في إمكانية الفلسفة ومساهماتها

سؤال الفلسفة والعقل؟

عزيز توما

في معرض ردّه على سؤال: ما الفلسفة؟ كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze هي: "فن تكوين المفاهيم وابتكارها"، والمفاهيم تلك، برأيه، لا تنشأ من فراغ، بل ثمة بيئات وظروف، وشروط مناسبة تنمو في خضمها، مثلما تكتسب أهميتها في الاشتباك مع أفق القارئ، إذ؛ من دونه تبدو هذه المفاهيم استحالة، من غير قيمة ومبنى، بلا تناهيها المتماهي مع لا تناهي إمكانيات الذات الفائضة، بوصفها القارئ الذي يمنح المعنى، لهذا؛ فإن السؤال الفلسفي، قبل كل شيء، هو جهد معرفي لا يتوقف عند المعرفة كمعلومة، لكنه يتوق إلى الدال كحقيقة، وقد يشرع في تجسدها، كنظير فكري لمحايثة الجسد لنفسه والمحيط في آن.

واللافت أن الفلسفة تؤكد على الحضور الدائم للعقل في اشتغالاته، وطرحه للأسئلة المتناسلة والمتوالدة تباعاً، طمعاً بإنتاج معنى في اختلافه وتنوعه، فالسؤال الفلسفي يأخذ على عاتقه في فعل "فكّر" refléchir، من خلال تحرّكات العقل القائمة على التمعّن والتفحّص والتحقّق؛ إنما ليس بشروط قبلية، فهو إذاً الحكم. السؤال، هاهنا هو الممارسة؛ إنما نشاطه لا يندرج في إطار حل المشكلات المطروحة على العقل، عبر إجابات تقصي الأسئلة، بل رد على الجواب، في الوقت الذي لا يفضي كل سؤال فلسفي سوى إلى سؤال وحيد. وهكذا، تنمو الأسئلة ما دام هناك إشكال، ما دام هناك التباس حول فكرة أو موضوع؛ كأنما هناك دائماً سؤال خبيء وراء مظهر الشيء. فالأمور لا تقدم حقائقها بسهولة. غير أن هذه المعركة العريقة التي يخوضها العقل جعلت الدرس الفلسفي يميل إلى "تأجيل الحقيقة باستمرار، وإمكانية البحث عن نقيضها"1، حسب فيلسوف التفكيك جاك دريدا، كما لو أن الحقيقة المبحوث عنها، ذات مرة وفي مكان ما، جرى طمسها عمداً، وكشفها تالياً عبر تدخّلات اللغة، انطلاقاً من الظهور الراهن للحقيقة الشبحية.
 

كيف يتصور دولوز قراءته للسؤال الفلسفي؟ إلى أي حد يمكن القول عن دولوز إنه مؤرخ الفلسفة؟ طبعاً؛ لا يمكن وصفه أنه مؤرخ الفلسفة ما دام النهج الذي يتبناه يقع على مسافة واحدة من الأنظمة المعرفية التي ترمي إلى تاريخ الفلسفة، تلك الأنظمة التي تتوسل بأدوات الفهم والتفسير والتعليق والتأويل. إذ إنه، حينما يتعرض لفلسفة سبينوزا، مثلاً، فإنه: "بدل من أن يحلل نصوصه الفلسفية، مظهراً كيفية بنائها ليُصار إلى تقدير محتواها النظري؛ فإنه يفكر من داخل سبينوزا"2. من هنا تبدو طريقة دولوز في تاريخه للفلسفة متعارضة ظاهرياً مع طريقة فوكو، الذي يقرأ الفلاسفة الكلاسيكيين بطريقة مواربة، بشكل تجزيئي منهجياً، مع إهمال الهيكل العام، أو البنية الاجمالية، والاهتمام فقط "ببعض المنطوقات الخاصة المنعزلة عن السياق"3.

أما كانط Kant، فقد شرح السؤال الفلسفي انطلاقاً من العقل الذي يتولى مهمة تشريعية مؤسسة لكل معرفة، ولكل ممارسة إنسانية، مبيناً أن الفلسفة ممارسة طبيعية للعقل يتعذر تجاهلها. في كتابه (نقد العقل المحض)، لم يكن هدفه تحجيباً للعقل، كما يبدو لبعض القراءات الساذجة؛ إنما محاولة حصر مهمة نقد العقل بالعقل، ليعمل دائماً على مراجعة نفسه بنفسه، ويتأكد من صحة أدواته من غير توسط في معرض اشتغاله على القبلي والمتعالي الإنساني. إن نقد العقل المحض يشرح بالأدلة أن مهمة العقل هي إعادة نظر بذاته، وليس بالمعارف والأنساق، يعني هي فحص للطبيعي وليس للمكتسب التاريخي الوضعي. فالفلسفة بمقدماتها القبلية، ولأنها طبيعية تخص العقل البشري وتدل عليه، وهي سابقة على كل الممارسات والمعارف. إذاً؛ لا يمكنها أن تكون ثقافية أو أن تنشأ عن ثقافة. فمسألة الفلسفة هي، قبل كل شيء، العقل البشري.

يرى كانط أهمية الفلسفة من زاوية الحاجة إليها. ففي كتابه (صراع الكليات)، يذهب في شرحه لحتمية الفلسفة، إلى تأكيد دورها التأسيسي المفاهيمي. فيعتبرها المرجع الأخير للحقيقة، والحقل النهائي للتحقق من مدى توافق مختلف الأفعال والمعارف مع فروض العقل انطلاقاً من الحكم نفسه التي هي فكرة فلسفية. وعليها أن تعود إلى الفلسفة للتأكد من صحة ممارستها. فهي محتاجة للفلسفة لتستمد شرعيتها من سلطتها كسلطة عقلية تؤسس لكل سلطة. ويرى كانط، من ناحية عقلية، أنّ على الحكومات أن تضمن تفوق الفلسفة، وتصون استقلالها ومكانتها، لتتمكن من ممارسة دورها، مباشرة، من غير توسط، كما أن عليها أن تعنى بالحقيقة، فمعرفة الحقيقة تقيدها بل هي محتاجة إليها. لذا ترى من الواجب عليها وتمشياً مع العقل، أن تشرع لشروط الممارسة الفلسفية، فتنشئ المؤسسة التي تحتضن الفلسفة، من أجل إبقاء إرادتها على الجميع. إنّ صون حرية العقل يسمح للحكومات بممارسة مهمتها. والكانطية من أهم فلسفات حدود العقل في الفكر الغربي، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. فهي تقرر هذه الحدود وتبحث فيها وتعللها. لكن النقد الكبير للعقل الذي وجهه كانط للعقل لا يمنع من اعتبار الفلسفة الكانطية عقلانية، ما دامت تبحث في طبيعة العقل وحدوده وأشكال اشتغاله.

 الحديث عن السؤال الفلسفي قد لا يستقيم من دون التطرق إلى جاك دريدا Jacques Derrida. فما حدود تصوره عنه؟ يؤكد دريدا على استقلالية مطلقة لمحكمة العقل كمؤسسة عقلانية تابعة لنفسها. ومحكمة العقل هي النقد نفسه. فتغدو الفلسفة بحد ذاتها محاكمة، وتمتد المحاكمة من مؤلف القول الفلسفي الذي يُحاكم، إلى قارئ هذا القول المتلقي، الذي يُحاكم بدوره4. ويمكننا أن نرى في موقف دريدا استمراراً وتكراراً لنقد العقل الذي لا يتوقف عن المحاكمة بدءاً من نفسه. وكان كانط قرر في وقت ما استحالة السماح للعامة ببلوغ المعرفة الفلسفية وبقائها نخبوية، لكن دريدا تجاوز الموقف ولم يصفه تعدياً على الموقف الكانطي بقدر ما هو تأكيد له. فعندما دعا كانط إلى تعالي محكمة العقل، أطلق الحرية له ليتأهب أمام كل معطى له ليحاكم ويسائل ويكرر المساءلة، حتى تصبح الفلسفة بمجملها مساءلة. وتعني المساءلة حرية. ويُطرح اليوم حق المساءلة لكل فرد طالما ينال حقه في الحرية من نفسه دون وصاية من قبل أي كان ما خلا إرادته. إذاً؛ فحق النقد وحق السؤال، هو طبيعي سابق على كل علم وكل معرفة وكل سلطة، ولا يحق لأحد غيري أن يعطيني هذا الحق. إنه باختصار حق الفلسفة. ولا يجوز إطلاقاً، حسب الطرح الكانطي، أن نحجب الممارسة الفلسفة عن الإنسان، أي إنسان. هذا يعني أن دريدا لا يقبل إدراج الفلسفة ضمن سائر الحقوق، ويحذر من رقابة الدولة على الفلسفة حتى من زاوية إعطائها الحق. عندما تعمل الدولة على حماية هذا الحق، بما يتوفر لديها من إمكانيات كالجهاز القانوني – السياسي؛ إنما تؤمنه بواسطة مجموعة من الفرائض المتلازمة مع وسائل إكراه ومنع، تحول الحق إلى ضده؛ لأن التجربة الفلسفية لا تحصل إلا عندما تتجاوز هذا القانوني – السياسي، وبمخالفة هذا الحد، ومساءلته.

أخيراً؛ مهما كان الموقف من الفلسفة، ينبه جاسبرز K.Jaspers على أنّ الفلسفة موجودة في عالمنا، وثمة ضرورة إليها. صحيح أنها تكسر أطر العالم، لتتحرك نحو اللامتناهي، لكنها تعود إلى المتناهين ويتجدد فيها -في كل حالة- أساسها التاريخي الأصلي، وتميل نحو الأفق الأبعد، الذي يتجاوز العالم، حتى تنقل تجربة الحاضر نحو الأبدية، منشغلة في تأمل عميق تجد معناها في وجود الإنسان هنا والآن. إنها فلسفة تستشف المقاييس النهائية "القبة السماوية للامكانيات"، وتبحث في "ضوء المستحيل ظاهرياً"، عن طريق يمكن للإنسان بواسطته أن يتعلم في وجوده الظاهر (دازين)5. في السياق ذاته، يأتي مشروع هوسرل الفلسفي رداً على واقع الفلسفة المتأزم، لكنه يعيد إلى أزمة الإنسان نفسه، ليتطابق معها، لتصبح الفلسفة في هذا الموقف، شأناً إنسانياً محضاً، فما يصيبها يصيب الإنسان، وكل مشكلة تتعرض لها هي مشكلته، والعكس صحيح. إن وجهة النظر هذه لا تترك مجالاً للشك في أن قضية الفلسفة تلازم قضية الإنسان. أو بكلام آخر، كل موقف حول الفلسفة، هو فلسفي، بقدر ما يعني الإنسان، فلا حل يخص الإنسان ممكن خارج الفلسفة.

أما فيما يتعلق بالسؤال الفلسفي في الفضاء العربي، لا بد من الإشارة إلى أن هذا السؤال أثار فضول المثقف العربي، الذي سعى جاهداً إلى نقل مختلف معارف الإنسان إلى الثقافة العربية، من بينها الإنتاج الفلسفي، إذ حاول قدر الإمكان استيعابها؛ إنما على مستوى النقل وسرد المعلومات، وليس على مستوى التأسيس، فبقي الأمر مجرد فضول ورغبة وإصلاح. والشائع أن أي نهوض لا يتم على صعيد الممارسة الفلسفية إلا بحضور التأسيس المفهومي. إن الاعتماد دومًا على الحصيلة والنتائج من غير المقدمات المؤسسة تفقد النتائج أهميتها، كونها نشأت ودخلت الزمن، ولم يعد ممكناً التفكير بها إلا عبر الزمن وفي مختلف أوضاعها. إن فصلها عن ظروفها يخرجها من التاريخ، وعلى ذلك، يتم استخدام مصطلحات أقوال عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة، بيد أنها تظل مجرد إضافات إلى المخزون الثقافي، بعيداً كل البعد عن المفاهيم. فالفلسفة إذاً كممارسة تأخذ مكانها في الوسط العربي إلى جانب ميادين المعرفة الأخرى التي يجري الأخذ بنتائجها، في الوقت الذي يتم إغفال المبادئ العقلية التي تتأسس عليها، دون أن تتأصل في الوعي والفكر العربيين، ويبقى الفكر إشكالية العقل العربي وهكذا. وتأسيساً على ذلك أليس من حقنا مساءلة العقل عن مهمته وممارساته وتجلياته؟ أليست المراجعة الذاتية للعقل شرطاً لإمكانية بلورة فكر يبني نفسه ويبني ممارساته؟


1- Pierre Zima,La Construction,Une critique. Ed, Puf. P.34. | 2- Pierre Macherey, Penser san Spinoza. P. 40. | 3- Gilles Deleuze, Spinoza, Philosophie pratique. Minuit. P.42. | 4- Pierre Zima. Ibid, p.22. | 5- Karl jaspers, introduction à la philosophie. Ed.Cit.P.14.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها