"هنا يموتون مرات عديدة" لإبراهيم المطولي

قصص الفقر والمرض في القرية المصرية

حسان العوض



الكاتب المصري إبراهيم حسين مصطفى المطولي فازت مجموعته القصصية الأولى "هنا يموتون مرات عديدة" بجائزة الشارقة للإبداع العربي/ الإصدار الأول في العام 2010، كما فازت روايته الأولى "الحرّيق" بنفس الجائزة في العام 2022، وبينهما أصدر أربع مجموعات قصصية "سيد النخيل 2014- قمر لا يضيء الحضير 2017- إيمان 2018- حنين إلى العافية 2021".


 

وهذه المقالة إعادة قراءة لمجموعته القصصية الأولى "هنا يموتون مرات عديدة"، وظرف المكان الوارد في العنوان يعود إلى القرية المصرية التي ينتمي إليها المؤلف، وهي تشكل الفضاء المكاني العام للقصص الستة عشر التي ضمتها المجموعة، فحتى القصص التي يبدو أنها تحدث في المدينة، لا بد وأن تكون فيها عودة إلى القرية. هذه القرية التي يفتك الموت بأهليها حقيقة ومجازاً، حقيقة كما في القصة الأولى التي تحمل المجموعة عنوانها، وقصة "بدايات تحدث مرة أخرى" التي فيها إشارة إلى أن زوج البطلة قُتل (أمامها وقد حملته بيديها) [ص: 84].

أما الموت مجازياً فيتعدد ويتنوع بكثرة أسبابه وعلى رأسها الفقر (الوحيد الذي ظل معربداً بالأركان) [ص: 85].

والفقر هو الذي منع أم الراوي من دفع الأجرة عن ابنها الطفل رغم الحرج والتوتر النفسي اللذين سببتهما له في قصة "نهاية خط السير"، وفي قصة "الكي بالماء" يحضر التعنيف الجسدي الذي يترك رضوضاً نفسية لا تشفى، ويمارسه الأب على ابنه الذي يعاني من التبول اللاإرادي.

هذه القرية الفقيرة ليس لأهلها من سند، فحتى الخفر المكلفين بحمايتها يسرقون الأخشاب التي يتدفؤون عليها ليلاً، وقد وردت هذه الفكرة نفسها في قصتين اثنتين ما يدل على تكرار معادلاتها في الواقع، والشيخ المكلف بتوعية هؤلاء الناس الفقراء سيتبين أن مهمته تتلخص في قصة "غياب" بقوله في (خطبة الجمعة: إن طاعة ولي الأمر من طاعة الله) [ص: 18].

ولكم كان صادماً ومحزناً في قصة "وظيفة خالية لشيخ أزهري" اكتشاف أن هذا الشيخ هو أيضاً مخبر يشي بهؤلاء الناس البسطاء الذين ليس لديهم ما يخفونه إلى ضابط سيحضر أيضاً في قصة "غياب"، التي يوهم السرد فيها أن الحكومة فطنت أخيراً للقرية قبل أن يتبين أن ذلك لم يكن إلا استعراضاً، جعجعة من دون طحين.

سيحضر الضابط مرة ثالثة في قصة "أماكن من الصاج" وبشكل سلبي أيضاً مع الأسف، وهو يطارد مجموعة من الناس البسطاء الذين جمعتهم سيارة لا تصلح للاستخدام البشري (تأتي من بلد المنشأ لنقل البضائع.. يركب لها هذا الصندوق وتصير لنقل البشر) [ص: 97].

وتحضر المشفى في بعض القصص مكاناً خاصاً، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الكاتب إبراهيم المطولي يعمل ممرضاً، وكذلك الراوي في قصتي "أماكن من الصاج- اللعنة الزرقاء تحت الجلد"، وفي قصة "رجل ميت يستند على عصا"، حيث يعاني البطل من مرض القصور الكلوي. وفي قصة "فئران صغيرة لا تخشى شيئاً" حيث تعاني البطلة من مرض التهاب الكبد الوبائي، وهو غالباً نفس المرض الذي يعانيه أبو الراوي في قصة "نهاية خط السير"

وقد أصـدر الكاتب إبراهيم المطولي مجموعتين اثنتين من وحي عمله كممرض في إحدى مشافي وزارة الصحة المصرية هما "حنين إلى العافية- إيمان"

تحضر الكتابة، وكتابة القصة تحديداً، بوصفها موضوعاً في أكثر من قصة، ففي قصة "الكي بالماء" نقرأ عن البطل (تتحول المواقف في عقله تلقائياً إلى قصص قصار) [ص: 23].

والقصة ما قبل الأخيرة في المجموعة "بوح ليلي" تبدأ (بعد أن تترك نادي الأدب حيث لم تعجبهم قصتك) [ص: 103].

وكذلك في القصة الأخيرة "اللعنة الزرقاء تحت الجلد"

والقصتان الأخيرتان إضافة للقصة الأولى رواهما الكاتب بضمير المخاطب "أنت" الأقل استخداماً في السرد، وإن (اتسعت المساحة التي يحتلها السرد بضمير المخاطب على نحو لافت في العقود الأخيرة، بحيث أصبحت "الأنت" جزءًا من القص، وليس مجرد "أنت" اتصالية بين الكاتب والقارئ)، كما ذهب الناقد المصري خيري دومة في كتابه الرائد "أنت... ضمير المخاطب في السرد العربي"، وميزة السرد بهذا الضمير كما تبدت في هذه القصص أنها تتوجه من الراوي إلى ذاته، ناصحاً وناقداً ومستجوباً وساخراً... ومن الظريف في القصة الأخيرة أن الراوي، وهو ممرض وكاتب، يسخر من الأخطاء النحوية في كتاباته، وبنفس الوقت لا تخلو قصة في هذه المجموعة منها.

إن كون الكتابة موضوعاً قصصياً يشير إلى تماه بين المؤلف وراويه أو بطله، وسوف يصل هذا التماهي إلى ذروته في قصة "الرجل الذي يتنفس ذكراه" عندما يذكر الراوي اسمه، وهو الاسم الحقيقي للمؤلف (ابن حسين المطولي يا حاج) [ص: 61].

وكنا قد أشرنا إلى اشتراك المؤلف مع راويه بمهنة التمريض في أكثر من قصة.

كما أن نفس اسم الحبيبة (نشوى) قد تكرر في خمس قصص، واسم (أحمد) كشخصية رئيسة تكرر في ثلاث قصص، والشيخ قرني شخصية رئيسة في "وظيفة خالية لشيخ أزهري"، وثانوية في "غياب".

كل ذلك يجعل هذا الكتاب أقرب إلى متوالية قصصية أكثر من مجموعة قصصية، وقد يمكن قراءته على أنه من أمارات الإصدار الأول، وقد أشرنا سابقاً إلى كثرة الأخطاء النحوية التي كان بإمكان دار النشر تداركها من خلال مدقق لغوي، ويمكننا أن نضيف أن إعجاب الكاتب بفكرة ما يجعله يستخدمها في أكثر من قصة، وبنفس المفردات غالباً: مثلاً (لست الموكل من الله، كن معتدل الحزن إذن) وردت في قصتين [ص: 9، وص: 103].

(صفقت لك نشوى مرتين عندما أجبت بأن ثاني أكسيد الكربون يعكر ماء الجير) وردت في قصتين: [ص: 9، وص: 104].

(كأنما يقرأ أسطراً معلقة في الفراغ) وردت مرتين [ص: 54، وص: 60].

(أصوات حشرات الليل تصنع خطاً مستقيماً من الأزيز يمر برأسك) وردت أربع مرات [ص: 13، وص: 31، وص: 90، وص: 110].

لا يمكن قراءة التكرارات السابقة قراءة وظيفية مفيدة، ومع ذلك تبقى هذه المجموعة حاملة لكل الإرهاصات المبشرة بكاتب سيكون له شأن في السرد العربي، وقد بدأت هذه البشائر تتوالى بمجموعاته القصصية وصولاً إلى روايته الأولى.

 

 

Cover Image © Ibrahim Al-motouly‭ ‬‭|‬‭ ‬Facebook

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها