بعيداً عن الوصف قريباً من التفسير

تشومسكي.. من اللسانيات البنيوية إلى النحو التوليدي

عبد الله بن ناجي

اعتبر عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه "البنيات التركيبية" أن جميع اللغات الطبيعية سواء في شكلها المكتوب أو المنطوق تستجيب لتعريف اللغة باعتبارها "مجموعة من الجمل تتألف من عناصر منتهية"، وإذا كانت اللغة تشكل مادة تتقاطع في دراستها مختلف مجالات العلوم الإنسانية؛ فإن الأمر يؤول إلى كونها أساس كلّ نشاط ذهني يمارسه الإنسان من جهة، وإلى ارتباطها الوثيق بحقيقته وماهيته من جهة ثانية؛ لكنّ اللسانيات تعد العلم الذي يدرس اللغة دراسة مباشرة، ويتخذ منها موضوعاً للدراسة، رغم تفرعه إلى تيارات ومدارس بعضها له ارتباطات بمجالات معرفية وإنسانية تمتد خارج اللغة ومستوياتها الداخلية.

ومعلوم أن المبادئ الأولى للسانيات وُضعت على يد العالم السويسري فردناند دو سوسير (1857- 1913)، في كتابه "محاضرات في اللسانيات العامة"، الذي نشر من قبل تلامذته سنة 1916؛ ومن بديهيات القول إن اللسانيات ما هي إلا مرحلة من مراحل تطور الدراسات اللغوية، بعد النحو والمنطق وفقه اللغة وتاريخها، حيث شكلت دراسة اللغة لذاتها وفي ذاتها، بمعزل عن الاستعمال، أهم أساسيات هذا العلم، ومعه أضحت اللسانيات تهتم بدراسة بنية اللغة من الداخل، من خلال وضع قواعد معيارية عامة مشتركة بين أفراد الجماعة اللسانية؛ وهو ما تتيحه دراسةُ اللغة بمناهج العلم وأدواته، فكان ذلك فاتحة ظهور المنهج البنيوي الذي شكل ثورة حقيقية في مجال الدراسات اللغوية والنقدية عامة، فتوالت كُشوفات علماء اللغة ومقترحاتهم، فظهرت على إثر ذلك مدارس عديدة: الوظيفية والتواصلية والتوزيعية والتوليدية، التي مثّلَ صدور كتاب "البنيات التركيبية" سنة 1957 للعالم الأمريكي نعوم تشومسكي إعلاناً بميلادها. فمن هو نعوم تشومسكي؟ وما موقعه في سياق الدرس اللغوي؟ وما أهم ملامح نظرية النحو التوليدي التحويلي؟

تشومسكي: مسار حياة أثّر في الدراسات اللغوية

أفرام نعوم (نوام أو نعوم) تشومسكي عالم لغوي أمريكي معاصر من مواليد 1928، تلقى تعليمه الجامعي بجامعة بنسلفانيا حيث حصل على درجته العلمية في اللغويات عام 1951، ثم درجة الدكتوراه في اللسانيات عام 1955 عن أطروحته "التحليل التحويلي"، هو أستاذ جامعي مدى الحياة في اللغويات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. شكل التوجه الجديد الذي نهجه في دراسة اللغة، منذ كتابه "البنيات التركيبية" أو "البنى التركيبية" سنة 1957 شبهَ قطيعةٍ مع المناهج التي اعتمدتها اللسانيات البنيوية، حيث اعتبر اللغة ملكة ذهنية فطرية لدى الإنسان، وجاء بثنائية القدرة والإنجاز في مقابل اللسان والكلام عند فردناند دو سوسير؛ بعد ظهور كتاباته التي أحدثت ثورة على ثلاثة مستويات: المستوى الفلسفي والمستوى السيكولوجي والمستوى اللساني، جعلت منه أكثر العلماء تأثيراً في علم اللغة الحديث، حيث أضحت نظرياته اللغوية تستخدم في علوم الاتصال وعلوم الحاسوب في إطار ما يُسمّى باللسانيات الحاسوبية؛ وهو صاحب نظرية النحو التوليدي التحويلي، التي كثيراً ما تعتبر- إلى جانب محاضرات دو سوسير- أهم إسهام في مجال اللغويات النظرية في القرن العشرين، حيث أسهم في إشعال شرارة الثورة الإدراكية لعلم النفس من خلال مراجعته للسلوك الفعلي لسكينر، ونقده للمقاربة السلوكية، التي كانت سائدة في الخمسينيات، وذلك حين تجاوز السلوك الشرطي للفعل الإنساني، واعتبر اللغة البشرية عملية إبداع ذات قدرات هائلة غير محدودة. من مؤلفاته: قواعد وتمثيلات (1988)، تأملات في اللغة (1975)، اللغة والعقل (1968)، جوانب من نظرية التركيب (1965)، البنى التركيبية (1957).

 

تشومسكي في سياق الدراسات اللغوية

تجاوز اللسانيات البنيوية

تدرس الألسنية البنيوية المستوى السطحي للكلام، ولا تبحث في المستوى العميق، كما لا تراعي التحول لأنها تهتم باللغة بعيداً عن ذات المتكلم، ونقطة الضعف في الألسنية البنيوية -حسب تشومسكي- هو اقتصارها على الوصف دون التفسير، لذلك حاول تجاوز الثنائيات التي وضعها دو سوسير وتأسست عليها اللسانيات البنيوية، فاعتمد الجملة أساساً للبحث في كيفية اشتغال اللغة، لكن ليس باعتبارها نسقاً ونظاماً، تُدْرَسُ في موقف تزامني سكونيّ بعيداً عن تطورها التاريخيّ وتأثير السياقات الاجتماعية، بل باعتبارها ملكة فطرية مشتركة لدى العنصر البشريّ، ومعه لم يعد الهدف وصف بنية الجملة اللغوية، بل تفسيرها بما يكشف عن البنية الذهنية الخفية التي تتحكم في إنتاجها، بمعنى أن اللسانيات البنيوية قصرت جهودها على وصف البنيات اللغوية السطحية، بينما تسعى اللسانيات التوليدية إلى البحث في البنيات العميقة للتحقق اللغويّ، وتتبع المسار الذي تقطعه اللغة من حالة القدرة الذهنية الكامنة إلى حالة التجلّي في صورة إنجاز لغويّ؛ والنتيجة: التخلي عن المنهج الاستقرائي الذي يقف عند حدود وصف الظواهر اللغوية، وتبنّي المنهج الاستنباطي الذي يتجاوز الوصف إلى التفسير.

الخلفية المعرفية للنظرية

شكلت أفكار ديكارت وجماعة "بور رويال" خلفية معرفية لنظرية تشومسكي في اللغة، حيث إن دراسته للغة تنطلق من اعتبارها ترجمة للفكر، وهي نظرة تؤكد على إبداعية اللغة ونحوها؛ وقد برز تأثر تشومسكي بالفلسفة العقلانية عند ديكارت في دراسته "علم اللغة الديكارتي"، خاصة فيما يتعلق بكون القدرة اللغوية تطابق السلوك؛ ومع ذلك فإن التباين كبير بين تصور كل من ديكارت وتشومسكي للقدرة اللغوية، ويتعلق الأمر بمكمن هذه القدرة، حيث يعتبرها ديكارت، حسب مقال للباحث علي حسن ديب: "وظيفة الروح غير المادية التي لا تمتد ولا تنقسم"، في حين أن تشومسكي يرى أن الملكة اللغوية تكمن في البنية المادية للدماغ البشري.

نقد النظرية التوزيعية

قبل الوقوف على جوانب نقد تشومسكي للتوزيعيين، نقف بإيجاز عند رؤيتها اللغوية؛ لقد ساهم ليونارد بلومفيلد (1887- 1949)، مؤسس النزعة التوزيعية في اللسانيات الحديثة، في بلورة المدرسة اللغوية الأمريكية، حيث تأثر بالمذهب السلوكي في علم النفس، واعتبر أن المهمة الأساسية للباحث اللغوي هي تصنيف المقاطع التي تظهر في الخطاب (La taxinomie)، وبذلك يغدو التصنيف الموضوع الوحيد للتوزيعيين؛ وبذلك أسس بلومفيلد لتصور يجعل وظيفة العلم الوحيدة هي وصف الظواهر، وفي المقابل يرى تشومسكي أن "كل علم في تطوره يسعى لتحديد هدف طَموح، أعلى من الوصف والتصنيف. وكذلك بالنسبة للسانيات التي ينتظر منها تقديم فرضيات ذات قيمة تفسيرية، تتعلق بالملكة التي هي في الأصل نشاط لساني" [ديكرو وتودوروف: المعجم الموسوعي لعلوم اللغة/ ص: 58]؛ فإذا كان أتباع بلومفيلد يتبنون التجريبية فلسفياً، والسلوكية سيكولوجياً، والوصفية لغوياً، فإن تشومسكي يقترح العقلانية فلسفياً، والذهنية نفسياً، والتوليد لغوياً، ومن أهم الانتقادات التي وجهها تشومسكي إلى النظرية التوزيعية، تجاهلها للقدرات اللامتناهية المتضمنة في كل لغة؛ فاللغة ليست فقط مجموعة من التعابير والجمل (متناهية أو لا متناهية) ولكنها كل معرفة ترتبط بهذه التعابير، "هذه المعرفة بالخطاب- المتعلقة في جانب منها باللغة الأم- يقصيها التوزيعيون من مجالاتهم الوصفية؛ إنهم يسعون- فقط- إلى وصف الطريقة التي تنتظم وتتآلف بها الوحدات في الخطاب" [ديكرو وتودوروف: المعجم الموسوعي لعلوم اللغة/ ص: 57]، وبذلك يشكل مسعى الوصف والانصراف عن التفسير مأخذاً آخر من تشومسكي على أصحاب النظرية التوزيعية.

بين تشومسكي وميشيل فوكو

إن ما يدعو إلى تخصيص عنصر لمناقشة موضوع اللغة بين تشومسكي وبين فوكو، هو نقدهما معاً لنموذج اللسانيات البنيوية، غير أن فوكو يرى أن ما لم يطوره النحو العام هو نظرية العلامة؛ لأنها تحصر المسألة في الدال والمدلول، وهو بذلك يفصل بين جهود اللسانيات الحديثة وجهود النحو العام؛ بينما يرى تشومسكي أن العصر الكلاسيكي هو عصر العبقرية؛ فتشومسكي، حسب الباحث الزواوي بغورة في مقاله نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة المنشور ضمن مؤلّف الفلسفة واللغة، يوحد بين الجهد الفلسفي للنحو العام والجهد العلمي للسانيات البنيوية؛ ومن هنا استخرج نظريته المسماة "النحو التحويلي"، والقائمة على دراسة البنية العميقة والبنية السطحية والكفاية اللغوية والأداء اللغوي والوظيفية الإبداعية؛ غير أن المكانة المعرفية الجديدة للسانيات، حسب الزواوي بغورة، هي التي جعلت فوكو يرفض مختلف المقاربات من نوع مقاربات تشومسكي القائمة على التحليل الديكارتي للغة والنحو العام لجماعة "بور رويال"، التي ترى في اللغة ترجمة للفكر؛ هذه المقاربات تتجاهل في نظر فوكو واقعة أساسية، وهي أن اللغة شكل من أشكال التواصل.


نظرية النحو التوليدي التحويلي

تتسم نظرية تشومسكي اللغوية المعروفة باسم النحو التوليدي أو التحويلي بعدة سمات أهمها: أن النحو عند تشومسكي هو مجموع القواعد التي تمكن الإنسان من توليد مجموعة لا نهائية من الجمل ذات البنيات السليمة؛ حيث يفرق بين القدرة اللغوية التي هي ملكة فطرية ذهنية؛ تمكن من إنتاج وفهم عدد غير محدود من الجمل، وبين الأداء الذي هو عملية استخدام هذه القدرة ضمن نسق محدد، وينتقد تشومسكي الأنحاء التقليدية في حصر اهتمامها بالأداء وانصرافها عن القدرة؛ ولمزيد من التدقيق نقف عند ما ورد في كتاب الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية لميشال زكريا، حيث وضّح أن تشومسكي ميز بين الكفاية اللغوية وبين الأداء الكلامي، وأن المقصود بالكفاية اللغوية هو المعرفة الضمنية باللغة، والقدرة على إنتاج الجمل، في حين أن الأداء الكلامي هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين، بمعنى اللغة في حالة تحقق؛ والقواعد التوليدية التحويلية تختلف عن البنيوية في أمور عديدة أهمها، حسب الباحث عادل فخوري: أنها تُجيز الانتقال من رمز واحد إلى عدد من الرموز، بالإضافة إلى شروطٍ تقيّدُ الاستعمال.

سعى تشومسكي في نظرية النحو التوليدي التحويلي إلى التأسيس لقواعد عامة مشتركة بين جميع اللغات، فإذا كانت لسانيات دو سوسير تصب اهتمامها على بنية لغة بعينها، فإن تشومسكي انطلق من هاجس بلورة نحو كليّ، يستطيع تفسير البنيات اللغوية في كل اللغات الطبيعية؛ ولأن العديد من البنيات الخاصة ببعض اللغات لم تنطبق مع القواعد والتفسيرات التي قدمها تشومسكي، فإن النظرية عرفت العديد من المراجعات، منذ نشأتها مع صدور كتاب البنيات التركيبية أو البنى النحوية، وصولاً إلى البرنامج الأدنى، مروراً بالنظرية المعيارية والنظرية المعيارية الموسعة، ثم النظرية المعيارية الموسعة المراجعة، حيث مع كل نقد تتعرض له النظرية، من طرف الوظيفيين، ومن ديل هايمز بشكل خاص، يقوم تشومسكي بتقديم فرضيات جديدة.
 

إن المتتبع لتاريخ التوجه الحديث في دراسة اللغة، منذ صدور كتاب "البنيات التركيبية" لنعوم تشومسكي، سيندهش من سرعة تناسل النظريات وظهور توجهات جديدة أغنت الدراسات اللغوية، بل وامتدت إلى العديد من فروع العلوم الإنسانية، ولا شك أن الحيوية التي تميزت بها مقاربة تشومسكي للغة كان نتيجة حتمية للجو العلمي المشبع بالأفكار التي تأتي من تبني اللسانيات للمناهج العلمية الدقيقة، التي جذبت دارسين على مستوى عال من المعرفة بعلوم شتى كالفيزياء والكيمياء والأحياء وغير ذلك، فلا تمر سنة من غير أن يطرأ تغيير معين على النظرية اللسانية العامة أو النظريات المتفرعة عنها، ومن الملاحظ أن تشومسكي يحتل المقدمة دائماً في قيادة هذه التغيرات، بفعل النقد الذاتي الذي يوجهه هو نفسه لتصوراته من كتاب إلى آخر ومن نظرية إلى أخرى؛ والنظرية التوليدية والتحويلية هي نظرية جد معقدة وشبه رياضية، وذلك بشهادة اللسانيين المتخصصين أنفسهم؛ ورغم ما أشار إليه الدكتور عادل فاخوري في عدم مقدرة القواعد التوليدية على تفسير كثير من التراكيب اللغوية، فإن نظرية النحو التوليدي قد فتحت آفاقاً جديدة للاشتغال اللغوي، وهو ما جاء على لسان الدكتور أبو بكر العزاوي في إحدى حواراته بمجلة فكر ونقد، التي تناولت المسألة اللغوية من زاوية المنطق وعلاقته بالحجاج، حيث يقول: أصبحت النظرية اللسانية مع التوليديين، وخصوصاً تشومسكي، تقدم على شكل نماذج منطقية وأنساق صورية، وقد أدى هذا إلى تطور الدرس اللساني بشكل كبير وواضح في العقود الأخيرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها