التشابك العسير بين الديني والسياسي

في الحاجة لتخليق رأي جديد   

عبد الرحيم رجراحي

نهدف من هذا المقال إلى إبراز أوجه الاتصال والانفصال بين الأخلاق والسياسة، وكيف يؤثر كل طرف منهما على الآخر إن سَلباً أو إيجاباً. ولعل العلاقة بين الأخلاق والسياسة علاقة مطبوعة في الأصل بالتوتر؛ ذلك أن مجال الأخلاق هو مجال ما ينبغي أن يكون، في حين أن مجال السياسة هو مجال ما هو كائن. لكن على الرغم من هذا التوتر فإن هناك إمكانية للوصل بينهما لما فيه الخير للعمران البشري، وهو ما سنسعى لبيانه في هذا المقال، وسنحاول تتبع أطوار هذه العلاقة المتوترة بين الأخلاق والسياسة منذ الفلسفة العتيقة، مروراً بالفلسفة الوسيطية والفلسفة الحديثة، ووصولاً للفلسفة السياسية المعاصرة. فما طبيعة العلاقة بين الأخلاق والسياسة؟ هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟ وكيف يمكن الوصل بين مجال الأخلاق والسياسة على الرغم من البون الأنطلوجي بينهما من أجل تحقيق رهان تخليق الشأن السياسي؟
 

لاشك أن العلاقة بين الأخلاق والسياسية متجذرة في تاريخ الفلسفة؛ وهو ما تشهد عليه إسهامات أفلاطون وأرسطو، اللذان يؤكدان أن رجل السياسة بحق هو الذي يتحلى بالمثل الأخلاقية، من قبيل الفضيلة والعدالة والخير والعفة والحكمة وغيرها من المثل الأخلاقية والحضارية؛ فقد ذهب أفلاطون في محاورة "الجمهورية" -التي كتبها وقد اكتمل تكوينه النظري- إلى أن العدالة داخل المجتمع، لا تعدو إلا عدالة مكبَّرة لتلك المتواجدة في الفرد؛ فإذا كانت العدالة في المجتمع هي بالتعريف أن ينصرف كل امرئ لأداء المهمة التي حددت له بالطبع دون أن يتدخل في شؤون الآخرين، فإن العدالة في الفرد تكمن في أن تنهض كل قوة من قوى النفس بالوظيفة الأسمى التي حددت لها؛ ذلك أن غاية القوة الغضبية هي تحقيق فضيلة الشجاعة، وغاية القوة العاقلة هي تحقيق فضيلة الحكمة، وغاية القوة الشهوانية هي تحقيق فضيلة العفة.

يتضح إذاً أن هناك تماثل بين الفرد والمجتمع؛ حيث إن صلاح المجتمع واعتداله وتوازنه من صلاح الفرد وتوازنه واعتداله؛ مما يعني أن العدالة بمعناها السياسي لا تتحقق في المجتمع، إلا إذا تحققت العدالة بمعناها الأخلاقي بين قوى النفس؛ وعليه فإن السياسة تستلزم الأخلاق، بل إن أفلاطون في الكتاب السابع من "الجمهورية" ذهب إلى اعتبار أن العدالة لن تتحقق في المجتمع ما لم يتحول الفلاسفة إلى حكام أو أن يتحول الحكام بفضل من الله إلى فلاسفة؛ وهو ما يعني أن خلاص المجتمع مشروط بالفلسفة باعتبارها مجالاً للتركيب بين الأخلاق والسياسة وتحقيق المجتمع الفاضل، الذي ينتفي فيه الفساد الأخلاقي والسياسي.

ونجد الطرح نفسه عند المعلِّم الأول أرسطو الذي يعتبر في كتابه "السياسيات" أن النهوض بشؤون الحكم يقتضي حكم الذات أولا؛ مما يعني أن القدرة على تدبير الشأن السياسي تشترط القدرة على تدبير الشأن الأخلاقي؛ فمن تعوزه القدرة على التحكم في نوازعه وتدبير شهواته ولجم جماح نفسه لا يمكنه أن ينهض بتدبير شؤون الآخرين، وأن تحقيق العدالة داخل المجتمع، وهي في نظر أرسطو أم الفضائل، لا يتحقق إلا إذا كان الإنسان عادلاً في سلوكه، أي فاضلاً، والفضيلة في تعريفه هي أن يسلك الإنسان مسلكاً وسطاً لا إفراط فيه ولا تفريط؛ وهو ما يعني أن السياسة تقتضي الأخلاق، وتدبير الشأن الجماعي متوقف أولا على تدبير الشأن الفردي، بل ذهب النظر بأرسطو إلى أن اعتبر أن النظام السياسي الأمثل هو الذي يدمج بين النظام الديمقراطي والنظام الأرستقراطي، إيماناً منه أن الفضيلة لن تتحقق إلا بتحقيق التوافق بين قوى الأغلبية وقوى الأقلية.

يتبين إذاً أن الفلسفة العتيقة في شخص علميها أفلاطون وأرسطو -على الرغم من اختلافهما الأنطلوجي- يتفقان على أن الأخلاق هي الشرط الأساس للسياسة؛ فمن حسنت أخلاقه حسنت سياسته، ومن ساءت أخلاقه ساءت سياسته؛ وإذا كانت الغاية من السياسة هي تحقيق فضيلة العدالة داخل المجتمع وهي أم الفضائل في نظر أرسطو، فإن هذا المطلب لن يتحقق إلا إذا تحققت في الفرد من منظور أفلاطون فضيلة الحكمة والعفة والشجاعة.

وقد استمر هذا الطرح الأفلاطوني الأرسطي في الفلسفة الوسيطية، ولاسيما أن هذه لا تعدو في أغلبها إلا استئنافاً للنظر الفلسفي اليوناني، ما عدا النظر في قضايا من صميم المجال التداولي الإسلامي أو المسيحي التي فرضها الشرط التاريخي. لكن على مستوى القضايا الكبرى ظلت الأفلاطونية والأرسطية يهيمنان على النظر الفلسفي، إلى درجة أن إسهامات الفلسفة الحديثة والمعاصرة لا تعدو، في نظر بعض الباحثين، سوى مجهودات للتحرر من قبضة أفلاطون وأرسطو اللذان أحكما قبضتهما على الفكر البشري.

ولعل الإشكال الفلسفي الذي شغل الفلسفة الوسيطية سواء الإسلامية منها أو المسيحية هو إشكال التوفيق بين الحكمة والشريعة أو بين العقل والنقل أو بين الدين والفلسفة؛ أي التوفيق بين طرفين متباعدين أنطولوجيا، لكنهما متقاربين واقعياً وعملياً، على اعتبار أن الإنسان في أَمَسِّ الحاجة للدين باعتباره معقل للقيم الأخلاقية التي بموجبها يحقق طمأنينة نفسه، كما أنه في أَمَسِّ الحاجة للإحاطة بأمور التدبير والحكم لتنظيم العمران البشري وهو الأمر الذي يعتمد بالأساس على العقل البشري، أي على الفلسفة.

يتبين إذاً أن الوصل بين الدين والفلسفة على الرغم من الانفصال الأنطلوجي بينهما هو ما من شأنه أن يحقق للإنسان الكمال؛ ذلك أن الدين يحقق كمال الأنفس بالفضائل الأخلاقية، والفلسفة تحقق كمال الأجساد بحسن التدبير. ولا شك أن صلاح الجسد من صلاح النفس، وصلاح المجتمع من صلاح الفرد؛ وعليه فإن الدين والفلسفة أو قل الأخلاق والسياسة هما أساس العمران البشري ودونهما لا تقوم له قائمة.

لكن بالرغم من أهمية الوصل بين الدين والفلسفة أو بين الأخلاق والسياسة في تحقيق الكمال للإنسان، إلا أن هذا الوصل انتهى لفرض الوصاية على عقل الإنسان باسم الحكمة الإلهية؛ فتم بذلك الحط من الحكمة البشرية في تدبير الشأن العام، وساد الاستبداد الديني، وصار الحاكم هو خليفة الله في الأرض، وقضى الدين على السياسة والفلسفة على حد السواء، حيث صار رجال السياسة والفلاسفة تحت إمرة رجال الدين، والحكمة البشرية، سياسية كانت أو فلسفية، تحت إمرة الحكمة الإلهية، وصار كل من خالف رجال الدين أو اعترض على سياسة رجال السياسة، إلا ويتهم بالهرطقة والزندقة ويكون جزاؤه بئس المصير.

ولعل من المبررات التي قدمها فلاسفة العصور الوسطى لهذا الواقع الذي يطبعه الاستبداد الديني هو أن مدينة الإنسان هي مدينة بلاء وفناء وفساد، أما المعوَّلُ عليه فهو مدينة الله، حيث العدالة المطلقة والخير الأسمى، وهي المدنية التي ما فتئ سان أكستان يبشِّرُ بها، مبرراً بذلك -بوعي منه أو عن غير وعي- للظلم والفساد والاستبداد والحَجر على العقول باسم الرّب والحياة الأخرى. وهي الثنائية المخاتلة نفسها التي قد نجدها في بعض جتهادات الفكر الإسلامي، حيث إنَّ هناك حياة دنيا، وهي الحياة التي نحياها الآن، حياة التدافع والظلم والبلاء، في مقابل حياة أسمى، وهي الحياة الآخرة.

لا شك أن الأزمة السياسية للعصور الوسطى تمثلت في تولي رجال الدين أمور السياسة والرياسة، وهو ما ترتبت عليه الحاجة لفصل الدين عن الفلسفة، والشأن الديني عن الشأن السياسي، والوحي عن العقل، بل صار ذلك مطلباً لا محيد عنه، من أجل إعادة الاعتبار للحكمة البشرية التي تقوم على إعمال العقل، والأخذ بالحسبان الشروط التاريخية والاجتماعية، ولعل نيكولا ماكيافيلي كان أول من دشن هذا الفصل، وهو ما يشهد عليه كتابه "الأمير" الذي يبين فيه أن تدبير الشأن السياسي يقتضي الفضيلة السياسية، بما هي فضيلة تعتمد على إعمال العقل والكياسة والحكمة، وهي فضيلة يطبعها التغير وليست مثالاً متعالياً عن الوقائع والنوازل المستجدة، أي أنها فضيلة محسوسة وعملية وتاريخية، وليست مثالاً للفضيلة متعالٍ عن الشروط التاريخية.

تصير السياسة، بناء على ما تقدم، مجالاً مفتوحاً على كل الممكنات، وليست مقيَّدة بأنموذج أخلاقي معين؛ حيث تصير الفضيلة الأخلاقية تابعة للفضيلة السِّياسية، وتصير الغاية تبرر الوسيلة، إلى درجة أن نيكولا ماكيافيل لا يجد حرجا في أن يكون رجل السياسة ثعلبا، من حيث تكون له القدرة على المكر والمراوغة، وأسدا من حيث تكون له القوة والجبروت؛ يتبين، باختصار، أن نيكولا ما كيافيلي أحدث قطيعة في الفكر السياسي الذي كان سائداً منذ أرسطو، حيث صارت السياسة الحقَّة هي السياسة التي تأخذ في الاعتبار ما هو كائن وليس ما ينبغي أن يكون، وهو الأمر الذي جعل السياسة علماً قائم الذات، وليس خاضعاً لعلم اللاهوت أو علم الأخلاق، فاستحق بذلك نيكولا ماكيافيلي لقب أبو الفلسفة السياسية الحديثة على غرار روني ديكارت الذي بوَّأه فريديك هيجل أبوة الفلسفة الحديثة.

وقد عمَّق توماس هوبز هذا الفصل بين الشأن السياسي والشأن الديني، حيث لم يعد الحاكم في كتاب "الليفايتن" خليفة لله في الأرض، وإنما صار نتيجة لتعاقد اجتماعي، بموجه يفوِّض الشعب -وليس الله- أمور الحكم والتدبير لحاكم على أساس القانون؛ حيث يعمل الحاكم على ضمان توفير الحقوق الطبيعة لمجموع أفراد المجتمع حسب ما تقرُّه القوانين المتَّفق عليها؛ وهو ما يعني القضاء على السلطة الدينية، سلطة الأوامر والنواهي الربانية، سلطة التشريعات والحكمة الإلهية، والاستعاضة عنها بسلطة سياسية، سلطة الأوامر والنواهي النابعة من الإرادة الحرة للبشرية، سلطة التشريعات والحكمة الإنسانية.

يعني ما تقدم من جملة ما يعنيه أن الشأن السياسي صار مستقلاً عن اللاهوت السياسي ونموذجه الأخلاقي القاضي بالسمع والطاعة لرجال السياسية بما هم خلفاء الله في الأرض، واجتناب نواهيهم؛ لأن في معصيتهم معصية الله، الأمر الذي يسوغ للاستبداد الديني والسياسي. غير أن هذا الفصل بين الدين، معقل القيم الأخلاقية، وبين السياسة، معقل الحنكة السياسية، ترتبت عنه أزمة سياسية، حيث صار الشأن السياسي مجالاً للمكر والخداع والتدليس والكذب والتزييف، وهو ما جعل تخليق الشأن السياسي في الزمن المعاصر رهاناً من الرهانات التي سعت الفلسفة السياسية المعاصرة لتحقيقه.

ومن أهم الإسهامات الفلسفية في هذا الباب نذكر إسهامات ليوشتراوس الذي يعتبر أن أزمة الحداثة السياسية تتمثل بالأساس في الفصل بين السياسة والدين، وبين الأخلاق والسياسة، وبين الوحي والعقل، ويلقي بالمسؤولية الفكرية في هذا المضمار على نيكولا ماكيافيلي الذي دشن هذا الفصل وأسس لعلم السياسة بمعناه الحديث، وهو الفصل الذي عَمَّقهُ توماس هوبز، وتوَّجَهُ فيما بعد باروخ سبينوزا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة"، وهو ما جعل هؤلاء الفلاسفة يتنافسون على لقب أبوة الفلسفة السياسية الحديثة، كما بين ليوشتراوس في الكتاب الموسوم بعنوان: "تاريخ الفلسفة السياسية".

ومن مظاهر أزمة الحداثة السياسة سيادة العقل التقني في التدبير والتسيير ضارباً عرض الحائط المثل الأخلاقية والحضارية، وهو عقل بموجه دخلت البشرية في حروب مدمرة مخلفة خسائر مادية وبشرية، ومنذرة بحروب أخرى لا تبقي ولا تذر؛ وقد حدث هذا نظراً لرهان الفلسفة الحديثة على سيادة الإنسان على الطبيعة، وهو الرهان الذي أعلنه أبو الفلسفة الحديثة روني ديكارت، وكان من نتائجه أن أتى الإنسان على الأخضر واليابس من ثروات الطبيعة وعتا في الأرض فساداً؛ وقد ترتب عن سيادة العقل التقني نزعة تاريخانية تؤمن بفكرة التقدم في التاريخ، وتمجد الحاضر، محاولة القطع مع التراث الديني والأخلاقي للعالمين، وهو ما ترتب عنه بالتالي سيادة العدمية، حيث صار الشأن السياسي لا يعوَّل عليه لتحقيق العدالة والخير والسلام، وهو أمر طبيعي ما دامت الفضيلة الأخلاقية صارت تحت إمرة الفضيلة السياسة.

ومن الحلول التي يقترحها في هذا الصدد ليوشتراوس نذكر العودة للفلسفة العتيقة، سواء اليونانية، خاصة سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو الفلسفة الوسيطية، سواء الإسلامية، خاصة أبو نصر الفرابي وبن رشد، أو المسيحية شأن فلسفة سان أكستان وتوما الأكويني، ولعل ما يميز حقبة الفلسفة الوسيطية أنها تجعل الفضيلة السياسية تحت إمرة الفضيلة الأخلاقية؛ مما يعني أنها فلسفة تنشد الكمال، كمال الجسم بحسن التدبير، وكمال النفس بالفضائل الأخلاقية.

هذا وإن أمر القطيعة مع الدين ونماذجه الأخلاقية، أو قل باختصار القطع مع الميتافيزيقا من أجل تحقيق الحداثة السياسية والتقدم العلمي، لهو قطع تاريخاني، يغض الطرف عن المخيال الاجتماعي للشعوب وعن لا وعيها السياسي الذي ما فتئ يوجه الممارسة السياسية؛ ولعل فريدريك هيجل أدرك بحق استحالة القطع وهو الذي اعتبر في مؤلفه عن "محاضرات في فلسفة الدين" أن الشعوب أودعت في الميتافيزيقا أعز ما تملك، بل لا غرابة إن وجدنا الفكر السياسي الحديث لا يعدو، كما يؤكد على ذلك كارل شميت إلا دنونة للمفاهيم الدينية، حيث تصير فكرة الله القادر في الدين هي نفسها فكرة الحاكم القدير في السياسة، وقس على ذلك فكرة المعجزة الإلهية في قوانين الطبيعة بفكرة الاستثناء السياسي في تدبير الشأن العام وهكذا دواليك.

نستخلص مما تقدم أنه بالرغم من التوتر الحاصل بين الأخلاق والسياسة، فإن هناك إمكانية للتوليف بينهما لما من شأنه أن يحقق الكمال في الفرد والمجتمع على حد السواء؛ ولعل هذا الرهان هو الذي كانت تنشده الفلسفة العتيقة والفلسفة الوسيطية لكنه خاب نتيجة لهيمنة رجال الدين على أمور السياسة والرياسة، وهو ما انتقدته الفلسفة السياسية الحديثة كما بينا أعلاه، محاولة الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي، لكنها بالغت في أهمية هذا الفصل حتى صار مجال السياسة مجالا لانتفاء القيم الأخلاقية والحضارية، وهو ما نبَّهت إليه الفلسفة السياسية المعاصرة خاصة مع ليوشتراوس الذي دعا للعودة إلى الفلسفة العتيقة لإصلاح أزمة الحداثة السياسية، لكن دون أن يعني ذلك أن هذه العودة هي عودة أصولية أو سَلَفية، بل هي عودة تعترف بمكتسبات الحداثة، لكنها تسعى لتخليق الشأن السياسي من النوازع التي تهدد العمران البشري.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها