الذاتُ المتحررة في سيرة "رحلة جبلية رحلة صعبة"

د. كريم الطيبي

شكلت السيرة الذاتية بوصفها نوعاً أدبياً ميداناً رحباً عبرت من خلاله الكاتبات والشواعر عن طموحاتهن ومنازعهن وآمالهن وآلامهن؛ فقد ظلت المرأة صوتاً مقموعاً ومهمشاً من دائرة الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي داخل الثقافة العربية المحكومة ببنية سلطوية تبوّأ فيها النسق الفكري الذكوري الصدارة. لقد سمحت قناة الأدب عموماً وجنس السيرة الذاتية على وجه التخصيص ببناء كينونة نسائية جديدة، كينونة تلامس هموم المرأة وتطلعها لبناء مجتمع إنساني منصف وعادل، والقارئ للسير الذاتية النسوية يلحظ نزوع المرأة إلى تقديم رؤية للعالم انطلاقاً من وعي حادّ ومغاير وصادم، لا يتواءم مع النسق الفكري السائد، ولا ينسجم مع السيرورة الثاقية المتوارثة، إنها رؤية متمردة تقوم على مبادئ التحرر والانعتاق.
 

ولا تخرج سيرة رحلة جبلية رحلة صعبة عن هذا المنحى، فقد ظلت فدوى طوقان تنتظر لحظة الانعتاق والتحرر من عالمها المغلق الذي لا يتناسب وشخصيتها المنفتحة، ونتيجة لهذا الدافع تتشكّل داخل خطاب السيرة الذاتية عند فدوى طوقان ذات متحرّرة، تنعتق من قيودها، وتنفلت من عقال الاضطهاد الأسري، لتتنسّم عبير الحياة في العالم الخارجي، وقد شكّلت المدرسة الفضاء الأول الذي احتضن فدوى وجعلها تعوّض حرمانها، وتحقّق ذاتها، فقد جاء على لسانها: "لقد أشبعت المدرسة الكثير من حاجاتي النفسية التي ظلّت جائعة في البيت، أصبحت أتمتّع بشخصية بارزة بين معلّماتي وزميلاتي".

وتقول أيضاً: "لقد أصبحت المدرسة أحبّ إليّ من البيت والمكان الأكثر ملاءمة لي، وفي المدرسة عرفت مذاق الصداقة وأحببته". يتّضح أن للمدرسة دوراً حيوياً في إعادة التكوين النفسي المتوازن لتلك الذات المتشظية والمتأزمة والمكسورة؛ فـ"مجتمع المدرسة منحها الثّقة بالنّفس، وبدأت تشعر أنها إنسانة قادرة على الإبداع بسبب ما وجدته من رعاية معلّماتها"، وحبهنّ وتشجيعهن لها وقربهن منها. ومثلما استعاضت فدوى عن سجن الدّار (القمقم الحريمي) بالمدرسة، كذلك فعلت مع أفراد أسرتها الذين استعاضت عنهم بأخيها إبراهيم، فهو الوحيد الذي احتضنها وبادلها الحب والود والاحترام والأخوة، وعوضها جفاء الأب، وحرمان دفء الأمّ وحنانها، تحدّثنا فدوى عنه قائلة: "مع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتي، كانت عاطفة حبي له قد تكوّنت من تجمّع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسبّبها وباعثها... كان هو الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها". لقد شكّل إبراهيم علامة فارقة داخل الأسرة؛ فطباعه مختلفة عن باقي أفراد الأسرة؛ إذ كان يجلس مع نساء الأسرة ويبادلهن الحديث ويروي لهنّ الطرائف الأدبية والتاريخية، ويغدق عليهن بحبه وحنانه ونبله وتعاطفه. وحتى بعد أن صادرت الأسرة حقّ فدوى في متابعة دراستها وحرمانها من المدرسة، أخذ بيدها وكان معلّمها في البيت، ولقّنها كتابة الشعر وصناعته.

لقد أعاد إبراهيم قيمة الحياة وألوانها البهية، بعد أن اسودت في وجه فدوى التي أصبحت – بعد أن كانت منهزمة ومكسورة- تتأرجح بين قوتين، تقول فدوى: "وبالنسبة لوضعي وواقعي في البيت أصبحت أقف الآن بين قوّتين، بين إيمان إبراهيم بي الذي كان يشحنني بالثقة بالنّفس وباحترام الذات وبالأمل في أنني سأكون شيئاً ذا قيمة في يوم ما، وبين عمل الآخرين المستمر على زعزعة هذه الثقة، وشرعت أتراوح بين هاتين القوتين بقدر ما في طبيعتي من السلبية والإيجابية، وكان عليّ أن أخوض بالتالي في صراع مع تطلعاتي والواقع الذي أوجدني فيه مجتمع متخلّف وأقارب لم يتحرّر تفكيرهم قط". بَيْد أنَّ فدوى طوقان ستختار طريق التحرّر، وحياة التجدّد والتغير، مستهدية بفلسفة البذرة التي تأبى الاكتفاء بذاتها وترفض الجمود والاستقرار. تقول: "كانت هناك بذرة صغيرة تأبى الاكتفاء بذاتها وتنزع إلى التجدّد والتغيّر، تنزع إلى أن تصير شيئاً آخر، فهي تأبى الثبوت والاستقرار، كنت أحسّ بتلك البذرة تتحرك في داخلي كدينامو لا يهدأ".

وقد بدأت ذات الكاتبة تجد تحررها في التعلّم الذاتي والإقبال على القراءة والعيش في عالم الأوراق والكلمات: "كان الانكباب على الدراسة هو عالم الخلاص... في استغراقي في عالمي الجديد عرفت مذاق السعادة، كنت مستغرقة في عملية خلق نفسي، وبنائها من جديد، والبحث الطموح على إمكانياتي وقدراتي مما شكّل ثروة وجودي". وقد أكسبها هذا العالم الجديد القوة لمجابهة كل أشكال السلطة ورموز القهر: "وظلّ عالم كتبي وأوراقي وأقلامي يمدّني بالقوة، ويساعدني على التماسك وتثبيت القدمين على الأرض المهزوزة تحتها، وظلت أحلامي تخطط دائماً لقطع صلتي بكل ما هو رمز للسلطة في العائلة: الأب، العم، العمّة، ونفرت من كل هؤلاء، ومن هنا تعلمت فيما بعد كراهة كل ما يمثّل السلطة الجائرة والحكم الظالم في مختلف مؤسسات المجتمع". لقد ظلت فكرة الخروج من القمقم الحريمي وسجن البيت تراودها، مؤمنة بأن من حقّها أن تعيش حرّة دون حواجز وبعيداً عن تضييق الأسرة والمجتمع.

وستخوض الذات تجربة جديدة عبرها ستخرج من مضايق الماضي، وتنعتق من قمقم الذكريات الأليمة التي رافقت طفولتها في مدينة نابلس، إنها تجربة السفر والترحال نحو مجموعة من الأقطار والدول كهولندا والسويد والصين الشعبية وإنجلترا وغيرها، وستندمج الذات المتحررة مع الأجواء الجديدة، وتتراءى –عبر هذه التجربة- منفرجة ومسرورة وفرحة، عاجزة عن وصف هذه السعادة التي تغمر قلبها، تقول الكاتبة: "فرح لا أملك تصويره بالكلمات، كأن يداً خفية ضغطت فجأة على زر كهربائي غير مرئي في أعماقي فإذا بروحي تضيء بوهج باهر ما عرفت مثله من قبل". لقد حقّقت الذات حريتها وسعادتها عبر التنصّل من الماضي والانفصال عنه، والانخراط في عالم التحرّر والإحساس بكينونة الذات، وبهاء الوجود بعيداً عن المنغصّات والاضطهاد، وتيقّنت فدوى أنه "ليس هناك أجمل من الشعور بالحرية والتحرّر من المنغصات المحيطة، تلك المنغّصات التي يستحيل الفكاك من براثنها إلا بالبعد الجغرافي... لا يحس بجمال الحرية وبروعة امتلاكها إلا أولئك الذين حرموا منها". وتأتّى لها تحقيق حلمها الذي كانت تصبو إليه دائماً، وفي النص ملفوظات كثيرة تبرز انشراح الذات وحبورها: "كنت فرحة بعالمي الجديد، سعيدة ببعدي عن نظام الأسرة الصارم وعن الوجوه التي لم أكن أحبّها ولم تكن تحبّني".

ومردّ هذا الانشراح والنشوة هو ما يمتاز به المجتمع الغربي، الذي حلّت فيه فدوى، من تحرّر تتبوّأ فيه المرأة مكانة بارزة، وتحوز فيه قسطاً وافراً من الحرية، وتقف الكاتبة عند هذا الملمح قائلة: "كان المجتمع المحيط بي مجتمعاً متحرراً، تتمتّع فيه المرأة الحديثة بشخصية لم تضعفها صرامة الرجل وفظاظته، يبدو ذلك واضحاً في لباسها، وحديثها، وسلوكها الطبيعي في مجتمع رفع الحجاب الحاجز بين الجنسين، وأتاح للمرأة الشابة قسطاً أكبر من التعليم".

ولم يقتصر هذا التصور الفكري في الحياة الاجتماعية، بل انتقل إلى مضمار الإبداع كذلك؛ إذ بلورت فدوى طوقان مشروعها الفكري الأدبي المبني على التحرر ونَسْفِ القيود، وقد أعربت عن موقفها في هذا الصدد في سيرتها الذاتية، ومن أمثلة ذلك نذكر تمثيلا: "في الحقيقة أن حكاية الديباجة الكلاسيكية هذه، والاهتمام الكلي بالكلمة ورنينها، وبأسلوب التعبير المصنوع، كل هذه كنت أحسّها سداً يقف دون الحركة والتدفق والانطلاقة اللغوية بعفوية وصدق خلال عملية النظم... وكان هناك شيء يكبّل الجيشان العاطفي في داخلي ويحول دون جريان التيّار النفسي في قصيدتي بسهولة ويسر". وتقول أيضاً: "لا يزال موقفي من التحرّر من قيود العروض القديمة هو موقف المؤيّد لهذا التحرّر. ولا يعني هذا أنني مع القائلين بالتخلّي عن الوزن والقافية بشكل نهائي، فالشعر يبقى فنّاً مستقلا عن النّثر". وانطلاقاً من هذا يتبدّى لنا البعد التحرري والتنويري في المشروع الشعري عند فدوى طوقان، وبهذا تصطفّ في مصاف الشواعر اللواتي نادين إلى تحرير الشعر من أغلال البحور الخليلية وقيود عمود الشعر كما توارثه القدامى.

وتعكس هذه الملاحظة الأخيرة أن السيرة الذاتية فضاء رحب لعرض الأفكار وتمرير الإيديولوجيا ومجابهة الواقع بالانتقاد والهجوم ورصد الظواهر وذلك لبناء رؤية للعالم، وصياغة تصور للمأمول.

إن سيرة رحلة جبلية رحلة صعبة عمل أدبي احتضن ثورة ذات متحررة سعت إلى تصحيح النظرة الاختزالية والنمطية التي تكلّست في الوعي الجمعي تجاه المرأة، والدفاع عن حقيقة أن المرأة "إنسان يشعر ويتوق إلى الحياة والفرح مثلما يتوق ويتطلّع أي كائن بشري آخر"

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها