الرواية رؤية شعرية للعالم!

مُكاشفةٌ أدبيةٌ مع الشاعر والروائي مختار عيسى

حاوره: الأمير كمال فرج


يرى الشاعر والروائي المصري مختار عيسى أن وظيفة الأدب تغيرت، فالشاعر قديماً كان سفيراً ومؤرخاً، ووزير إعلام القبيلة، اليوم هناك وزارات ومؤسسات كثيرة تقوم بهذه الأدوار، مؤكداً أن التطور الهائل الذي أنتجته التكنولوجيا الرقمية، وما يمكن أن نسميه بحضارة الديجيتال يفرض التغيير في كل مناحي الحياة، ومن بينها الثقافة.


ومختار عيسى أحد المبدعين الكبار الذين أثروا الحركة الثقافية العربية بالعديد من الأعمال، كتب في فنون أدبية عدة، كالشعر والرواية والدراسات النقدية، وأدب الأطفال، وهو يساهم بقوة منذ أكثر من أربعين عاماً في إثراء العمل الثقافي.
 

من أعماله: "خارطة للجرح"، و"يحط اليمام على ضفتي"، و"العابر"، و"ملتقى مرايا"، و"أصفق للملائكة دون تحفظ"، و"نون النشوة"، و"نزف وموسيقا"، و"كأنه يومض لي ولا يكاد ينطفئ"، "وعلى المدى أبقاها"، و"تعاليق على جدار يريد أن ينقض"، و"سوسنة المستنقع"، و"ذكر ما تيسر من حديث الناقد"، و"من أوراق الهزيمة"، و"غلطة مطبعية"، و"العودة"، و"أحمد في مدينة النحو".. وغيرها.


في هذه المكاشفة يفتح الأديب مختار عيسى قلبه لـ"الرافد"، ليدلي برأيه في عدد من القضايا الثقافية الملحة.



✧ بعد التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكثيرة، هل تغيرت وظيفة الأدب؟

يظن كثيرون بل ويرددون أن هذا ليس عصر الأدب؛ بحكم ما طرأ على الحياة من متغيرات، وأود أن أقول إن الأدب كان وراء كثير من هذه التحولات، أيّد ما ظنه الأدباء في مصلحة الإنسان وتحقيق وجوده، وقاوَمَ ما حاولته بعض أطراف المعادلات السياسية والاجتماعية من تهديد لهذه الإنسانية.

والأدب كان ولا يزال تعبيراً عن التحولات والبيئات الجغرافية والتاريخية، استجابة للمتغيرات، ومن ثم فالتوقف عند ذائقة الأجداد باعتبارها الأدب الحق وماعداها ليس أدباً كما يردد البعض بطبيعته، يمثل انتحاراً إنسانياً، أو موتاً، حيث إن الأدب يجاهد التثبيت ويتنصل من الواحدية، وهو دائماً في صيرورة تغيير وتفاعل وفق التجاور والجدل الفني، وليس الصراع القائم على الإقصاء والنفي للمخالف كما يتبناه التحنيطيون التثبيتيون.

الشاعر قديماً كان سفيراً ومؤرخاً، ووزير إعلام القبيلة، اليوم هناك وزارات ومؤسسات كثيرة تقوم بهذه الأدوار، وعلى هذا فقد تغيرت وظيفته، ولم يعد مشغولاً بهذه الأمور، وإن كانت القضايا الإنسانية العامة والقضايا القومية لا تزال قادرة على فرض حضورها الباذخ في المشهد الأدبي بشكل عام، رغم التفات الكثيرين إلى إغلاق الأدب على التعبير عن الذاتي المحض.

✦ برأيك الثقافة العربية تقاوم التغيير أم هي عاجزة عن التغيير؟

الثقافة في أزهى تجلياتها انعكاس للواقع، وخلق لجديده أيضاً، ولهذا فإن التطور الهائل الذي أنتجته التكنولوجيا الرقمية، وما يمكن أن نسميه بحضارة الديجيتال يفرض حضوره على كل مناحي الحياة، والثقافة ليست بمعزل عما يجري فيها، وهي في حال ديالكتيكية معها، ولكن عدداً كبيراً جداً ممن يتعاملون مع الشأن الثقافي والمؤسسات الأكاديمية على رأسه، ما يزال يعتمد ثقافة التحنيط وتوقيف الزمن، ولم يستفد بعد من هذا التطور التكنولوجي الهائل، ولا من ثورة الانترنت.
فلا تزال آليات التعامل في الجامعات إلا ما ندر بعيدة عن الإفادة الكاملة من التقنية، وما يزال مثقفونا يتعاملون رغم امتلاكهم أحدث أجهزة الاتصالات بطريق (قلم الكوبيا)، ولو حاولت إحصاء المواقع التي يتابعها المثقفون لصدمتك الحقيقة، ولوقفت مذهولاً أمام التباين الرهيب بين متابعة أو قراءة موضوع ثقافي جاد، أو ندوة فكرية شاءت الظروف أن تبث على الانترنت، وبين متابعة مطربي المهرجانات.

أرى أن أجهزة عدة مختلفة مسؤولة عن هذا التباين، حيث تتبنى بعض هذه التفاهات في أجهزتها الإعلامية الرسمية، ومن ثم لم يلتفت متلق جديد إلى وجوب استنقاذ ذائقته من التردي.

كتبت مقالاً بعنوان (سلعنة الثقافة وعصرنة عكاظ الشعراء)، وأرى بالفعل أن التسليع وقوانين التجارة والرديء منها أعظم المعوقات بين العربي، والإفادة من ثورة الانترنت الهائلة

✧ كتبت القصيدتين الفصحى والعامية، وأيضاً الرواية، هل هناك قواسم مشتركة بين الفنون؟

بالقطع، الفنون تتداخل وتتقاطع، ويعيش كل فن جدليته الخاصة وجدلياته مع الفنون الأخرى، والفصل التعسفي بين الأجناس الأدبية يقوم على افتراض غير واقعي، أن هناك انفصالاً بين كل مفردة من مفردات الحياة وغيرها، وهذا وهم؛ فالتداخل فى الحياة قائم بين المادي والمعنوي، بين الحار والبارد، بين السياسي والاجتماعي والثقافي، بين الطمأنينة والفزع، بين الأبيض والأسود، بين الألوان جميعاً وبعضها البعض.
وعلى هذا؛ فإن الفواصل المائزة بين الأجناس، وإن كانت ضرورة تعليمية أو تصنيفية نقدية، إلا أنها ليست حدوداً مانعة من العبور، وتظل مجرد تساييج معرفية، وفي أعمالي تتجاور هذه الفنون، سواء في النص الشعري أو الروائي، أو حتى في المقال النقدي أو السياسي، وفي قصيدتي تجد الديالوج المسرحي، والمونولوج، والقطع السينمائي، وفي رواياتي لا يغيب الشعر، أو اللغة الشاعرة، أو اللوحة التشكيلية.

وسؤالك الذي يدور حول تباين اللغتين الفصحى والعامية يعيدني إلى إجابة الراحل العظيم نجيب سرور: "الشعر مش بس شعر لو كان مقفى وفصيحاً / الشعر لو هز قلبك وقلبي شعر بصحيح"، ودعني أقل لك: إن الرواية هي رؤية شعرية للعالم.

✦ بعد رحيل عمالقة النقد مثل محمد مندور، وعبدالقادر القط، ورجاء النقاش.. كيف ترون أزمة النقد الأدبي؟

أرفض ثقافة الاختزال التلقيبية، أو (النوستالجيا) الثقافية والاتهامات والتوصيفات التأزيمية، النقد ليس في أزمة، بل الأزمة رغم التطور الهائل في الاتصالات وعلومها في الوسيط الناقل، ما تزال هناك فجوات عميقة بين النقد ومتابعيه، المشهد الآن فيه نقاد، مع احترامي وتقديري العميقين لمن ذكرت من أسماء أساتذتنا الكبار.

وشخصياً كانت لي تعاملاتي الخاصة مع الراحل دكتور عبد القادر القط، وأدين له بأفضال كثيرة عليَّ وعلى أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا، لكن ينبغي ألا نظل دائماً نردد أننا لن نضيف إلى ما أضافه السابقون.

أنا شخصياً لي أكثر من ثمانين دراسة نقدية عن كبار الكتاب، وأكثر من نصف هذا العدد منشور في دوريات متخصصة ومثلي كثيرون، لكننا نظل نردد ما ردده السابقون، ولا نريد أن نتخلص من فكرة التقديس الاختزالية.

✧ أدب الطفل الآن هل يناسب جيل الكمبيوتر والانترنت، ومواقع التواصل والألعاب الإلكترونية؟

الأدب مرآة العصر وربيب البيئة الزمكانية، ومن ثم ما كان يناسب طفل عشرينيات القرن الماضي مثلاً لا يناسب بالقطع طفل اليوم، وعلى الكُتَّاب استيعاب الفروق الهائلة في المعلوماتية، والقدرة على اختراق كل الحواجز التي كانت الكتابات القديمة تجيزها اعتماداً على الخيال المحض، والذي تحول بفعل الصيرورة الحضارية إلى واقع، وأن يدرك كتاب الطفل أنه لم يعد مناسباً أبداً تقديم حكايات "أمنا الغولة" وأمثالها؛ فالطفل وعقليته الناقدة، نعم الناقدة، سوف يتجاوزان هذا الحكي الساذج، بل ربما يتهم الكاتب بـ(الاستعباط).

ونصيحتي للزملاء الكُتَّاب الذين يتعاملون مع طفل القرية الإلكترونية والكوكبية، أن يتجاوزوا حكايات الكوخ والصياد والساحرة الشريرة، وأن يستبدلوا بهذه الأخيرة أخطر الساحرات، أعني التكنولوجيا الرقمية، وتلاشي الحدود، ومحاولات الكوكبية، والعالم الذي تردّى في ظل سيطرة القطب الواحد، لفرض هيمنة الكائن الرأسمالي الاستهلاكي المتوحش، وصراعات القوة في عالم ما بعد النووي.

✦ الثقافة العربية متهمة بأنها ثقافة ذكورية، فماذا عن إبداع المرأة؟

هذه مظلومية تاريخية لم يعد لها تأثير في العالم المعاصر؛ حيث تلاشت الحدود والفواصل بين الجنسين إلى حد كبير، وشاركت المرأة الرجل في مناحٍ شتى من العمل السياسي والاجتماعي؛ فأهم وزارات مصر على سبيل التمثيل الآن تحمل حقائبها نساء، ووزارة الثقافة ذاتها تتولاها امرأة، وسلاسل تحريرية كثيرة تترأسها نساء، وإن كانت المرأة تجد في بعض البيئات حرجاً في التعبير عن بعض الموضوعات، إلا أن الملحوظ أن كثيراً من اختراقات التابوهات تمت على يد نساء.

إن التطور التكنولوجي والرقمنة والاتصالات المفتوحة والمواطن الكوزموبوليتاني تكفلت بإزاحة كل الأستار، وهدم كل السدود التي كانت تحول بين بعض الفئات أو البيئات، وبين التعبير الحق عن مكنون المشاعر.

✧ بالنظر إلى الأنماط الإبداعية الجديدة التي ظهرت في العصر الحديث، ما موقع التجريب في الرواية العربية؟

ما من شك أن التجريب الذي طال كل الأشكال الفنية والأدبية فرض حضوره في حقل الرواية، فلم تعد بنيتها تعتمد على تراتبيتها التقليدية، ولم تعد الحكاية بتسلسلها الزمني الخطي، ولا الشخصيات بأنماطها شبه الثابتة، وأفادت الرواية من المنجز العام في فنون عدة، كالتكنيك السينمائي في المونتاج والفلاش باك والاستباق، ودائرية الزمن دون التسلسل المألوف في السرود التتبعية، ولم يعد المجال متاحاً لكثير من السرود في الانتقال من حال إلى أخرى، أو من مشهد إلى آخر.
كما أفادت الرواية من الثورة الرقمية التي أتاحت قدراً كبيراً من الكثافة التعبيرية، وفي هذا الإطار دعني أوضح أن هناك فروقاً هائلة في كل الفنون بين التجريب والتخريب.

✦ تكتب الأدب والنقد.. ماذا أفاد كل منهما الآخر المبدع والناقد؟

بالقطع، سبق المبدع التلقائي فيَّ الناقد الدارس، في بداية التشكلات، والتكوين الأدبي، ومن ثم فإن البدء كان بالشغف بالإبداع، والنقد كان الداعم الأساس لتكوين الذائقة التي في بكور تكوينها قامت على أساس من الاختيار والتفضيل لأشكال من الكتابة وطرائق تعبير ومستويات لغوية وانحيازات فكرية.

ومن ثم تشكلت ذائقة نقدية ابتدائية، ظلت تتنامى مع تنامي الإبداع، الذي لا يرضى بالجمود والتحنيط وتوقيف الزمن؛ فتجاور الإبداع والنقد وتحاورا كثيراً أثناء إنتاج النص أو حتى في إعادة قراءته مرة تلو الأخرى؛ حيث ترتاح الذائقة النقدية إلى نمط أو تعبير أو صورة شعرية أو تستهجن أي منها، وذلك على المستوى الشخصي.
فأفاد المبدع من حسه النقدي المصاحب، ربما ليس في النص المنتج الذى خرج إلى المتلقي، ولكن في ما هو لاحق من نصوص عندما تقف الذائقة النقدية ترجيحاً أو رفضاً أو تأييداً كاملاً لفكرة أو صورة أو نمط موسيقي أو مستوى لغوي.

ويستفيد الناقد كثيراً من إبداعه، خاصة عندما يتعامل كناقد محترف مع نصوص الآخرين؛ حيث تمكنه خبراته الإبداعية من فك شفرات نصوص لا يتاح لغير المبدعين فكّها. ولكني أؤكد دائماً ضرورة أن يفصل الناقد بين ذائقته الخاصة وما يتعرض لنقده، بمعنى أن يخلص الموضوعي من الذاتي في العملية النقدية.

ويبهجني كثيراً أن عدداً من كبار كتاب مصر، ممن كتبت عن أعمالهم دراسات مستفيضة يصفون ما أقدمه بأنه إبداع، وأنهم يطربون له وما فيه من فنيات، ما يعني أن النقد والإبداع تبادلا المنافع في ذائقتي دون أن يصيب النقد -بجفافه أحياناً- الإبداع، أو أن يحيل المبدع الناقد إلى المجاملات.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها