التعدّد الدلالي للحرف

قراءة في ديوان "لست سواي" للشاعر عز الدين الشنتوف

د. طارق فتوح



تنبني هذه القراءة على دراسة الحرف في ديوان لست سواي للشاعر المغربي عز الدين الشنتوف، باعتباره مدخلاً شعرياً مفتوحاً يجعل من اللغة نسقاً دلالياً به تكتب الذات تجربتها الشعرية. كما تسعى، في الآن نفسه، إلى البحث عن دلالة الحرف داخل الممارسة النصيّة للشاعر، وذلك وفق مقاربة شعرية مفتوحة تقوم على التحليل واستقصاء المعجم الشعري، الذي يبني به الشاعر قصيدته. فكيف يكتب الشاعر الحرف داخل القصيدة؟ وما الأسس الدلالية التي يقوم عليها؟

 

1. حرف الكتابة: من الولادة إلى التدفق

1.1 نون الكتابة:
يكتب الشاعر في قصيدة "اكتب":
النـونُ النـارُ تـجـاويـف الرّحـمِ النـايُ النّـطَـفُ النّـغَمُ
الشهـويُّ ندوبُ الوقـت نبـوَّةُ نقـصان المرقـومِ نـعـيمُ
النفي إلى الأنوار تفيضُ حياضٌ من كلم الإبراءِ تكادُ
العين تطرّزُ وقت الخطف ارتدَّ الطـرفُ حجـابٌ بين
يـدٍ ويـدٍ لا تعلـمُ رفـعـاً كيـفَ الوقـفـةُ حيـن تـجـيءُ1

بحرف النون يفتتح الشاعرُ وقفته الشعرية، بعدما ارتحلت ذاتُه من منزلة الوقفة على مشارف باب الكتابة في قصيدة "باب"، ومروراً بمنزلة فتح القلب في قصيدة "نسب"، ليستقرّ به حالُ الصّحو في منزلة "اكتب"، أو حينما يُؤمَر بالكتابة، فلا يبدأ مفتتحَ الكتابة إلا بحرف النّون، وكأنه بهذا المفتتح يريد أن يوجّهنا إلى دلالة الآية الكريمة في قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون}2، التي جمعت في معناها بين الحرف وفعل الكتابة، وبذلك فالنون له صلة وثيقة بالكتابة، فمنه المنطلق، ومعه تتجدّد الوجهة نحو ممارسة الكتابة.

من هذا المنظور، فإنّ حرف النون مُؤسّسٌ على انتظامٍ دلاليٍّ ترتيبيّ ينهض، من خلاله، على وشائجَ مختلفةٍ مقرونةٍ بعدّة أوجُهٍ تجعله متغيّراً في دلالته وغير ثابت على صورة واحدة، وفي الآن نفسه، يتم بناؤه، من طرف الذات الكاتبة، وفق تصوّرٍ لغويّ يتميّز بالتكثيف الدّلالي والإيقاع التصويري الذي يتغيا فيه كتابة التجربة على نحوٍ يعطي للذات أحقيّتها في الخلق الشعري لأنها:
«ذات وجودية أو رؤياوية؛ لأنها تقول الرؤيا لا الرؤية، العلاقة لا السلطة، انشباكها بعالم القول- توحّدها به، أوجد لها معه عبر إمكانات القول (توحدها بالعالم عبر إمكانات اللغة الإبداع) لا تعاليها على عالم القول- عزلتها عنه أو مفارقتها إياه- تفكيكها لعالم القول وتفككها فيه، اكتشافها له، واكتشاف ذاتها عبره- يعني أنها تخلق باللغة- ولا تصف، تبدع أو تولد ولا تصور أو تعبّر»3.

هذه الرؤياوية إلى اللغة ومن ضمنها الحرف، دفعتنا إلى تأمل قصيدة "اكتب"، وبناء العلاقة الدلالية وفق هذا الرسم التوضيحي:
النون= نار
النون= تجاويف الرحم
النون= النأي
النون= النطف
النون= النغم الشهوي
النون= ندوب الوقت
النون= نبوة نقصان
النون= نعيم النفي إلى الأنوار

تتولّد عن حرف النون دلالات مشدودةٌ إلى الولادةِ من جهة، وإلى التدفّقِ من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى تكون النون موسومة بالحياة ومربوطة إلى أصل وجودها، وبالتالي لا تغدو إلا أن يصير أمرُها بين الكاف والنون؛ أي بين الكتابة وفعل الكتابة، وهو ما يجعل اللفظةَ الشعريةَ أوسع من أن تضيق دلالتُها، ومن ثم فالنون يُسهِم في بناء صورٍ تتقاطع دلالتها مع دلالة الولادة. إنها "تجاويف الرحم"، و"النطف"، و"نعيم النفي إلى الأنوار"، وفي هذا التقاطع يخلق النون مشهدَه الشعري، الذي يعوّل فيه الشاعر على إزالة الحجُب بالاعتماد على ما تتيحه الرؤيا من كشف المحجوب "بين يدٍ ويدٍ". يكتب الشاعر:
تكادُ
العين تطرّزُ وقت الخطف ارتدَّ الطـرفُ حجـابٌ بين
يـدٍ ويـدٍ لا تعلـمُ رفـعـاً كـيـفَ الوقـفــةُ حيـن تـجـيءُ4

أما في الحالة الثانية، فحرف النون ينهض على التدفّق والفيض النابع من الحياة. إنه الفيضُ المحمول على التكثيف اللغوي، الذي يرمي بالشاعر إلى أحضانِ تجربةٍ تستضيءُ أحرُفُها بالنار؛ فلا نار إلا نار الحال الساكن بين منزلتي الصمت والصحو. بذلك فالنون أو فعل الكتابة هو تجلٍّ ذاتي مشدود إلى "النار" و"الناي" و"النغم الشهوي"، ولا يكتسي هذا الانجذاب الثلاثي أهميّته إلاّ بخلق لغةٍ لها عبورُها المستمر بين منزلتي الصمت والفقدان.
 

2-1 التاء مجاز
إن تأمّل الحرف في الديوان وبخاصة في قصيدة "ضيف" يجعلنا أمام سؤالين اثنين هما: كيف تمثّل الشاعر حرف التاء في علاقته بالمجاز؟ وكيف يتمّ بناؤه نصيّا داخل القصيدة؟

يكتب الشاعر:
تكتّم عن شروخكَ بالتداني حُـلَّةٌ للحال خُلّتُكَ العـيـانُ
على بصيرتك البسـائطُ لا تداهمْ سكرة الأحباب أنت
الضيفُ أنت الطيف نوِّر كأسكَ الأولى بحرف نازل
من عتمة نذرية الإنصاتْ
أَوَكـرهتُمُ جمـرةً خمدتْ بجـوف العاكفين ونحـن لهـا
ناصحونْ5

في القصيدة يتقدّم حرف التاء كأساسٍ محوريٍّ له اشتغاله المتحرّك على امتداد الأبيات، فهو متحرّك باستمرار، ويأخذ على الدّوام مكانَه داخل النص. وبتتبّعنا المتأمِّل لحرف التاء نجد أن الشاعر يقوم ببنائه داخل معجم شعريٍّ له تعدّده الدلالي، الذي يفتح أمام الكتابة اتصالها بالمجاز: (تكتّم، التداني، حلّة، خلتك، بصيرتك، لا تداهم، سكرة، أنت الضيف، أنت الطيف، عتمة، نذرية، الإنصات، أَوَكـرهتُمُ، جمـرةً، خمدتْ).

إن حضور حرف التاء داخل المعجم الشعري يعطي للقصيدة حركيّتها المستمرّة في إنتاج الدلالية وتنظيم الخطاب، وذلك من خلال التفاعل الذي يُحدثه الحرف مع بقيّة الحروف، وهو ما يخلق مشهداً دلالياً يجعل النصّ يبني تجاوباتٍ داخلية بين الكلمات وإن بدت في ظاهرها متنافرة، ومن أمثلة هذا التجاوب: (شروخك، التداني/ أنت الضيف، أنت الطيف/ حُـلَّةٌ للحال، خُلّتُكَ العـيـانُ / جمـرةً خمدتْ بجـوف العاكفين/ نوِّر كأسكَ الأولى، بحرف نازل). بهذه التجاوبات يخلق الشاعر إمكانياتٍ متفاعلة في البناء النصّي للقصيدة من ناحية المعجم.

يختار الشاعر كبداية للقصيدة حرف التاء، ويجعل من فعل الأمر "تكتم" كموجِّه أساس في بنائها الدلالي، فهو يأمر ذاته في حضرة الوقفة بالتكتّم عن شروخها، ويطلب منها أن تكون دنيّة في حالها، كي لا يمنعها هذا الشروخ من معرفة أسرار الحرف، لذلك فالذات الكاتبة وهي في حضرة اللقاء ترى نفسَها ضيفاً، وفي الآن نفسه طيفاً، فبين الحضور والغياب مسافة صمتٍ وإنصات تنجذب فيه الذات لطُهرها وصفائها؛ إذ بهما يرى الشاعر الحرف في تجلّيه الروحي وهو نازل من كأس السُّكر الفائض نوراً. يكتب الشاعر:
تثبيتٌ كان تهيَّبَ
من تكتيبِ مجاز
أو
تعطيل معان6

يضعنا هذا المقطع أمام الافتراض الذي انطلقنا منه في تحليل هذا العنصر، وهو أن حرف التاء يبنيه الشاعر في القصيدة كمجاز للكتابة، فمنه ينطلق في ممارسته النصيّة، وبه يخوض غمار التجربة في حضرة الوقفة، ومعه يسبر أغوار اللغة، وهي تأخذ مكانها الشعري المنتقل بين البوح والكتمان، أو بين "تكتيب مجاز"، و"تعطيل معان". ففي البوح يعتمد الشاعر في كتابته على أساس يستند فيه إلى المجاز، باعتباره يُسهم في خلق لغة شعرية جديدة تحطم الحدود وتنأى عن المعهود. بهذا المعنى، فالمجاز هو «الخروج على استعمال اللغة وفقاً لحقيقتها؛ أي لما وضعت له أصلا (...) فالمجاز في اللغة العربية أكثر من أن يكون مجرد أسلوب تعبيري. إنه في بنيتها ذاتها. وهو يشير إلى حاجة النفس لتجاوز الحقيقة، أي لتجاوز المعطى المباشر»7.

أما في الكتمان فيعتمد الشاعر على تعطيل المعاني؛ إذ لا يكون المجاز مجازاً إلا بهذا التعطيل الذي يُخرج «الواقع من سياقه الأليف، فيما يخرج الكلمات التي تتحدث عن سياقها الأليف، ويغير معناه فيما يغير معناها- مقيماً في ذلك، علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والواقع، مغيّرًا صورة الكلام وصورة الواقع معاً»8.

في ضوء هذه المقاربة، يكون حرف التاء مجازًا للكتابة التي تضيق بالواقع وتتطلع إلى ما وراءه لتُجاور المطلق الشعري، الذي يحمل الذات الكاتبة إلى اكتشاف المجهول، ويدفعها إلى بناء عالمها الشعري، وبذلك تجوز اللغة الشعرية نفسها إلى ما هو أبعد منها. يكتب أدونيس: «هذه اللغة السَّكرى هي لغة المجاز. بهذه اللغة نتيح لما هو قائمٌ في مكانٍ آخر، في الغيب أو في الباطن، أن يجوز إلى عالمنا – الظاهر. هكذا تتيح لنا هذه اللغة أن نضع اللامنتهي في المنتهي، كما يعبّر بودلير»9.
 

2.  الحرف: من الحقيقة إلى نفي الموجود

تسمح القراءة المتأنّية للدّيوان بطرح فرضية يمكن أن نذهب فيها إلى عدّ عمل الشاعر تجربة صوفية، تعتمد في مقاربتها على السّفر، الذي يستند في مقوِّماته إلى دلالة العبور كرحيل حرّ يتأسّس، أولا، على سبر أغوار الكتابة من أجل كشف أسرار اللغة؛ والعمل، ثانياً، على بناء علاقات جديدة بين حروفها. لذلك فالشاعر يبني كلّ حرف على مفهوم معيّن يرتبط في دلالته بالسفر، فالياء يجعلها مرتبطة باليتم، والكاف بالبُعد، والقاف بالفقد، فيما يجعل حرف الضاد مرتبطاً باللغة. إنها مفاهيم تصل بين معناها وشيجة العبور كآليةٍ تجعل الانتقالَ من تجربة الوقفة إلى تجربة الكتابة مُمكناً شعرياً.

2. 1 ياء اليُتم
يكتب الشاعر في مقطع "ياء":
يُتم يتخيّرُ من يعطيه اسمه
ياءٌ
للبدء
الحسُّ قرارُ الحرف تمدّدَ
في جسدٍ
سكنتهُ قطوفُ يدٍ تمحو
من كان لها في القول
هوىً
رهواً10

ليس اليتم إلا ذلك العبور داخل الكتابة. إنه العبورُ المستمرّ، الذي يجعل الجسدَ منطلقاً أساساً في التجربة، لا يتقيّد بالمألوف بقدر ما يتقيّد بالحسّ، وما تمليه الذات من دلالات يعمل الحرف على ترجمتها إلى لغة تنقل ما تراه العين لتكتبَها اليد، ومن ثم فاليدُ هي التي تكتبُ تجربة اللقاء وهي من تنقلُ المحسوسَ إلى المكتوب، وعليها يعوّل الشاعرُ في المحو حتى تأخذ العبارة مكانَها في الكتابة، ومتى تحقّق المبتغى تتحرّر الذات من قيدِها أو من سلطة الأب لتُجاوز باليُتم حدودَها، وتبلغ به مُمكنها الشعري. ومن ثمّ يكون حرف الياء دلالة على اليد التي تكتب، وفي الآن نفسه تمحو، وتكتب ما ينكشف للذات، وما يظهر لها بعيدًا عن كلّ مألوف. إنها تكتب لغتها وتسطّر حروفها بمعزلٍ عن النموذج، فلا تصِحّ الكتابة لدى الشاعر إلا بعيدًا عن السّوى، حيث التجربة ولذة اللقاء تُلقي بالذات في الحرف لتكشف أسرار اللغة. يكتب الشاعر في مقطع آخر من قصيدة "تناقضات":
سيِّدَ الظلِّ
هــا...
لغتــي..
يبرقُ
الطينُ
في
يائها11

إن البحث عن لغة جديدة، بما هي يُتم لا يتحقق إلا بالحرف، وهو أحد رهانات الذات الكاتبة، ذلك أن تجربة الوقفة لا تبلغ مداها إلا بعقد اللقاء مع الكتابة التي تسمح بالعبور من الزمن المُقيّد إلى الزمن المُستمر، ومن شأن هذا الاستمرار أن يفتح الممارسة الشعرية؛ كي تسلك طريقَها بمعزل عن كل مراقبة، ومن ثم «تستطيع الذات أن تخلق ممكنها بالكتابة من حيث هي ممارسةٌ مادية للتأمل، لكن الانهمام بالذات يفترض وجود وعي الذات نفسها بتلك الممارسة خارج أية مراقبة لمعنى ما تكتب، بل لمعنى الكتابة نفسها»12.

2.2 كاف البُعد
للحروف رهانُها في بناء القصيدة لدى الشاعر، هو رهانٌ يجعل النص محطّ تأويلاتٍ تتجدّد باستمرار لتأخذ أبعادًا دلالية ابتداءً من العنوان، وقد تجسّد استمرار هذا الرهان من خلال قصيدة "الكاف". يكتب الشاعر:
كتابُ البُعدْ
سلامٌ من ضيوف البُعدْ
لهم أغيارُ ما علموا
نعمّا يكتبون
ينادمون
فضائل النقصانِ
لا تجهزْ بحرفكَ
إنْ
جهلتَ القربَ
منقلبونْ
على من ماتَ
ألقى السمعَ
لم يكتبْ13

يشكّل حرف الكاف من هذا المنطلق، إلى جانب الحروف الأخرى، أحد أهم هذه الارتكازات، فعليه يؤسِّس الشاعر بناءه في القصيدة وفي ممارسته النصيّة. وبالتأمّل في النص نفترض أن حرف الكاف له صلته الدّلالية بالكتاب والكتابة، وقد اكتسب في هذا الارتباط معنى البُعد، الذي يتيح الانفتاح على كتابة اللغة من داخل الحرف، وبعيداً عن كلّ موجّه سابق أو نموذج سالف. ومن شأن هذه الكتابة، التي اختار لها الشاعر أن تُكتب بعيداً عن السِّوى، أن تسلك طريقاً مغايراً عما تسلكه التجارب الشعرية الأخرى، ولذلك نجد أن هذه التجربة قد تستند إلى اللغة في أصغر مكوّناتها وهي الحرف، وقد تنتج منه دلالة خاصة به، وهي دلالة البعد عن النموذج، وما كان لهذه الدلالة أن تبرز لولا تجربة الشاعر ونهلها العميق من تجربة النّفري التي ترتكز في كتابتها على الحرف. يقول النفري في أحد مواقفه:
«أوقفني وقال لي: الحرف حجابُ الحرف، والحرفُ علم الحرف، والحرفُ مبلغ الحرف، والحرفُ نور الحرف، والحرفُ لسان العلم، والحرفُ مطلعُ الحرف، والحرف نهاية الحرف، والحرف مسكن الحرف، والحرف مقرّ الحرف. فمن كان في الحرف فهو الحرف، ومن كان عن الحرف فهو الحرف، ومن كان في الحرف فمبلغُه الحرف»14.

إن حرف الكاف في القصيدة المرتبط في معناه بالكتاب الذي يتضمّن دلالة البُعد كصفة يجعلها الشاعر تختصّ بذاتيته عندما يريد أن يمارس طقس الكتابة. فالكتابة لديه هي ابتعادٌ عن كلّ الأغيار، وبُعد عن كلّ التجارِب السابقة أو اللاحقة، وهي أيضاً بمثابة فعل لا تأخذ صفتها إلا أثناء الممارسة، ومن تم فهي «مصدر لامتناهي وغير محدود للتأويل»15.

من هذا المنطلق؛ فالشاعر وهو يكتب الحرف لا يريده إلا أن يكون مكتملاً في معناه ومبناه. ومن ثمّ لا يولد الحرف ولا يُنتج دلاليتَه إلا إذا اقتربت الذات من حقيقة اللغة، فبين البعد والقرب مسافة تتخذها الذات الكاتبة مجالاً للتأمّل تنهدم فيها الحدود وتنكشف فيها الحجُبُ بما يهيِّئ للحرف أن يكون رهاناً لتجربة تنطوي على بُعدٍ في الرؤيا، وهو ما يجعل الحرف في دلاليته يتقاطع مع الخطاب الصوفي، ومن شأن هذا التقاطع أن يمنح للغة تركيباً مغايراً يختلف في مبناه عن التركيب العادي للغة. يكتب جان كوهن Jean Cohen: «لا يتحقق الشعر إلا بقدر تأمُّل اللغة وإعادة خلق اللغة مع كل خطوة. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب»16. ذلك ما نلمسه بوضوح في هذه الأبيات: "نعما يكتبون ينادمون/ إن جهلت القرب منقلبون/ على من مات ألقى السمع لم يكتب".

3.2 قاف الفقد
ينطلق الشاعر من الحرف كبناء محوري له أهميّته الرئيسة في بناء الكتابة وفي تكثيف اللغة من أجل خلق دلالات تهدم الحدود، وتبني معالم جديدة تتكشّف آثارُها في ممارسة الشاعر النصيّة ومقاربتها بين الوقفة كتجربة صوفية، وبين الكتابة كتجربة شعرية، وهو ما يُمكِّنه من مصاحبة الحرف باستمرار لاستجلاء أسرار اللغة، وإعادة البناء وفق تصوّره الشعريّ الذاتي لها. يكتب الشاعر:
تصيّدت الجبالُ صداك ما وطئت رؤاكَ عوالــمَ
الأشهادِ فيها وهْمُ نازلةٍ أضاعت قافها المعروقَ
لم تعرف قصيدتها
ألم تصعدْ17

يولد الحرف في التجربة الشعرية من خلال الصّعود إلى الجبال، بوصفها مكاناً للتأمل وملاذاً منعزلا عن السِّوى تفرّ إليه الذات الكاتبة من أجل طلب البحث عن المعرفة الكامنة في القصيدة شأنه في ذلك شأن الصوفي. لذلك، فالجبال دلالة على الخلوة والابتعاد والانعزال عن كل مكدّر يكدّر صفو الذات في لقائها بالكتابة، وبالتالي؛ فإن ولادة القصيدة تبدأ بحالة الصّفاء الرّوحي لتطأ الذات عوالمَ المكان وتشهد بزوغ الرؤى، فإذا اقتنصت حرفها تصيّدت لغتها في كلمات، لتُكسِبها حقّ الميلاد، إذ تُخرجها من عوالم المجهول إلى عوالم الأشهاد. وفي هذا الانتقال ينعقد اللقاء مع الحرف. يكتب الشاعر في نفس القصيدة:
تذكَّر أننا جئنا من اليتم التقينا
عند منعطف البياضِ لبوسُنا الترقيمُ يوجعُ بعض
أجسـادٍ تُغافلُنـا تهيّـأ إن رأيـتَ سواكَ يُغرقُ وشمَ
صاحبـه بحـبرٍ يُـودعُ الألـوانَ فـيكَ يدمِّرُ القربانَ
سـرْ حتـى الهسـيسِ عـلى حـدود الصَّحـوِ تـبسُطْ
عندكَ الأعلاقُ صورتها18.

باليتم يتحقق للشاعر عبورَه الزمني ليلتقيَ بالحرف في منعطف البياض الدّال على الصفحة البيضاء، من أجل أن يتهيّأ للكتابة، لتُصبح حركته في المكان أفقاً مفتوحاً على القصيدة، التي تتخذ من الترقيم والحبر والألوان وشماً بارزًا يدمّر قربان المألوف.

يعمل الشاعر في لقائه بالحرف، عند عتبات اليتم، على نقل اللغة من عوالمه الخفيّة الباطنة آمراً إياها أن تسير "حتى الهسيس" إلى المجاز الشعري المفتوح "على حدود الصحو"، والموجّه وفق إيقاع الذات الكاتبة، وذلك من أجل بناء الحرف على أساس عميق قائم على البعد الداخلي كمرتكزٍ رؤياوي تنطلق منه الذات لاستجلاء كل ما يرد عليها من دلالات وصور، وكتابتها بوعي كامل يمزج بين لحظتين: لحظة ما قبل الكتابة، ولحظة ما بعد الكتابة. وفي اللحظتين تعمل الذات على تشكيل القصيدة، إذ ذاك "تبسط عندك الأعلاق صورتها"، وعند البسط ترخي الذات أستارها لتحيا تخوم الفقد في الكتابة، وهو ما يجعل «قانون اللغة الشعرية (...) يقوم على التجربة الباطنية»19. يكتب الشاعر:
الفقـــدُ تخــومٌ لا تـلـهُــو إن شــقَّ الصَّحـوُ تـبـدِّدُ زادكَ
تعنو كم يقظاً ألقته ظنونُ الحالِ تشوَّف ما أعيته بصائرُ
مَنْ رحلوا
لكتابةٍ وطّاءةٍ عبقُ
النزولِ
تراهُ أشهى ردَّةٌ ممهورةُ
العينِ الأناملِ
تبلُغُ الخدرَ انقباضَ
الروحِ
هل عرفَ الرقيبُ تماسُكَ
الأعضاءْ20

لا ريب أن الشاعر، وهو على مشارف اللقاء بالكتابة، تتداخل في تجربته الشعرية حال الوعي أو "الصحو" مع حال اللاوعي أو "الحال". فالممارسة النصيّة لديه عملية تنبني على الخلق الشعري، الذي يروم تتبّع عناصر اللغة من لحظة المخاض حتى ولادتها في القصيدة. وهو خلق يتقاطع فيه مع التجربة الصوفية؛ إذ ذاك يصبح لولادة الحرف عبقٌ يشمّه الشاعر ريحاً في الكتابة ليجعله أثناء ممارسته النصّية مشتهياً ومنتشياً، فلا يكاد يشعر بالحرف إلا وهو نازل من بين الأنامل حتى تُبصره العين، وفي هذا النزول تنقبض الذات ومعها الرّوح، وتتألم الأعضاء لما يُحدثه الحرف من مخاض يجعل الشاعر يعيش الفقد في اللغة بما هو، فقد يَبعُد فيه عن كلّ مدار معلوم وإطار مألوف: "إليّ البعد فارقت المدار هجرت أعلاقا حدودي الوشم".
 

خاتمة:

هو ذا الحرف يفتح مسارَه داخل الصفحة ليشقّ طريقه باستمرار نحو كتابة تتأسس على ما خبِرته الذات من تجربتها مع الوقفة، ومما علِمته من أسرار في اتصالها به، باعتباره مكوِّناً رئيساً له حضورُه القوي في الممارسة النصية للشاعر، وهو ما يجعل الحرف لدى الشاعر لا يثبت على وضعيةٍ دلاليةٍ محدّدة، بل يأخذ وضعياتٍ متعدّدةً تختلف باختلاف القصيدة وسياقِ الخطابِ داخلها، لكون عوالم الحرف متعدّدة لا تنكشف إلا عبر دراسة التجربة من خلال الممارسة النصية للشاعر. ولا تدعي هذه القراءة الإحاطة الكاملة بدلالية الحروف وتعددها في الديوان؛ وإنما اقتصرت على بعضها تاركة لدراسات أخرى سبر أغوار الديوان وكشف عمقه الدلالي.

 


الهوامش:  1. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 10.┋2. سورة القلم، الآية: 68.┋3. عبد الواحد الحميري، الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1999. ص: 19.18.┋4. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 10.┋5. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 15.┋6. المرجع السابق. ص: 16.┋7. أدونيس، الشعرية العربية، م.س. ص: 75.74.┋8. المرجع السابق. ص: 75.┋9. أدونيس، الصوفية والسوريالية، م.س. ص: 160.┋10. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 16.┋11. المرجع السابق. ص: 27.┋12. عز الدين الشنتوف، شعرية محمد بنيس، الذاتية والكتابة، م.س. ص: 39.┋13. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 48.47.┋14. محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، الأعمال الصوفية، م.س. ص: 372.371.┋15.Umberto Eco, Sémiotique et philosophie du langage, P.U.F.Paris, 1988.p.223
16. جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، البيضاء، ط1، 1986. ص: 176.┋17. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 65.┋18. المرجع السابق. ص: 65.┋19. جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، م.س.ص: 202.┋20. عز الدين الشنتوف، لست سواي، م.س. ص: 67.66.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها