في غياب القارئ الناقد.. وحضور الناقد المجامل تحدث المأساة

حوار مع كمال اللهيب

حاوره: حاتم السروي


كمال اللهيب.. واحدٌ من رواد الحركة الأدبية بمصر في الوقت الحالي، يمارس الأدب إبداعاً ونقداً، ويؤمن بأن النقد ثمرة الموسوعية والابن الشرعي للفلسفة، يقيم نقده أيضاً على أسس علمية، وليس على الانطباع والذوق الشخصي، بل على الأسس التي تعلمها في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية، التي تخرج منها بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف وكان أول دفعته، والآن يعلم طلابه ما تعلمه عن معنى الأدب وأهميته، وضرورة الفهم السليم للعلم وللواقع أيضاً.

 


الدكتور كمال اللهيب

 

واللهيب ناقد يكتب القصة، رغم أن عالمه النقدي يملأ عليه حياته؛ لكن اهتماماته تتشعب وتتسع لتشمل العلم الطبيعي وفلسفته.. هذا هو كمال اللهيب، رجلٌ دمنهوري الانتماء سكندري الهوى، وحبه للإسكندرية ينشأ من تعلمه فيها وتعلقه بها، فهي مدينة الجمال والسحر والخيال؛ لأنها ببساطة عروس البحر الأبيض المتوسط، والجوهرة التي أهداها الإسكندر الأكبر للعالم.. وقد صدر لكمال اللهيب أخيراً كتابه "تحليل الخطاب الروائي.. بناء الشخصية مدخلاً"، وبمناسبة صدوره كان لنا معه هذا الحوار.

 

✦ من وجهة نظرك لماذا الأدب؟ ولماذا القصة والرواية والمقالة؟

✧ سؤال مهم جدّاً، وتتضح أهميته إذا تمت الإجابة عنه في سياقه الأوسع؛ فالأدب بمختلف تجلياته هو أحد الفنون السبعة التي تجتمع تحت مظلة الفن، فإجابة السؤال "لماذا الأدب"؟ تتماهى مع إجابة السؤال "لماذا الفن"؟ والذات الإنسانية سواءً أكانت ذاتًا فردية ممثلة في كاتب أو فنان أومتلقٍ، أو ذاتًا جمعية ممثلة في جماعة ثقافية ما في ظرف تاريخي معين، عندما تتجه إلى إنتاج عمل إبداعي أو تناوله نقدياً أو تداوله ثقافياً؛ فإن توجهها ذلك يمكن أن يكون خلفه دوافع كثيرة، وهذه الدوافع بدورها يمكن استقراؤها، فقد يكون الدافع نفسياً كالتعويض أو التسامي أو الإسقاط مثلاً، أو رغبة في تأكيد هوية أو آيديولوجية معينة، أو ترسيخ نسق ثقافي ما، فالتشكيلات الجمالية للأدب قد تبدو بريئة في ظاهرها؛ ولكنها تضمر أنساقاً ثقافية تمررها إلى وجدان المتلقي، وتدفعه لقبولها بطريقة لا واعية، وقد يكون الدافع رغبة الجماعة الثقافية في استمرار هُويتها ونقل خبراتها إلى الأجيال التالية كما في الفنون الشعبية، وقد يكون الدافع تلك الرغبة اللاواعية والدفينة داخل النفس البشرية في الخلود، فلا ننسى أن النقوش التي حفرتها يد رجل أو امرأة على جدار كهف بدائي ذات يوم من أيام ما قبل التاريخ، هي دليلنا الوحيد على وجود ذلك الإنسان في الحياة، فالفن يقدم لنا دليلاً على وجود من سبقونا في الحياة بآلاف السنين، وربما يكون أحد الدلائل على وجودنا لمن يأتون من بعدنا.

✦ الكتابة السائدة في الساحة الأدبية هل هي واقعية أم بعيدة عن الواقع؟ أم رومانتيكية ومنغلقة على ذات المبدع؟

✧ بكل صراحة الساحة الأدبية يمكن أن نجد فيها كل هذا الخليط، ففيها الغث وفيها أيضاً السمين ولكنه من الندرة بمكان، ولذلك أسباب كثيرة لا مجال للاستفاضة في ذكرها، ولكنّ أهمها: أن بعض من يريد أن يشتري لقب "مبدع" يمكنه التوجه لأقرب مطبعة ويطبع ثلاثة كتب، ويحصل على عضوية اتحاد الكتاب، ثم ينتمي إلى إحدى الأندية الأدبية يحقق من خلالها مجموعة من العلاقات الشخصية، التي تكون كفيلة بإدخاله إلى المشهد الأدبي، وعلى العكس هناك مبدعون مخلصون لفنهم، وهم محاصرون في دائرة التهميش؛ لأنهم مثلاً يتنزهون عن إخضاع إبداعهم لشروط مسبقة تفرضها بعض دور النشر، أو بعض المنصات الإبداعية.

✦ لماذا كثرة الروايات والقصص؟ مع العلم أن كثيرين يرونها بلا فائدة وغير مجدية؟

✧ رواج نوع أدبي في فترة معينة ليس مشكلة في حد ذاته، بل قد يكون علامة صحية إذا كانت الأعمال تحمل إضافات فكرية وجمالية، ولكن أن يتم تسليع الأدب والفن، والتعامل مع العمل الأدبي بقوانين السوق والإعلانات والمنطق التجاري، الذي يسعى إلى تفضيل أعمال تناسب هوى من يملك ثمن الكتاب أيا كانت ذائقته، وإغراق سوق الكتاب بتلك الأعمال؛ ليكون العمل الأدبي في ذلك مثل مساحيق الغسيل فتلك هي المشكلة.

✦ أين الثقافة العلمية من توجهات المثقفين في مصر؟

✧ الثقافة العلمية الأصيلة لا تنشأ من فراغ؛ وإنما تتأسس في ضوء الوعي بمرتكزات فلسفة العلم وتصوراتها، والاستعراض السريع الموجز لفلسفة العلم في الغرب تكشف سرعة تطورها وتكيفها مع مستجدات العصر، بداية من الوضعية المنطقية في صورتها الأولى، ثم صورتها الأخرى في ثلاثينيات القرن الماضي المتمثلة في التجريبية المنطقية، وصولاً إلى بنية الثورات العلمية، ثم مرحلة ما بعد الثورات العلمية... وما زال التطور يتسارع حتى لحظتنا الراهنة، والمثقف في مصر أو غيرها من البلدان، يكون قادراً على إنتاج خطاب ثقافي علمي منضبط، بقدر وعيه الإيجابي بتلك المرتكزات التأسيسية.

✦ كيف يكون الأدب جيداً من حيث الأدوات الفنية وملتزماً بقضايا المجتمع؟

✧ إذا اجتمعت لدى الكاتب الموهبة الأصيلة التي تمكنه من أن يقترح آفاقًا جمالية إبداعية جديدة، مع اقتناع حقيقي وليس مفتعلاً بالقضايا التي يثيرها ويدافع عنها، سيكون بهذا الشكل هناك إنتاج أدبي متميز.

✦ لماذا يكتب من لا يقرأ؟ ولماذا لا يتوقف النقاد عن المجاملات؟

✧ تعجبت ذات مرة من أحد الكتاب وكان يتباهى بعدم القراءة، كما أتعجب أيضاً من كتاب يسوقون مصطلحات ذات مرجعيات معروفة، ويوظفونها في غير ما قصدت إليه، أو يُضَمِّنون السياق الواحد مصطلحات من مشارب متضاربة، باعتبار أنها صادرة عن نفس المعين، وفي غياب القارئ الناقد، وحضور الناقد المُجَامِل تحدث المأساة، وربما يكون الزمن كفيلاً بأن يذهب الزبد جفاء، ويبقى في الأرض ما ينفع الناس.

✦ لماذا اختفت الضوابط التي يقوم عليها النقد في المشهد الأدبي؟

✧ إذا كان الحديث عن النقد بالمعنى المنضبط للكلمة؛ أي النقد الذي يتأسس على رؤية فكرية متسقة، ومنجهيات وخطوات إجرائية وأجهزة اصطلاحية منضبطة، ويقوم برصد مسارات المشاريع الإبداعية، ويكشف عن الفتوحات الجمالية، أو يقترح آفاقاً جمالية جديدة، فنحن في أزمة؛ لأن ندرة ذلك النقد في واقعنا الأدبي المعيش دفعت الكثير من الكتاب للكتابة عن بعضهم البعض، وفي الغالب يكونون أصدقاء، مما أنتج كماً كبيراً من المجاملات الأدبية التي تنشرها بعض الصحف والمجلات السيارة تحت مسمى النقد، وعلى الرغم من وجود مشاريع نقدية مبدعة لقامات نقدية عربية؛ فإنها تظل مشاريع فردية يجاهد أصحابها لإيصالها في ظل معوقات وإحباطات كثيرة. والنقد العربي في حاجة إلى ما هو أكثر من المشاريع الفردية، فنحن بحاجة إلى وجود تيارات نقدية مكتملة، تشكل مدارس منهجية تتجادل وتتحاور في رصد الظواهر والمشاريع الأدبية، وفقاً لمنهجيات مبتكرة، وأجهزة إصطلاحية ناتجة عن تفاعل عميق بين الممارسة النقدية والإبداع، باختصار ثقافتنا العربية الآن بحاجة إلى نقد فعّال، وتحليل جيد.

✦ هل يستطيع الناقد تحجيم انطباعاته الشخصية أو إخفاءها بالكامل ليمارس نقداً موضوعياً؟

✧ يختلف عمل الناقد عن الكيميائي، الذي يستطيع تحليل مادته إلى عناصرها الأولية، وتوصيفها وإصدار حكم على طبيعتها، يتمتع بدرجة كبيرة من الثبات النسبي في الزمان والمكان، حيث التّجربة هي المحك، ويظل الحكم ثابتًا حتى يستجد من أدوات العلم ما يقود إلى نتائج أخرى، ولكن الناقد أشبه ما يكون بالقاضي الذي يدرس ويحلل ويستوعب موضوعه، ثم يصدر حكمه وفق ما يستقر في قناعاته الشخصية. وعندما يتمتع الناقد برؤية فكرية أصيلة، ومنهجية منضبطة وضمير مهني، يكون لحكمه النقدي درجة كبيرة من المصداقية.

✦ حدد لي بإيجاز علاقة النقد بالفلسفة، وبعلم النفس والتاريخ والاجتماع؟

✧ هي علاقة تاريخية وثيقة منذ "سقراط" إلى "جاك دريدا"، فسقراط تطرق إلى تعريف الجميل وعرَّفه بأنه المفيد، وأفلاطون اتخذ في الكتاب الثالث من جمهوريته شعر "هوميروس" أداة لصياغة رؤيته النقدية، وفَرَّق بين الحكي والمحاكاة، وهو التمييز الذي سيصبح بعد ذلك من مرتكزات علم السرد، وأرسطو ظل لكتابه "فن الشعر" تأثيراً واسعاً على الدراسات النقدية والأدبية، وتلك العلاقة الوثيقة تتأكد مروراً بالفلاسفة الذين أسهموا في مبحث الجمال على اختلاف أطروحاتهم، وبالنسبة لعلاقة النقد بكل من علم النفس والتاريخ والاجتماع؛ فإنها تتجلى بصورة واضحة في النقد الحديث في المناهج السياقية الخارجية، كما في كل من المنهج النفسي والتاريخي والاجتماعي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

حاتم صلاح السروي

خالص الشكر والتقدير والمحبة لمجلة الرافد الزاهية المزدهرة ذات المحتوى النافع والعميق والإخراج الأنيق..مجلة تتعامل بشفافية، وتقبل باحترام وترفض الأعمال باحترام وتخبر الكاتب في كل الأحوال بعد اهتمام وقراءة وتدقيق..عمل جاد ومجلة الكترونية لها قيمتها ، فالشكر كله لرئيس التحرير ومدير التحرير وكل العاملين فيها، وأتمنى لها النجاح المستمر والتألق الدائم، وهي نقطة نور في عالم مظلم، والرافد يعني الجمال والثقافة بدون مجاملة.. تحياتي وصبحكم الله بالخيرات وأسعدكم الله كما أدخلتم علينا لسرور..ولكم كل التحية

11/8/2021 11:22:00 AM

1