من آثار الرّحالة "جان ماري غوستاف" المَمْحُوّةِ

تأليف الكاتبة ميشيل غازيي

ترجمة: آسية السخيري

قراءة: كلير كولين


جان ماري غوستاف لو كليزيو، المعروف بتوقيعه ج م غ لو كليزيو، ​​من مواليد مدينة نيس في 13 أبريل 1940. كاتب باللغة الفرنسية، كما يعرّف بنفسه. وهو يحمل الجنسيتين الفرنسية والموريشيوسية. تحصل على جائزة نوبل للآداب عام 2008، باعتباره "كاتب البدايات الجديدة، والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية، ومستكشف الإنسانية فيما وراء وتحت الحضارة السائدة". تُرجمت أعماله إلى 36 لغة عالمية.
 

كرسيان فارغان، جنبًا إلى جنب، في مواجهة البحرِ. تُدوِّي موسيقى، ما من شك في كونها مكسيكيةً، بينما يُسمع، أيضًا، صوتُ ارتدادِ الأمواجِ في الخلفية. هكذا ينتهي الفيلم الوثائقيُّ المخصَّصُ لجان ماري غوستاف لو كليزيو، الذي شاركت في كتابته ميشيل غازيي عامَ 1996، مع المخرج جاك مالاتير. بيْدَ أن تلك الصورةَ الأخيرةَ هي، في أعيننا، لا تعدو أن تكون تسجيلًا مرئيًّا لكل من الأواصرِ التي توحِّد ميشيل غازيي مع ج م غ لو كليزيو، وللطريقةِ التي يُنظَر بها إلى مؤلَّف الأخيرِ: الصداقةُ، السفرُ/ الترحالُ، الغيابُ، والعديدُ من العناصر الأساسيةِ، هذا إن لم نقل البدائيةِ، لإدراك جوهرِ المؤلِّف بشكل أفضلَ. ونتيجةً للعلاقة الودِّيةِ التي امتدت لسنوات طويلةٍ بينهما، تضاعفت، على مرِّ السنينِ، قراءاتُ ميشيل غازيي لروايات جان ماري غوستاف لو كليزيو الحائزِ على جائزة نوبل للآداب عامَ 2008 ولقصصه القصيرةِ.

بالإضافة إلى ذلك، نشأ لقاؤُها الأولُ مع المؤلِّف بفضل الصداقةِ: في الخطاب الذي كتبته تكريمًا له ولتقديمه، روَت أنها قرأت روايةَ "محضر جلسة" بناءً على نصيحة إحدى صديقاتِها، وأنها ظلت معجبةً إلى حدِّ الافتتان بأسلوب وعالمِ تلك الرواية الفريدةِ، وقد أكدت على أنها "وقعت في حب كتابةِ لو كليزيو، ذاك الشابّ المجهول الذي فاز بجائزة رينودو، وفي عالمه الاستفزازيِّ الغريبِ، ذي الأهواء الطارئةِ". ذاك الشغفُ هو، علاوةً على ذلك، شغفُ جيلٍ أصبح الكتابُ بالنسبة له علامةَ اعترافٍ وتقديرٍ ويتجلَّى ذلك من خلال ترْكِ الغلافِ بائِنًا تحت الإبطِ للعيان في الشارع. تابعت ميشيل غازيي التي تصغر ج م غ لو كليزيو ببضع سنواتٍ، تطوّرَه من خلال مداومتِها على قراءةِ كلِّ عملٍ من أعماله وفقًا لفترة نشرِه. استطاعت الكاتبةُ والصحفيةُ، على إثر ذلك، التقاءَ الكاتبِ في بيته بنيس بمناسبةِ إجراءِ مقابلةٍ حواريةٍ معه سنةَ 1980، تناولت فيها روايةَ "الباحث عن الذهب" ونُشرت على صفحات تيليراما الأدبيةِ. ومن ثمَّ تمكنت تدريجيًّا من إقامة علاقةٍ ودِّيةٍ معه، نشأ عنها تقاربٌ مميَّزٌ مع الشخصِ ومع مؤلفاتِه في نفس الوقتِ. بالإضافة إلى الفيلم الوثائقيِّ الذي أسلفنا ذكرَه، حيث سيكشف لو كليزيو، الذي كان في العادة شديدَ التحفُّظِ بخصوص حياتِه، عن نفسِه وذلك من خلال مراحلِ حياتِه الأساسيةِ واللقاءات الوديةِ التي دعمت مسيرتَه، أيضًا؛ سيتحدث الكاتبُ عن المقابلاتِ الحواريةِ والتقاريرِ الستة عشر التي نشرتها عنه ميشيل غازيي على صفحات تيليراما1 الأدبيةِ منذ الثمانيناتِ، وكذلك المقالاتِ المحررةِ عن عملين جامعيين مخصَّصين للكاتب، أصيلِ مدينةِ نيس، وتلك ستشهد على متابعتها المتيَقظةِ والمتميِّزةِ في نفس الوقتِ.

علاوةً على ذلك، تتجلَّى لنا نبرةُ المحادثةِ الودِّيةِ، خاصةً، في الحوارات التي أجرتها ميشيل غازيي مع ج م غ لو كليزيو، عندما نكون على درايةٍ برغبة هذا الأخيرِ البيِّنةِ في التحفُّظ وتهرُّبِه من وسائل الإعلامِ التي كان بإمكانه أن يُخْلِص لها، ولكن عندما يتمُّ، فقط، توطيدُ علاقةِ الثقةِ؛ حينها يمكن تقديرُ الرابط العميقِ الذي يوَحِّد الناقدَ الأدبيَّ مع الكاتبِ. من خلال تلك المقارباتِ المختلفةِ، وبفضل تلك العلاقة الودِّيةِ التي قدرت على الاستمرار لعدة سنواتٍ وما وراء الحدود، سعت ميشيل غازيي، بعد ذلك، إلى تحديد العناصرِ الأوَّليةِ للشعرية اللوكليزيةِ، من خلال إيرادِ رؤيتِها الشخصيةِ للمؤلَّف، ومن أجل أن تكون الأكثرَ اقترابًا لديناميكا الخلقِ، حيث ينكشف الغيابُ والفراغُ على أنهما المحرِّكان الأوَّلان للإلهام.

ويتواصل الخطُّ

تهدف قراءةُ ميشيل غازيي لكتب ج م غ لو كليزيو إلى أن تكون مستعرضةً2؛ لأنّ كلَّ عمل لا يُقرأ لذاته، بل هو يُقرأ وفقًا لحبكةٍ ومجموعةِ روابطَ ومرفقاتٍ بجميع أنواعِها مع الأعمال الأخرى، مما ينشئ جسورًا لربط كلِّ نصٍّ بالآخر. دراسةُ التقاريرِ المختلفةِ التي تمكَّنت من كتابتها لصفحات تيليراما الأدبيةِ تُثبت ذلك: وهكذا، فإن الركنَ المخصَّصَ للآفريكان (الإفريقي) في عام 2004 يمثِّل فرصةً للتذكير بارتباطه بأونيتشا (1991)، حيث إنّ الأماكنَ والأبطالَ هم نفسُهم.

ولكن تمَّ نسجُ خيوطٍ أخرى أقلّ وضوحًا بين المؤلفاتِ: في مقالة أخرى، يرتبط كِتابُ "قلب يحترق وحكايات أخرى رومانسية" (2000) بكتاب الهروب (1969) للتيمات التي تم تناولُها فيهما، ولاسيما المغامرة الفردية، ولكن أيضًا للأسلوب، حيث تتبوَّأ العبارةُ الشعريةُ مكانةً هامةً. بنفس الطريقةِ، بينما نراها تتأمل في الشخصية الأنثويةِ في أعمال ج م غ لو كليزيو ​​ضمن مجموعةٍ مكرَّسةٍ لهذه المسألةِ، تتَّخذ ميشيل غازيي روايةَ "محضر جلسة" كنقطة انطلاقٍ لها، من خلال شخصيةِ ميشيل، الفتاةِ الشابةِ التي يبعث إليها بطلُ الروايةِ برسالة، على الرغم من أنه كان من المتوقَّع أن شخصياتٍ نسائيةً أخرى هي المعنيةُ بذاك الأمرِ، مثل لالَّا، بطلةِ روايةِ "الصحراء" أو ليلى، في مركز روايةِ "السمكة الذهبية". قد يبدو هذا المثالُ الأخيرُ بمثابة مقارنةٍ جريئةٍ: في الواقع، من التقليديِّ في النقد اللوكليزي التميِيزُ بوضوح بين مؤلفاتِه المنشورةِ قبل الثمانينياتِ والتي تلتها. بيْد أن ميشيل غازيي قدمت، في مناسبات عديدةٍ، في نصوصِها النقديةِ المختلفةِ، التي خصَّصتها لأعمال ج م غ لو كليزيو، نظرةً أخرى تصِرُّ من خلالها، على العكس من ذلك، على التماسك والوحدةِ العميقةِ بين جميعِ مؤلَّفاتِه. بالنسبة لها، إذا كانت كتبُ "الطريقة الأولى" "تُعتبر أكثرَ صعوبةً، وأكثرَ طموحًا، أيضًا، في بحثها الشكليِّ"؛ فإنها تظل مع ذلك "الأساسَ، والأرض الخصبةَ لعمل يتجذَّر هناك ويُزهر في مكان آخرَ". في مكان آخرَ، تؤكِد أنه "على الرغم من الانتقادات الكثيرةِ التي تنحو إلى البرهنةِ على أن مؤلَّفاتِ لو كليزيو ​​تنقسم إلى جزأين، الرابطُ بينهما منعدمٌ أو يكاد، وفقًا لتقسيمِ ما قبل رواية الصحراء وبعدها"، نجد منذ محضر الجلسة/ الاستجواب بعضَ الركائزِ الأساسيةِ للعالم اللوكليزي.

كلُّ واحدٍ من المقالات التي كُتبت لصفحات تيليراما الأدبيةِ تقريبًا، وكذلك الشريطُ الوثائقيُّ الذي تمَّ إنجازُه مع جاك مالاتير أو خطابُ عرض سلسلة مؤتمراتِ "أمسيةِ نوبل"، مبنيَّةٌ على نفس الهدفِ: تسليطُ الضوءِ على الخط المستمرِّ والمتواصلِ الموجودِ منذ أولِ منشورٍ حتى أحدثِ إصدارٍ - دون إهمالِ التحوُّلاتِ المحتمَلةِ، التي أنتجتها على الرغم من ذلك حلقاتُ حياةٍ مليئةٍ بالمغامرة ومؤلَّفٍ مُسهَبٍ. وهكذا، في حديثها عن النجمة الشاردة، المنشورةِ عام 1992، وكذلك عن جميع رواياتِه السابقةِ، تكتب ميشيل غازيي: "الأفكارُ هي نفسُها، والكلماتُ، هي الأخرى، لم تتغيَّر تقريبًا، فقط المعنى هو الذي تغير". مع التقدُّمِ في السنِّ ستأتي، بالفعل، السكينةُ، القادرةُ على إبراز الموضوعاتِ الموجودةِ منذ البداية في روايات وقصصِ الكاتبِ، أصيلِ نيس، من منظور آخرَ، وعلى وجه الخصوصِ، علاقتِه مع الآخرين.

في مقابلة قُدِّمت عامَ 2000، من أجل تتبُّع رحلةِ المؤلِّفِ الأدبيةِ، تسأل ميشيل غازيي لو كليزيو ​​عن تيمة الرفضِ: يؤكد الأخيرُ أن كتبَه الأولى، الحمى، كتاب الهروب، الحرب والعمالقة كانت أعمالًا اتسمت بنبذ الآخرين، المجتمعِ والعالمِ الغربيِّ. ذانك النبذُ والتقليلُ من قيمة العلاقةِ مع الآخرين تحوَّلا لاحقًا إلى احتفاء بالمجتمعات التي لا تزال الحياةُ الجماعيةُ فيها ممكنةً كما في أحياء الصفيح العشوائيةِ، حيث نشأت لالَّا، بطلةُ الصحراء، وحيث عادت لتضع مولودَها بعد أن عاشت تجربةَ الوحدةِ والبردِ في المدن الفرنسيةِ الكبرى. ومع كلِّ ذلك، يؤكد لو كليزيو في الشريط الوثائقي المخصَّصِ له، من أجل إظهار التماسُك الداخليِّ لمؤلَّفه، أنه يسعى لتأليف كتبٍ استفزازيةٍ. لم يَتْبع تأليفُ كتبِه الأولى أو تيماتِها، التي يُنظر لها على أنها رائدةٌ، قصصٌ يقع الاتفاقُ عليها بالإجماع ولكن على، العكس من ذلك، ظلت لديه نفسُ العزيمةِ لإسماع صوتِه حتى وإن كان يتعارض مع أفكار ومفاهيمِ العصرِ. لقد أثبتت ردودُ الفعلِ التي نشأت عند نشر بعضِ أعمالِه أو حتى عند منحِه جائزةَ نوبل للآداب بصفةِ "فلسفةِ الكشافِ"، أو "صوفية شجرةِ جوزِ الهند"، كلِّيًّا، القدرةَ التي احتفظ بها المؤلفُ على قول كلِّ ما هو قريبٌ من قلبه من خلال كتبِه دون الانشغالِ بالذهاب عكسَ تيارِ الموضوعاتِ أو النزعاتِ المتداوَلةِ. تتيح متابعةُ ميشيل غازيي طويلةُ المدى لمؤلفات لو كليزيو رسمَ خطٍّ/ توجُّهٍ متوَاصلٍ لذلك.

من سفر المغامراتِ إلى السفر الداخليِّ

نظرة ميشيل غازيي اليقظةُ وهذه القراءةُ الشاملةُ، تجعلان من الممكن، إذن، تسليطُ الضوءِ على بعض موضوعاتِ لو كليزيو الأوَّليةِ والمكوِّناتِ الأساسيةِ لشعره، حيث يحتلُّ السفرُ مكانًا مركزيًّا. يبدأ الفيلمُ الوثائقيُّ "قرنٌ من الكتَّاب"3 ويُختتَم بنفس الديكور، البحرُ: خيارٌ ذو مغزى لمؤلِّف وُلد على شاطئ البحرِ، في نيس، ورأى في وقت مبكرٍ جدًا في ذلك الفضاء نقطةَ انطلاقٍ ممكنةٍ لخياله، الذي يتغذَّى من البحر ومن تاريخه العائليِّ، جدُّه الذي غادر للتجارة في الجزر البعيدةِ، ووالدُه الذي يعيش في إفريقيا، وأبناءُ عمومتِه الذين يعيشون في جزيرة موريشيوس. يذْكر ج م غ لو كليزيو في الدقائق الأولى من البرنامج أن عملياتِ الهروبِ الأولى كانت، في المقام الأولِ، ذهنيةً بحتةً عبر كتبِ المكتبةِ وخاصةً رواياتِ المغامراتِ.

"ارتبط الأدبُ، بالنسبة لي، دائمًا بفكرة المغامرةِ التي تأتي من الذات ومن مكان الذاتِ." هذا ما صرح به لو كليزيو في مقابلة أُجريت معه عامَ 1995 بمناسبة صدورِ روايةِ الحجر الصحي. في مقابلة أخرى أجرتها معه ميشيل غازيي عامَ 1992، سألته عن كُتَّابه المفضَّلين: دانيال ديفو، روبير ستيفنسون، وسويفت الذين يَستشهد بهم، بالطبع، كرفاق طفولتِه، بالإضافة إلى رواية القرن السادسِ عشرَ الإسبانيةِ الصعلوكية/ الپيكارسكيةِ4 العظيمةِ لازاريلو دي تورمس، التي تحكي مغامراتِ طفلِ الشوارعِ، واسع الحيلةِ والمتفائلِ. وتُضاف إلى تلك المغامراتِ عبرَ الكتبِ تلك التي تدور بين الأطالسِ الجغرافيةِ والمشاهدِ الطبيعيةِ والشخصيات الناشئةِ من خلال ممارسة الرسمِ.

لكن صورةَ البحرِ ليست مجرَّدَ الديكور الخلابِ للرحلات الغريبةِ من أجل اكتشافِ الجزرِ الفردوسيةِ. بسرعة كبيرةٍ، تُدرك ميشيل غازيي بُعدًا آخرَ في القصص التي تناولت هذه التيمةَ: الرحلةُ مشكِّلةٌ لنفسها، في روح المطلَقِ، وليس لوجهةٍ سياحيةٍ. في الفيلم الوثائقيِّ المخصَّصِ له، يصرُّ ج م غ لو كليزيو ​​بقوة على هذه الفكرة: سفرتُه الأولى، تلك التي قام بها للالتحاق بوالده في أفريقيا، كانت في البداية في نظره رحلةً حقيقيةً؛ لأنها بدت له بلا عودةٍ. ستُضاف إلى هذه التجربةِ تجربةُ الرحلةِ الأولى إلى المكسيك، على ظهر الخيلِ، وقد كانت بمثابة الدخولِ إلى عالمٍ آخرَ، حيث أصبحت ذكرياتُ الرحلة السابقةِ بعيدةً وغريبةً تقريبًا. ذاك الارتحالُ، حيث يضيع المرءُ في قلب بلدٍ يقلُّ فيه الخوفُ، حتى إنه لا يفكر في العودة إلى أماكنِ الحياةِ اليوميةِ، هو جزءٌ من جوهر المؤلِّفِ، الذي نُسب إليه هو وزوجته جيميا مرارًا وتكرارًا مصطلحُ "بدوي"، الذي كما يشير الوثائقيُّ قرنٌ من الكتَّاب، من لا مكانَ له وهو الذي من كلُّ مكانٍ في العالم له. حمل العديد من شخصياته، مُذَّاك، نفسَ المثَلِ الأعلى: وهكذا، تشير ميشيل غازيي عند تقديمِها القصتين المختصرتين، مصادفة وتليها أنغولي مالا، إلى أهمية رحلةِ اللَّاعودةِ، وتؤكِّد على الفكرة في هذه العبارات:

- ولأنه من البدو الرُّحَّلِ، يَعرف ج م غ لو كليزيو ​​أن الرحلةَ الحقيقيةَ هي تلك التي تتمُّ دون فكرةِ الذهابِ أو العودةِ. ينبغي ألا نتَّبع مثالَ أوديسيوس/ أوليس وألا نطمحَ مثلَه إلى العودة، بكامل أعرافِنا وحصافتِنا، إلى بلادنا حيث سنسمح لأنفسنا بالانحدار في سفْحٍ لطيف نحو الموت المحتومِ ورؤوسُنا مليئةٌ بذكريات مكانٍ آخرَ.

الأكثرُ من ذلك، هو أن تلك الرحلةَ الشاملةَ في مساحة ملموسةٍ بإمكانها الاقترانُ برحلة استكشافيةٍ: تشير كلُّ تلك المغامراتِ التي يرويها ج م غ لو كليزيو لميشيل غازيي، إلى حاجة المؤلِّفِ الأساسيةِ لرحلة داخليةٍ، رحلةِ العودةِ إلى الأصول، حيث تُلغى المعالمُ التاريخيةُ والمكانيةُ في أغلب الأحيانِ: "نحن نسافر دائمًا بحثًا عن شيءٍ موجودٍ في ذواتنا وأمامَها"، كتبت، وهي تقدم للقراء رحلة إلى رودريغيز، التي نُشرت عامَ 1986. مرةً أخرى، تسمح المتابعةُ الدقيقةُ لحياة المؤلفِ على صفحات تيليراما النقديةِ بالتشديد على دور السيرةِ الذاتيةِ، مع الدورِ الذي تلعبه جزيرةُ موريشيوس، التي غالبًا ما يتمُّ ذكرُها في الفيلم الوثائقيِّ وقد تمَّ تحليلُها بتعمُّق في مقال "المناظر الطبيعية في موريشيوس: فضاءٌ، في نفس الوقتِ، مألوفٌ، بما أن عائلةً من أبناء العمومةِ تسكن فيه، وغريبٌ، نظرًا لكون أفرادًا من آل لو كليزيو أجبروا العشيرةَ على المنفى ولم يكن ج م غ لو كليزيو ​​يعرف الفضاءَ الملموس لتلك المنطقةِ. لقد كان ذلك المكانُ، إذن، مشحونًا في وقت مبكِّرٍ جدًا بخيال قويٍّ، تتفاقم فيه المحظوراتُ والمحرَّماتُ. تظل الجزيرةُ، أيضًا، عنصرًا ثابتًا في مؤلفات لو كليزيو وذاك ما لا تغفل ميشيل غازيي عن ذكره، محدِّدةً، علاوةً على ذلك، الرؤيةَ المزدوجةَ المحتملةَ لذلك المكان: "هل يمكننا القولُ إن جزيرةَ موريشيوس موجودةٌ في كلِّ مؤلفاتِ لو كليزيو؟ ذاك مما لا شكَّ فيه... هي موجودةٌ مثل ظلٍّ برَّاقٍ، شبحٍ ينزلق شبه خفيٍّ، نصفَ متكتِّم بين نظرتِه والعالمِ". لقد كانت بالتأكيد في البداية "بطاقةً بريديةً ملوَّنةً في سياق أيامِ الحربِ القاتمةِ. كما لو أنها مكانٌ آخر، حيث يمكنه التمسُّكُ برغباته في الفرار". ولكنها أصبحت شيئًا فشيئًا فضاءً لرحلة داخليةٍ، حيث يمكن استرجاعُ، ليس فقط، زمن الرونقِ العائليِّ الذي يعني الملكيةَ الشهيرةَ ذاتَ المائةِ نافذة التي شيَّدها الجدُّ الذي ذهب إلى ما وراء البحارْ للتجارة ولكن، أيضًا، زمنُ الجماعةِ البدائيةِ، حيث الاتحادُ بالطبيعة ممكنٌ، بما أن الاختناقَ الناجمَ عن تجاوُزات المجتمعِ الغربيِّ قد اختفى. تسجِّل ميشيل غازيي:

- كلُّ شيءٍ يحدث كما لو أن اتحادَ لو كليزيو بذلك الفردوسِ المفقودِ لا يمكن أن يتحقَّق سوى من خلال دعمِ مشهدٍ طبيعيٍّ، حيث يتلاشى الأثرُ البشريُّ إلى يختفيَ. وكأن الكتابةَ تحتاج إلى أن تبزغ وتزهِرَ كي تستعيد جمالًا بدائيًّا، نوعًا من زهدِ ما قبل التاريخِ المحترقِ الحارقِ، تاريخِ هروبِ الأحبةِ. من خلال ذلك المشهدِ البكرِ أو الذي يكون، على الأقل، في أقصى عريِه، يستطيع الروائيُّ إعادةَ الاتصالِ بأسلافه. السماءُ، النجومُ، الريحُ، البحرُ، الحجارةُ، الأشجارُ، النباتاتُ، الطيورُ، الشمسُ، الحرارةُ، الظلُّ، هي المفرداتِ المشتركةِ بين أولئك المفقودين وهذا الذي يستكشف، اليومَ، بين كلِّ سعيٍ وبحثٍ، آثارَهم.

لذلك، فإن الشخصَ الوحيدَ القادرَ في أعمال ج م غ لو كليزيو على القيام بتلك الرحلةِ الحقيقيةِ، التي ستكون دون عودةٍ، ولكنها في نفس الوقتِ ستظل راسخةً في أعماقه، هو، وفقًا لميشيل غازيي، الشخصيةُ الأنثويةُ، لكونها قادرةً على منح الحياةِ والمستقبلِ، من خلال "إعادةِ امتلاكِ الماضي بما فيه من عذوبة وألمٍ وصفاءٍ". من جانبه، يعرف الكاتبُ أنه غيرُ قادرٍ جسديًّا على مثل تلك الرحلةِ التعلُّميةِ الاستكشافيةِ، وأن المخاضاتِ الوحيدةَ التي بإمكانه تصوُّرُها وإدراكُها هي تلك الخاصةُ بقصصه. ولكن ذاك النقصَ الداخليَّ هو الذي أصبح، على وجه التحديدِ، وعلى نحو متناقضٍ، قوةَ ج م غ لو كليزيو الداخليةَ، وديناميكا عميقةَ سلَّطت ميشيل غازيي الضوءَ عليها، مرارًا وتكرارًا، في الدراسة التي أجرتها عن أعمالِه.

هي ديناميكا الفراغِ التي انتهى بها الشريطُ الوثائقيُّ المخصَّصُ للو كليزيو كما انتهى بالغيابِ. لا أحدَ يجلس على الكرسييْن المواجهين للبحر. من الممكن مرةً أخرى أن نرى في ذلك اختيارًا متعمَّدًا من أجل دعم قوةِ تلك التيمةِ في مؤلَّفات الكاتبِ.


الهوامش: 1. تيليراما: هي مجلة ثقافية فرنسية أسبوعية أسسها جورج مونتارون عام 1947. وتتناول السينما والأفلام الوثائقية والموسيقى والأدب والمسرح، والحياة الثقافية بشكل عام. على الرغم من ميلها إلى نشر البرامج التلفزيونية، إلا أنها لا تشكل الجزء الأكبر من صفحاتها، على عكس منافسيها في الصحافة التلفزيونية. تصدر تيليراما كل يوم أربعاء وتقدم البرامج من السبت إلى الجمعة التالية. وهي شركة تابعة لمجموعة لوموند.2. المستعرض: مجازيا هو الذي يشمل عدة تخصصات أو قطاعات.3. قرن من الكُتُّاب: مجموعة من 257 فيلمًا وثائقيًا عن كتَّاب القرن العشرين، من إخراج وتقديم برنار راپ بالتعاون مع فلورنس ماورو، تم بثها مساء كل يوم أربعاء على قناة فرنسا 3 من 4 يناير 1995 إلى 8 فبراير 2001. في البداية، كان مقرراً إنجاز 260 "حلقة". خصصت الحلقة الأخيرة لكاتب الخيال أنطوان تشوكي.4. الرواية الپيكارسكية وتسمى، أيضاً، بالتشردية والصّعلوكية، هي جنس أدبي نثري تميز به الأدب الإسباني، حيث نشأ في القرن السادس عشر بإسبانيا وازدهر في جميع أنحاء أوروبا الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا زال يؤثر في الأدب الحديث.
 انقر رابط المقال المترجم  https://lentre-deux.com/index.php?b=68

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها