الذاتية. هذا يبرّر مناقشة الأستاذ سبيل للسّير الذاتية كمجالات للتّجريب والتمثيل الأنثروبولوجي. ولما كان الأمر كذلك يتساءل عبد القادر سبيل حول الكيفية التي يظهر بها هؤلاء أشباه الكتاب في نصوصهم.

للإجابة عن هذا السؤال اختار عبد القادر سبيل متناً ملائماً هو ترجمات بول بولز لنصوص مغربية، رواها محمد شكري ومحمد لمرابط وإدريس بن أحمد الشرّادي، وخصوصاً نصوصهم البيوغرافية، وتحديداً الخبز الحافي لمحمد شكري، وانظر وتحرك للأمام لمحمد لمرابط، وحياة مليئة بالثقوب لإدريس بن أحمد الشرادي؛ لأنها هي النصوص التي تحقّق فيها فعْل التّرجمة الذي هو موضوع هذا الكتاب. الأمر الذي سيجعل من مفهوم الترجمة مفهوماً مركزياً في الكتاب، وسيكون هو محور اهتمامنا.

كما سبقت الإشارة أعلاه فإشكالية الترجمة تفرض نفسها؛ عندما يحاول المرء دراسة أعمال بول بولز، بل أكثر منذ ذلك تطرح طبيعة الترجمة ومفهومها في العمل الترجمي لبول بولز، وكذلك الأدوار التي يمنحها لها.

 

1- مفهوم التّرجمة

فعلاً يحفل كتاب بول بولز مترجماً للأستاذ عبد القادر سبيل، بعدة مفاهيم للتّرجمة تتكامل فيما بينها لتعرض لنا كيف مارس بول بولز ترجمة حكايات وسير ثلاثة رواة مغاربة، وهي:

أ- الترجمة إعادة كتابة للآخر
يعتبر الأستاذ عبد القادر سبيل أن فعْل الترجمة في عمل بول بولز، نظراً لكونها فعلاً ثقافياً، إعادة كتابة للآخر (Rewriting the Other) نظراً لارْتكازِها على الاختلافات بين الذّات والآخر من جهة، ومن جهة أخرى لكوْنها صيغاً للاختلافات الثقافية، ليكشف عن حقيقة أدبية وأنتروبولوجية، تتمثل في كون اختيار بول بولز الكاتب الأمريكي لهذه الترجمات ليس مجانياً، بل استخدمها كذريعة للتّعبير عن تجربته وعن آرائه عن الواقع المغربي، بحسّ استشراقي يقدّم المغرب على أنّه بلد غريب وبدائي.

ب - الترجمة تمثيل للآخر
يرى الأستاذ عبد القادر سبيل أن بولز انتقل بالتّرجمة من كونها نقلاً أميناً من لغة المصدر إلى لغة الهدف، إلى كونها فعْل تمْثيل لثقافة المصدر من قبَل ثقافة الهدف؛ إذ نصّب بولز نفسه ممثلا للآخر، بحجة أنه لا يستطيع تمثيل نفسه والتحدث عن نفسه، وهذه الفكرة متجذرة بعمق في التفكير الغربي وتصل إلى زمن الإغريق كما يؤكد عبد القادر سبيل. وبالتالي يُحرم الآخر من القدرة على التحدّث عن نفسه، ويؤكد أنه يظل دائماً في حاجة إلى من يتحدث نيابة عنه. يمكنه القيام بذلك فقط من خلال صوت الإثنوغرافي/ بولز. وبذلك يضع الإثنوغرافي/ بولز نفسه وصياً على الثقافة الشفهية المغربية لأنها، حسب اعتقاده، ضعيفة وبحاجة إلى أن يتم تمثيلها.

فبول بولز ترجم حكايات مغربية إلى اللغة الإنجليزية، ومثّل من خلالها الثقافة المغربية للغرب، بمعْنى أنّه قدّم نفسَه كممثل لها ينوب عنها؛ إذْ تجاوز دور المترجم البسيط إلى منشئ للنّص ومُبدعه، وهذا ما أخذه عليه الطاهر بنجلون ومحمد شكري نفسه.

واستقى سبيل التّرجمة كتمثيل من إدوارد سعيد، عندما تحدّث عن المعرفة التي أنتجها الغرب عن الشرق كتمثيل لعالم متخيّل موجود فقط في ذهن المستشرقين. مثل هذا التمثيل يفتقر إلى الشفافية، ويتوسّطه التحيز ضد المشرق والشرقيين، يذهب عبد القادر سبيل إلى أن تصور إدوارد سعيد صالح للترجمة الثقافية أيضاً. واعتمد في ذلك على طلال أسد وجيمس كليفورد وآخرين. واختيار منظورهم الأنثروبولوجي ليس مجانياً؛ لأن الطريقة التي يقدمون بها عمل الأنثروبولوجيا تشبه تلك التي استخدمها بول بولز في جمع المعلومات/ البيانات واستخدام المخبرين. لا يمكن أن تكون النتيجة المباشرة للقاء بين الأنثروبولوجي المغربي والأمريكي/ بولز هي الرغبة في إعادة إنتاج "الواقع كما هو"، بل هي بالأحرى ثقافة متخيلة أو مخترعة.

 ج - الترجمة تحويل للآخر
إذا كانت الترجمة إعادة كتابة وتمثيل للآخر؛ فإن عبد القادر سبيل يدْعونا إلى فهْم الترجمة كعملية تحويل وتشويه وإزاحة وتكييف للغيرية. ونظراً لكون الرواة الذين ترجمهم موضوعات مباشرة للتحويل والنقل هذه، يتم تحويل شكري ومرابط والشرادي بأيدي بولز إلى "مجالات معرفة" صامتة، أو "فضاءات جسدية"، مقابل ذلك يُفسح المجال لنفْسه للتّعبير عن مواقفه من المغرب والمغاربة، ليجعل من فعل الترجمة إزاحة للآخر وإسكاتاً له، كل ذلك تلبية لتوقّعات قرائه الغربيين، وبالتالي يتم محو الأصل بطرق تخدُم هيمنة وسلطة المترجم وثقافته؛ أي أن الترجمة الثقافية، حسب هومي بابا تعبّر عن الانتقال من الترجمة كنص إلى الترجمة كثقافة وسياسة، هذا هو السياق الذي يموضع فيه عبد القادر سبيل دراسته لبول بولز.

د - الترجمة فعل إثنوغرافي
يلفت انتباهنا الأستاذ سبيل إلى أن هذه النصوص المروية والمترجمة مشبعة بالروح الأنتروبولوجية؛ إذ تحتوي ترجمات بولز التي تتجاوز كونها أدبية على عناصر إثنوغرافية، وبالتالي فالترجمة مصدر للمعلومات التي تعزّز خطاب بولز حول المغرب؛ فاهتمام بولز بما هو غريب وغير عقْلاني وبدائي في المغرب، يُملي على رواته المغاربة الأميّين طبيعة القصص التي كان عليهم أن يروونها له. هذا ما حذا بالأُستاذ عبد القادر سبيل إلى أن يعدها بمُجملها دراسات أنتروبولوجية حول المغرب، لا تختلف عن الدراسات التي قام بها أنتروبولوجيون ككليفورد كيرتز وفانْسان كرابانزانو (Crapanzano) وبول رابينو حول المغرب. نظراً للتّشابه بين عمل هؤلاء الأنتروبولوجيين وما قام به بولز في ترجماته؛ إذ اعتمد هؤلاء الأنتروبولوجيون في مشاريعهم العلمية على الترجمة كوسيط لساني لضمَان نقْل تجْربتهم عن المغرب، ونفْس الشيء قام به بولز إذ سجّل "السير الذاتية / الحكايات"، وترْجمها باستخدام العربية المغربية والإسبانية والفرنسية، أمّا ما كتبَه شُكري فتمّ تحْويله من الفُصحى إلى العامّية المغربية، ومنْها إلى الفرنسية والإسبانية ثم إلى الإنجليزية.

وبالتالي فترجمة / كتابات بولز هي إثنوغرافية بحْتة لأن اهتمامه، فيها، هو توثيق الثقافة الشّفهية للمهمشين، وإثبات أن التقاليد الأصلية والهوية العرقية يتم الحفاظ عليها من خلاله. دور بول بولز، باختصار، هو التدخل نيابة عن السكان الأصليين لمنع الضياع الثقافي أو الانقراض، والذي هو مصدر قلق لبول بولز يعبر عن حنينه إلى الماضي؛ لأنه يطمح لتلك اللحظات البائسة والرومانسية التي فشل في التقاطها، ولكن وجدها في المغرب. لا يختلف حنينه كثيراً عن حنين العديد من علماء الأنتروبولوجيا. إن البحث عن عالم نقي وبريء والإصرار على أن يكون المرء بديلاً عن هذه الثقافة دليل على إرادة السلطة، كما أن التحدث نيابة عنها وتنسيقها هو محاولة لاستعادة "البدائية" البعيدة والتي لا يمكن استرجاعها.

هـ - التّرجمة كمواجهة
يوجد مفهوم آخر للتّرجمة في هذا الكتاب وهو اعتبار الترجمة كمواجهة بين هوية المترجِم وهوية المترجَم، فهذه العلاقة هي علاقة قوة، حيث ينطوي تعريف الذات على مواجهة مستمرّة مع الآخر. تصبح الترجمة تمثيلية لأنها تمكّن المترجم من اكتساب القوة والهوية على حساب الذات المترجَمة، وبذلك ترتفع فوق الآنية، والذات، إلى الأجنبي والغريب لتأسيس اختلاف ودونية المهيمَن عليه. ليؤكد سبيل أن ترجمة الآخر مشروطة بالاختلافات التاريخية والثقافية، ولا يمكن مناقشتها خارج هذا الإطار.

و- الترجمة امتلاك وهيمنة
تعبّر الترجمة في كثير من الأحيان عن رغبة في امتلاك الآخر أو معرفته أو التحكم فيه. في حالة بول بولز ورواته، تبدو بجلاء ممارسة السّلطة في استخدام اللغة الإنجليزية وفي القُدرة على الكتابة والقراءة، فشكري ولمرابط والشّرادي أمّيون، فتم تجنّب التّعبير عن أصواتهم لإعطاء مساحة كاملة لصوت بولز نظراً لكونه سيّد اللغة والكتاب. فبولز يستعمل شكري ولمرابط والشرادي كمداخل للمغرب وللمجتمع المغربي، فوجودهم يخضع فقط لإرادة بولز للتحدّث نيابة عنهم، وبالنيابة عن المجتمع الذي أنتجهم.

وحاول الأستاذ سبيل في هذا الفصل التأكيد على أن التّرجمة ليست خالية من الأيديولوجيا؛ فاستعمال لغة أجنبية لشرح مظاهر ثقافية هو في حدّ ذاته إشارة على وجود إرادة لدى المترجم لإنتاج تمثيل خاص به لهذه الثقافة؛ لأن التمثيل لا يمكن أن يتم خارج حدود اللغة. ولإثبات هذه الفكرة، اعتمد على أفكار مجموعة من منظّري الأنتروبولوجيا كجوهانس فابيان، جيمس كليفرد وكليفرد غيرتس، تمثيلاً لا حصراً.

تتم ترجمة الثقافات الأخرى بواسطة هياكل السلطة. يتلخص هذا في استخدام مصطلحات طلال أسد، "عدم المساواة في قوة اللغات". بعبارة أخرى، ترجمة الثقافة تتبع نمط الاختلاف والقوة. حجته هي أن علماء الأنثروبولوجيا يكتبون عن الأميين أو غير الناطقين باللغة الإنجليزية. هذا ينطبق على بولز. مخبروه أميون باستثناء شكري الذي حقق نوعاً من محو الأمية في مرحلة لاحقة من حياته. إنهم لا يتحدثون لغة أخرى، لكن العربية المغربية تتخللها الإسبانية وأحيانًا الفرنسية.

يتم تنفيذ الهيمنة عن طريق كتابة / ترجمة الآخر أو بالأحرى تأليفه نصياً، هو توفير المعرفة بهدف خلق مساحة يمكن فيها تدوين علاقة القوة. تصبح النصوص الموجودة بواسطة المواطن الأصلي هي الأساس الذي يمكن فيه للإثنوغرافي/ بولز ممارسة سلطته بحرية؛ لأنه في اللحظة التي ينقل فيها المعلومات/القصص المجمعة/المسجلة في لغته، ينتقل بالفعل إلى تخصيص الموضوع قيد الدراسة. أي يصبح المواطن الأصلي ملكاً له أو عبداً. المواطن لا يستطيع التحدث إلا من خلال صوت سيده. كما يجادل هومي بابا بأن المواطن الأصلي يصبح "منطقة معرفة" باستخدام لغة إدوارد سعيد. هذه المعرفة يمكن الوصول إليها فقط من خلال لغة المستعمِر.

تحول اللغة، على يد الأثنوغرافي / بولز، إلى استراتيجية يصبح من خلالها التمثيل أو بالأحرى "التشويه" ممكناً لأن الأشخاص الخاضعين، كما يجادل إدوارد سعيد، يفتقرون إلى القدرة على التّحدث عن أنفسهم والتّصدي للمعرفة المنتجة حولهم. وهكذا يصبح الإثنوغرافي هو الصوت الوحيد المسموع في النص؛ لأنه يتمتع بقوة وسلطة اللغة.

2- أدوار الترجمة

تضطلع الترجمة، في أعمال بول بولز، بالنسبة للأستاذ سبيل بعدة أدوار: 

أ-التّرجمة مقاومة للنسيان
تمحْور الفصل الأول من حوْل فكرة التّرجمة/الكتابة كمقاومة للنسيان؛ بين فيه أن ترجمة بول بولز لنُصوص شُكري، لمرابط والشّرادي مثْل نوع من المُقاومة للنّسيان نظراً لكونها جاءت في لحظة حرجة بشكل خاص في حياة بول بولز تميزت ببداية تضاؤل إنتاجه الأدبي، فكانت الترجمة بالنسبة له وسيلة تمكّن من خلالها من الاستمرار ككاتب وتجنّب السّقوط في النّسيان.

ولمعالجة هذه الفكرة، انطلق من مجموعة من المرجعيات الفكرية. اعتمد عبد القادر سبيل جورج بطاي وجيل دولوز وجاك ديريدا، وبلونشو وفوكو في مفهومهم للكتابة واللغة والتأليف.

منها تصور مشيل فوكو للكتابة كتحدّ للموت وتحقيق للذات اعتمد على ميشيل فوكو، مثلما كان الحكي إطالة لحياة شهزاد، أي أنّ الكاتب يتمّ حكايته ثم يموت بعد ذلك، لكن الموت ليس نهاية في حدّ ذاته بل هو بداية لتأسيس هوية وذاتية الكاتب بعد أن طاله النسيان، أي أنه يؤجّل النّهاية التّامة وهي الموت، ويعانق الأبدية بلغة فوكو، وهذا ما حدث مع بول بولز فقد كانت الترجمة/ الكتابة بالنسبة له تحدياً للموت الرمزي والمتمثل في النسيان.

كما حاول عبد القادر سبيل الاستفادة من مفهوم اللّغة والكلام لموريس بلانشو كأشْكال للموت، والتي يحاول الكاتب/المترجم جاهداً الإفلات منها ليجد نفسه محاصراً بحدود اللغة التي يستعملُها. تبْقى اللّغة من هذا المنظور غير الكتابة. بالنّسبة لبلانشو، فهما مترابطتين بطريقة متلازمة.

ب- الترجمة لها وظيفة علاجية
بين عبد القادر سبيل في الفصل الأول من كتابه أن الكتابة/الترجمة لها وظيفة علاجية وفق منظور الفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز وفيليكس غتاري؛ لأنها مكنت بول بولز من تحقيق ذاته وتجميع هويته المتشظية، وبلغة جورج بطاي الكتابة انعتاق من الجنون؛ إذ إن ترجمة بولز باعتبارها إعادة كتابة اكتسبت بعداً علاجياً جنبته الجنون.

ج- الترجمة استيلاء
استفاد عبد القادر سبيل من أفكار فرانز فانون حول الهجنة في مناقشته لترجمات/كتابات بولز، عند حديثه عن الكتابة في وضعية كولونيالية يجد الكتّاب أنفسهم مجبرين على إعادة إنتاج تقنيات ولغة مستعارة؛ فرواة بول بولز يعدمون القدرة على إنتاج كتابة إبداعية، إنهم حكاة ماهرون، ولكنهم ليسوا بالضرورة كتاباً، يتعلق الأمر في ترجمات بول بحكايات مكتوبة مترجمة تعبر عن هموم وانشغالات بولز. فقد استولى بترجمته /كتابته على حكايات رواته باللغة الإنجليزية، على أصواتهم، ليسمح بذلك لترجمته وكتابته بأن تتحولا إلى مشروع ثقافي متوفر وقابل للقراءة خصوصاً بالنسبة للغرب، انطلاقاً من تحكمه في الصيغ السردية للأحداث وصياغة الشخصيات والتي يتلقى المدح من أجلها. يعتبر عبد القادر سبيل انطلاقاً من تصور فانون ترجمات/كتابات بولز كتابة ما بعد كولونيالة من حيث إنها تحاول تصوير الإنسان المحلي كغريب في ثقافته الخاصة، مستعملاً لغة تبيّن بأن هذا الكاتب قريب من الشعب، ولكن الأفكار التي يعبر عنها وانشغالاته لا علاقة لها بالمعايير والقيم الثقافية المغربية، فقد حاول بولز أن يكون ابن البلد لكن دون جدوى لأنه يقاوم التأقلم وكره كل ما هو مغربي. مثل هذا الموقف هو معبر عنه بطريقة واضحة في ترجماته وكتاباته، إذ أسكت بولز رواته لإعطاء الأولوية لنفسه ولصوته وجعلهم تابعين.

د- الترجمة تشويه للآخر
يقارب الفصل الرابع الترجمة كتشويه للأشخاص المترجمِين؛ لأنهم يعيشون على هامش مجتمعهم، ويخضعون للاضطهاد الاقتصادي، فشكري ولمرابط والشرادي يصبحون من خلال ترجمتهم مواضيع سهلة للتمثل. ما يحدث ببساطة هو أن الحكايات السابقة تتم إعادة إنتاجها / إعادة تفسيرها وإعادة تأديتها. وبالتّالي الترجمة في هذا الصدد هي شكل من أشكال الإزاحة والتشوه والتحويل، عبر القدرة على تعديل الكتابة لتناسب نفسية الفرد أو نزواته، فإقحام بولز نفسه في النّصوص المغربية الشفهية الزائفة هو في حد ذاته مؤشر على أن هدفه هو تحويل الواقع المغربي لتلبية توقعات قرائه الغربيين. بعبارة أخرى، تتمثل مهمته في إنشاء / رسم صورة رمزية لعالم رائع لا يمكن تحقيقه إلا من خلال ترجمته/ كتابته.

في الختام؛ نؤكد أن فعل الترجمة لدى بول بولز فعل ثقافي يتمظهر من خلال مجموعة من المفاهيم المتداخلة والمتفاعلة (إعادة كتابة، مواجهة، تمثيل، إثنوغرافيا، تحويل، امتلاك) والتي تضطلع بعدة أدوار تخدُم بالدرجة الأولى المترجِم وثقافته (مقاومة النسيان، التشويه، الاستيلاء)، على حساب المترجمين وثقافتهم.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها