العمارة الإسلامية وفنّ الزخرفة الخطية

إبراهيم البوعبدلاوي

 

لماذا الخط، وليس التصوير؟

كان العرب قبل الإسلام يعرفون فن التصوير، لم يكن ذلك بالأمر الغريب عنهم. عبادتهم لآلهة متعددة حتمت عليهم البحث عن نسخ لكل إله من أجل أن يتواجد في الأماكن التي يتموقع فيها أتباعه؛ لقد عبدوا الأصنام والأوثان والنصب، فكانوا يتمثلون كل هاته الأشياء في صورة إنسانية؛ لقد تخيلوا الإله على هيئة إنسان، له كل ما لهذا الكائن من جوارح وأعضاء.. لم يقف العرب على الصورة الآدمية لآلهتهم، وهي الشائعة، وإنما اتخذوا لهم صور حيوانات وطيور، فكانت الكعبة تحاط بأشكال عديدة من المعبودات، والتي كانت تشرئب إليها أعناق العرب من مختلف مناطق جزيرتهم. يقول روم لاندو:
"لقد كانت مكة بلسماً للجسد والروح، فههنا كان في ميسور المرء أن يجد طعاماً طيباً وخمرة جيدة، وأن تتاح له -لقاء دراهم معدودات- زيارة الكعبة، وهي بانثيون pantheon يزخر بأكثر من ثلاثمئة وخمسة وستين صنماً"1. وإلى جانب الأصنام، نلفي الصور الجدارية التي كانت تزين دعائم وسقف وجدران الكعبة بصور أنبياء وملائكة وأشجار، والثابت أن نفراً من العرب زاولوا صناعة التماثيل والصور، وما يؤكد ذلك ما وصل من أسماء بعض الذين كانوا يمارسون هذه الصناعة2.

غير أن هذا الفن وإن كان موجوداً عند العرب، فإنهم لم يكونوا ممن لهم قصب السبق فيه، ذلك أنه "كان بعيداً عن تلك الأمة التي بدأت حياتها الأولى في البادية -حيث الرحلة الدائبة والخلاف القاطع للصلات- أن تبتكر فناً يدوياً، وألا يكون لها غير فن القول. ذلك أن الفن اليدوي تعوزه الحياة المستقرة، يطلق فيها الموهوب يده فيصور ما يحس لتأنس به نفسه ويجمّل به مسكنه. تلك كانت حال الجزيرة العربية في جاهليتها من ذلك الفن اليدوي قبل أن يظلها الإسلام بظله ويلفها بردائه"3.

مع مجيء الإسلام، حاولت الشريعة الجديدة تغيير ما كان سائداً، آلت على نفسها أن تمحو كل أثر للتعددية، وأن تدعو إلى إله واحد، ليس له شبيه ولا نظير، ولا يتجسد في أي من مخلوقاته. إن المدخل لتغيير المعتقد: إزالة كل أشكال الشرك والوثنية، وذلك عبر تحريم الفن التصويري، إذ إنه أوثر عن النبي عليه السلام قوله: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون"، وقوله أيضاً: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ".

ووجه خطاب التصوير بنبرة شديدة اللهجة مع الدعوة الجديدة، وهو ما جعل الفن الإسلامي "لم ينجب -ولنختر هذه الأسماء، كيفما اتفق، من بين المعلمين العظام- لا عبقرياً مثل فيدياس، ولا عبقرياً مثل رامبرانت، ولم يطلع أيما أثر يمكن مقارنته بـ"داود" مايكل أنجلو، أو بـ"عذراء" رفاييل. إنه بكلمة موجزة لم يعط العالم أية لوحات فنية كبيرة أو أية تماثيل خالدة"4.

هذه النظرة صوبت اهتمامها على التصوير، وتناست جوانب فنية أخرى برع فيها العرب، ذلك أن هؤلاء القوم انخرطوا في الدين الجديد، وطوعوا كل شيء لخدمته؛ من ذلك نجد: اهتمامهم الكبير بقضايا اللغة وكل ما يتماس معها؛ لغتهم، بالنسبة إليهم، مقدسة، سماوية، طاهرة، تستمد كل ذلك من الدين الجديد.

شكلت اللغة منطقة الاهتمام الأولى في حياة العرب منذ بداوتها الأولى إلى زمن الفتوحات الإسلامية وما تلاها. تنافس الشعراء والبلغاء في مَن يحوز قصب السبق منهم، "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصُنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"، هكذا وصف ابن رشيق احتفاء العرب بمن يبرع في لغتهم.. ولم يقتصر هذا الاحتفاء على هاته المظاهر، بل تعداها إلى تدوين تلك القصائد الطوال التي سميت بالمعلقات، فقد كتبوها بماء الذهب على الحرير وعلقوها على أستار الكعبة.

هذا النموذج الذي يشير إلى تدوين الشعر يبرز أهمية الكتابة منذ تلك العهود؛ إنها تخليد لما أريد له أن يخلد، إنها "التجلي الكامل للخطاب"5. وقد ازداد شغف العرب بالكتابة مع نزول القرآن؛ إن معجزة الإسلام تتجلى في القول، وهذا القول لا بد أن يتواتر، والسبيل لذلك هو تدوين الآيات التي تنزل على النبي عليه السلام. وقد "ارتبط الخط وجمالياته بالنص المقدس، ومع مرور الزمن تطور استعماله ليشمل كل مجالات الحياة وليصبح فناً معاشاً بدل التصوير والنحت في الحضارات الأخرى"6.

توجُّهُ المسلمين صوب الخط هو تعويض عما فاتهم من فن التصوير، ذلك أنهم التمسوا لأنفسهم منافذ لتفريغ مواهبهم الفنية شريطة ألا تخالف دينهم، بل وأن تعبر عنه في أحايين كثيرة. وقد وُصف الفن الإسلامي بأنه واحد من أصفى الفنون التي نعرفها، يستمد ذلك من كونه "لا يهمه أن يروي قصة، أو يلقن موعظة، أو ينافس الخالق الأوحد في محاولة إنشاء الكائنات. إن اهتمامه مقصور على التلاعب بالخطوط والأشكال والألوان. ومن طريق استقصائه إمكانيات هذه العمليات نشأت مأثرته المميزة أكثر ما يكون التمييز: فن الزخرفة العربي the arabesque، وهو تعبير جمالي خالص شديد التركيز وجد منطقي عن الروح الفنية"7.

ولإبراز أهمية الخط، عند العرب، في مقابل الفنون التصويرية، التي يتملكها ذوو الثقافات التي تعتمد التصوير كفنّ أساسي، نورد قول المأمون مفاخراً بهذه المأثرة: "لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرنا بما لنا من أنواع الخط لشرفه. فإنه يقرأ بكل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد مع كل زمان"8.

حاز الخط هذه المكانة المتميزة لأنه يعبر عن أهمية اللغة التي يشكل حاملا لها، وكذا الرسالة التي من أجلها أنشئ؛ إذ إنه ما وجد إلا لحمل كلام ذي طبيعة متميزة، إنه يحمل حكمة العرب وفنون قولهم. ومن الأقوال المأثورة عن العرب: "لقد استقرت الحكمة في ثلاثة أشياء: عقل الفرنجة، وأيدي الصينيين، وألسنة العرب"9.

الخط في العمارة الإسلامية

أعطى الدارسون للفنون الإسلامية الزخرفة المنتمية لهذا الفن تسمية هي: "الأرابيسك"، ذلك أن لهذه الزخرفة خصائص تتفرد بها عن فنون الأصقاع الأخرى. إن الفن الإسلامي "فن زخرفي"، إذ اهتم بالخصائص الصغرى وليس المكونات المعمارية التي تخص الفنون الكبرى. "لقد وجد المعمار في الرقش (الزخرفة) فرصة واسعة لتجميل مفرداته المعمارية حتى أصبحت الزخارف من الخصائص الأساسية للعمارة الإسلامية.

ويبدو الرقش على شكلين: الرقش الهندسي، وهو تعبير عن جوهر الأشياء التي تتضافر جابذة نابذة لتكوين شبكة تستوعب عناصر زخرفية دقيقة، وغالباً ما تبدأ الشبكة من نقطة مركزية، هي قطب شكل هندسي (..) أما الرقش النباتي، فهو تأويل لأوراق النباتات، ولذلك أطلق عليه التوريق"10.

وإلى جانب الزخرفة الهندسية والنباتية نجد الخط العربي بكل ما يحمله من جمالية وبهاء، إنه ما يكمل فن الأرابيسك ويعطيه أبعاداً ودلالاتٍ خاصة. ذلك أن "الكلمة العربية هي صورة تتضمن صوتاً ومعنى وخيالا مرئياً. وعلى هذا فإن الكلمة العربية عندما استخدمت كعناصر فنية في الرقش العربي، لم يكن القصد الإفادة من شكل هذه الكلمة الفني بحد ذاته وحسب، بل كان القصد تركيب لوحة فنية ذات أبعاد مكانية وزمانية"11.

سعي الفنان المسلم إلى تجنب كل ما يوحي بتأليه للإنسان من خلال التصوير، جعله يرسم لنفسه مساراً خاصاً به، قانعاً بما أتاحه له الدين الجديد من إماكانات للتعبير، ذلك أنه "اكتفى بالعناصر الأساسية للفنون البصرية، وهي الخط والشكل واللون، مجردة من أي معنى أدبي أو سيكولوجي أو أخلاقي. لقد اجتنب كل ما قد يوحي بالمنافسة مع الله"12.

يعد فن الزخرفة العربي واحداً من أعقد الفنون، إذ إن الفنان يحتاج إلى تركيز شديد في إنشاء أشكاله وترتيب كل ما جادت به يده، ذلك أن السر يكمن في طريقة الترتيب، وهي التي تتيح الوصول إلى أشكال محددة. لقد ركز هؤلاء الفنانون على الشكل الخالص، والخالي من كل تداع أدبي أو رمزي. "والتركيز على الشكل المحض ذو صلة وثيقة بإدمان الفنانين أصحاب الزخرف العربي اصطناع الخط إدماناً عارماً مشبوباً. فالسمة الزخرفية القوية التي تغلب على حروف الأبجدية العربية، المنظومة في كلمات، تتيح فرصة رائعة للوفاء بأغراض فن الزخرفة العربي"13.

إن هذا الخط قد ساعد الفنانين بما يمتاز به من انسيابية وجمالية في التعبير عن تصوراتهم الفنية، "والواقع أن هذا الخط يشكل واحداً من خصائص فن الزخرفة العربي البارزة. والحب والبراعة الجليان اللذان كثيراً ما رسمت بهما هذه الحروف؛ إنما يظهران عمق الشعور الذي باشر به المسلم عموماً، والفنان خصوصاً، مهمة إخراج كلمة الله في صورتها المنظورة. (فهذه النقوش هي، في العادة، ذات صبغة دينية). إن الكلمة أو logos سواء في الإسلام، أو في إنجيل يوحنا، أو في الفلسفة المسيحية المتأخرة، قد اعتبرت قوة الله الفاعلة المبدعة. لقد كانت قوة الله المحيية التي نفخت الحياة في كل ما كان قبل عدماً"14.

 

 

الهوامش: 1. روم لاندو، الإسلام والعرب، تر: منير البعلبكي، دار العلم للملايين- بيروت، ط: 2- 1977، ص: 15.┋2. فرغلي محمود أبو الحمد، التصوير الإسلامي، الدار المصرية اللبنانية- القاهرة، ط: 1- 1991، ص: 19.┋3. ثروت عكاشة، موسوعة التصوير الإسلامي، مكتبة لبنان- بيروت، ط: 1- 2001، ص: 3.┋4. روم لاندو، المرجع السابق، ص: 315.┋5. بول ريكور، نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، تر: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، ط: 2- 2006، ص: 56.┋6. حسن المسعود، الخط وتجربة الفن والحياة، مقال منشور على موقع الكاتب بالشبكة العنكبوتية.┋7. روم لاندو، مرجع مذكور، ص-ص: 316-317.┋8. صلاح المنجد، جامع محاسن كتابة الكتاب، ط: 1، بيروت- 1962، ص: 14.┋9. روم لاندو، مرجع مذكور، ص: 316.┋10. عفيف بهنسي، الجمالية الفنية في مفردات العمارة الإسلامية، مجلة: عالم الفكر، المجلد: 34، الكويت- 2006، ص: 39.┋11. عفيف بهنسي،جمالية الفن العربي، مجلة: عالم المعرفة، الكويت- 1979، ص: 94.┋12. روم لاندور، مرجع مذكور، ص: 329.┋13. نفسه، ص: 330.┋14. نفسه، ص: 330-331.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها