مفهوم الحد عند: "يوري لوتمان" و"ريجيس دوبريه"

محمد زعيزعة

تحتل المفاهيم العلمية بؤرة أساسية في أي تفكير منهجي، يروم صياغة الواقع والتجربة المعيشة وفق رؤية مضبوطة وواضحة، لكن تكونها يكون وفق سيرورة تحويرية تتغيا دمجها -المفاهيم- وفق بناء نظري عام للكون والمجتمع، والذات وكذا الآخر، وبهذا، تنتقل المفاهيم من المجال التداولي العام والمشاع بين الناس، إلى نسق يجعل لها مجموعة من التحديدات الصارمة التي تأخذ بعين الاعتبار موقعها ضمن نظام مفهومي يحدد لنظرية ما هويتها؛ أي إن الصياغة العلمية للمفاهيم، لا تكتفي بتحديد هذه الأخيرة في ذاتها في معزل عن النسق الذي تدور فيه، بل إن تحديدها يستحضر الجانب العلائقي الذي ينسجه هذا المفهوم أو ذاك، مع باقي المفاهيم التي تدور في فلكه، ويحيلنا كذلك –التحديد- على الجانب الوظيفي، الذي يتلخص في الكيفية التي يسلمنا من خلالها المفهوم لمجموعة من المفاهيم الأخرى:
"إن المفاهيم هي ما يجعل الإنسان يفرق بين شيء وشيء، وكائن وكائن، وكيان وكيان.. لكن المفاهيم محتاجة إلى نسق يضم بعضها ببعض لربط صلات وعلائق بين أثاث الكون، حتى يتحقق نوع من الانسجام والاتساق بين الأثاث بعضه ببعض، وبين الإنسان. (إن) مفاهيم المرحلة الطبيعية هي وليدة الإدراك العمومي الذي لا يهتم كثيراً بالتدقيقات والتفاصيل ورسم الحدود؛ ومفاهيم المرحلة الاصطناعية هي نتيجة التدقيق والتحديد، وهي مجال الباحثين من العلماء على اختلاف تخصصاتهم"1.
 

ومن خلال ما سبق، يتضح أن المقاربة التي تحاول عزل المفاهيم عن نسقها الذي يبني قوتها المنهجية والعلمية وكذا الوظيفية، تصطدم بمجموعة من العوائق التي ترتبط ببلورة رؤية وافية عن تمفصلات هذا المفهوم، والأدوار التي يؤديها في بلورة تصور نظري مخصوص عن الكون. وإذا كانت قوة المفاهيم الممثلة لنظرية معينة تختلف باختلاف أدوارها وقوتها الواصفة، وكذا الناظمة لمجموعة من الممارسات أو التصورات؛ فإنه من الممكن أن نتكئ على هذا المعطى في المقاربة التي تحاول دراسة المفهوم بعيداً عن النسق المفهومي العام الذي ينتظمه، أي أن نستحضر المفاهيم ذات المركزية والتمثيلية القوية في نظرية ما، وبيان العلاقة التي تربطها بالمفاهيم المراد الاشتغال عليها.

سنحاول في هذا البحث، أن نسلط الضوء على مفهوم "الحد frontiére" في مجموعة من الحقول النظرية، ووظيفته في أبنية معرفية ومنهجية مختلفة؛ وبالضبط عند كل من "يوري لوتمان Yuri Lotman" و"ريجيس دوبري Régis Debray"، على اعتبار أن هذين الباحثين يصدران عن وجهات نظر مختلفة، يتحور وفقها مفهوم "الحد"، ليدل -تبعاً لذلك- على مجموعة من القيم المعرفية والمنهجية، المنتمية لنسق خاص يحاول أن يقدم رؤية للواقع وأشكال وآليات تنظيمه. وتجدر الإشارة إلى أن تمثل هذا المفهوم في حقول معرفية متباينة، يحيل إلى ديناميته وطاقته في الاندماج مع أجهزة وأبنية نظرية مختلفة، وكذا البعد الإجرائي الذي يوفره للمشتغلين من خلاله. وإذا كانت مسألة التمثيلية المفهومية -المُشار إليها سابقاً- مسألة نسبية في تمثل النسق المفهومي لنظرية ما؛ فإننا نقرر –كما أشار إلى ذلك دولوز- أن الاهتمام ينبغي أن يكون منصباً على "الواحد-الكل، حيث إن فلسفته لا ترتبط بمفاهيم كلية، بل إن كل المفاهيم فريدة. وبالتالي، ليس هناك مفهوم كلي في فلسفة دولوز، يعتبر مؤسساً لبقية المفاهيم أو مرجعية مؤسسة لها2. ويبدو أن هذا الطرح ذو حدين، يخدم المفهوم في ذاته باعتباره كلاً، لكن كليته لا تتطفل على مفاهيم أخرى من أجل تمثيلها أو النيابة عنها، وعليه؛ غياب مسألة المركزية المفهومية الناظمة، لأن المفاهيم المؤسسة لنسق نظري معين -حسب دولوز- تشكل كلها مركزاً في ذاتها.

إن مفهوم الحد، يختلف باختلاف الأنساق المفهومية والنظرية التي يدور فيها، ويؤسس لمجموعة من القيم التداولية والإجرائية المختلفة، على أن هذا الاختلاف، لا ينفي مجموعة من نقاط الالتقاء، التي تشير إلى تشابه مجموعة من الاستثمارات الإجرائية والنظرية لهذا المفهوم.

تأسيساً على ما سبق، فإن مسار البحث سيحاول أن يتتبع تمفصلات مفهوم "الحد" من خلال توظيفين نظريين، وبالتالي، تتبع تلونات هذا المفهوم، وقابلية استثماره في مجموعة من الأنساق المؤسسة في عمقها على تمثلات مختلفة للكون والذات والآخر.


الحد كآلية لتنظيم الكون السيميائي: يوري لوتمان

لا يمكن أن ننكر مسألة التمثيلية المفهومية في السيميائيات الثقافية كما يتصورها يوري لوتمان Yuri Lotman، ويبني أسسها ومجالات اشتغالها، ولا يمكن أن ننكر أن تناول مفهوم "الحد"، أو أي مفهوم سيكون بمعزل عن مفاهيم من قبيل "الكون السيميائي"، "الثقافة"، "المركز"، "الهامش"، "الترجمة"، "النسق المندمج الأولي"، "الأنساق المندمجة الثانوية". إننا أمام جهاز مفاهيمي متراص ومترابط، يستمد هويته من مجموعة من الحقول المعرفية المختلفة، وبالتالي، فخلفية لوتمان النظرية، خلفية متعددة ومتداخلة تدمج بين مجموعة من التخصصات الآتية من العلوم الإنسانية، وكذا العلوم الحقة. و"يتلخص مشروع لوتمان في الدراسة السيميائية لديناميات التعقيد في الظاهرة الثقافية، ويتسم إبستمولوجياً بالخصائص التالية:
- التكامل المعرفي (الرياضيات، النظرية المعلوماتية، السبرنطيقا، المنطق الصوري، اللسانيات... السيميائيات).
- ربط الجسور بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقة.
- التأسيس لمفهوم النسق المندمج ((modeling system باعتباره أساس التحليل السيميائي للثقافات.
- البحث في تكون وتطور وتنميط الثقافات"3.

ويغدو الحد في إطار هذا الزخم النظري والمفهومي مفهوماً مؤثراً ومتأثراً، وحسب لوتمان: "إن حد الفضاء السيميائي يعتبر من بين أكثر المواقع الوظيفية والبنيوية أهمية، حيث تمنح لآليته السيميائية (الفضاء السيميائي) مضمونها. ويُعتبر الحد آلية ثنائية اللغة، تترجم التواصلات الخارجية إلى اللغة الداخلية للكون السيميائي والعكس بالعكس. وهكذا، فإنه بمساعدة الحد فقط، يكون الكون السيميائي قادراً على إقامة تواصل مع الفضاءات غير السيميائية، وكذا الفضاءات السيميائية الخارجية"4. إن الحد يتم فهمه من خلال ثنائية المركز والهامش، وهو بمثابة مصفاة ثنائية الأبعاد، توحد وتفرق، "فهو دائماً الحد بالنسبة لشيء آخر، إنه المتاخم لكل الثقافات الحدودية ولأكوانها السميائية المتجاورة. فالحد يملك لغة مزدوجة ولغات متعددة، وآلية تملك القدرة على تحويل كل ما هو خارجي إلى شيء داخلي، أو جعل كل ما هو غريب مألوفًا لدينا"5.

إن الحد، بهذا المعنى، يغدو آلية نضمن من خلالها هوية الثقافة والعناصر الناظمة لها، ويحاول من خلال هويته المزدوجة تكييف العناصر الغريبة التي تلج من خارج الكون السيميائي، أي من خلال تصفية اللغات الغريبة لتتوافق ومركز الكون السيميائي المستقبل، "ويضطلع الحد داخل الكون السيميائي بالوظائف التالية: أولا: أنه يجب عليه الحد من اجتياح/غزو العناصر الغريبة الممتنعة عن السيطرة. ثانياً: عليه أن ينتقي، ويصفي ويكيف (أو يترجم) بعض العناصر الغريبة عن لغة الكون السيميائي المُستهدف"6.

إن هذه الازدواجية التي يزخر بها مفهوم الحد، تتأسس على مجموعة من التجليات، المبنية أولا على تفريق كون سيميائي عن كون آخر، ولكنها تنفذ إلى مستوى أقل عمومية يتوغل في عمق الكون السيميائي، فـ"الحد يمكن أن يفصل الأحياء عن الأموات، المستقرين عن الرحل، المدن عن القرى"7. ويذهب لوتمان أبعد من هذا في تحديد آليات اشتغال الحد؛ لأنه: "في بعض الحالات، تصبح الحدود السيميائية مماثلة للحدود الجغرافية: فعلى سبيل المثال: فإنه من الممكن تحديد الكون السيميائي الثقافي لكل من روسيا والبرازيل. وفي حالات أخرى، يمكن أن تكون الحدود تاريخية، وعلى هذا النحو، فإن الكون السيميائي الثقافي الروسي في القرن 19، يعتبر مختلفاً عن الكون السيميائي الثقافي الروسي اليوم. بل إنه من الممكن تحديد الكون السيميائي باعتبار الشرط الزمني: حيث يتم تجاوز النهار (وهو وقت الأنشطة الاعتيادية واليومية) عن طريق الليل، والذي يتحول إلى وقت مضاد، يتصف بسلوك مضاد (مثل السحرة واللصوص)8. وعليه، فإن مفهوم الحد ينبني على مجموعة من المعايير التي تكون إما جغرافية أو تاريخية أو زمنية، وهذه الخصوصية تجعل الحد يتسم بمجموعة من الخصائص، وكذا الوظائف التي يتم من خلالها تنظيم الكون السيميائي، أي تنظيم مجال الـ"نحن" في مقابل مجال الـ"هم". و"بهذه الطريقة، يمكن تشبيه النقط الحدودية للكون السيميائي بالمستقبلات الحسية، التي تنقل المثيرات الخارجية إلى لغة نظامنا العصبي، أو أنها وحدة للترجمة، تكيف المعطى الخارجي مع معطى الفضاء السيميائي"9.

إن الكون السيميائي، لا يخلق فقط أنماط تنظيمه الداخلي؛ وإنما ينخرط –أيضاً- في بناء أنماط لتنظيمه الخارجي، ولما كانت الثقافة هي الوحدة الأساسية الضامنة لتشكل وبناء الأكوان السيميائية، وكذا هويتها؛ فإن هذه الأخيرة "لا تنظم كل شيء؛ وإنما... تصوغ ميدان نشاط موسوم بخاصيات مميزة. من هنا تفهم الثقافة على أنها دائرة جزئية، أو مجال مقفل في مواجهة المجال الثاني، مجال اللاثقافة. وربما تباينت طبيعة هذا الضد- اللاثقافة- كأن يبدو غير منتم لدين بعينه، أو كأن يبدو منفصلاً عن بعض المعارف، أو يشارك في بعض طرز الحياة والسلوك. ولكن الثقافة ستظل أبداً بحاجة إلى مثل هذا الضد إذ تبرز الثقافة هنا طرفاً مقاوماً لضده، وبضدها تتميز الأشياء"10.

وبهذا؛ فإن "الحد" يغدو آلية مساهمة في بناء الثقافة وتفردها، وبالتالي، في تحديد مجالها ونشاطها في تعيين العالم، وباعتباره آلية مزدوجة العناصر والآليات، فإن الحد لا يذوب في السيرورة الثقافية من خلال مجموع تراكماتها النصوصية، أو من خلال مجموع القواعد والمعايير التي يؤسس من خلالها الكون السيميائي أفقه الثقافي، بل يعتبر "آلية أولية يشغلها الوصف الذاتي للنسق من أجل تحقيق تفرده السيميائي"11.

إن الحد، يوحد ويفرق ويصفي، وهي في مجملها آليات تتجه في مسار وظيفي تتعين من خلاله الأكوان السيميائية، كما أن الحد، من خلال مجموع ما يميزه، يبني الطابع الدينامي والمتغير الذي يضمن تجدد الكون السيميائي من خلال استعارته لمجموعة من النصوص الغريبة، وتكييفها مع النواة الداخلية والمركزية لهذا الكون؛ لأن "المركز حسب لوتمان هو المكان الذي يصف فيه الكون السيميائي ذاته ويتمركز حولها، وتعد مرحلة الوصف الذاتي هذه، رد فعل ضروري على كل تهديد يمكن أن يمس جوهر، وداخل الكون السيميائي"12. وفي مقالته حول "آليات الحوار"13، يحاول لوتمان تقديم نمذجة للخطوات، والمراحل التي يتم من خلالها تكييف نصوص قادمة من كون سيميائي آخر:
1- "يتم استقبال النصوص التي عبرت حد الكون السيميائي على أنها دخيلة وغريبة، وتحمل قيمة عالية في مقياس قيم الثقافة المستقبِلة. إن معرفة لغة الثقافة الأجنبية يعني الانتماء إلى النخبة، وتعتبر النصوص المكتوبة بلغة الثقافة من ناحية أخرى ثانوية.
2- هناك ملاءمة متبادلة تحدث بين النصوص المهمة والثقافة المستقبلة، مما يؤدي إلى الترجمة والتحيين.
3- وهنا تتطور فكرة أن: هذه النصوص لا تتحقق بشكل فعلي في الثقافة التي تنقلها؛ بل إنها ستجد تحققها الفعلي في الثقافة التي تستقبلها. وفي هذا السياق، هناك عداء كبير اتجاه الثقافة التي تُرحل/ تنقل النصوص.
4- يتم تذويب النصوص الجديدة (المجلوبة) بشكل كلي في الثقافة المستقبلة، والتي تبدأ بإنتاج نصوصها الخاصة بناء على الشفرات الثقافية الموجودة في النصوص التي يتم استيعابها.
5- تُصدر الثقافة المستقبلة نصوصها الخاصة، الموجهة إلى المجال الهامشي للكون السيميائي، هذه النصوص، يمكن أن يتم تصديرها –بدورها- إلى أكوان سيميائية أخرى.

بيد أن لوتمان، يلفت انتباهنا إلى حقيقة أن هذه الحلقة قد تم الاقتصار في تحديدها على مخطط توضيحي: وبالتالي، فإن عملية الاستيعاب لا تتحقق دائماً بشكل كامل، ولكي يحدث ذلك، يجب أن تكون هناك جاذبية متبادلة وشروط تاريخية مناسبة"14.

وتحيل كل العناصر التي سبق وأن أشرنا إليها، إلى مجموع الخصائص والوظائف التي يضطلع بها "الحد" في تصور يوري لوتمان، وهو مفهوم ذو موقع خاص في الكون السميائي والثقافي، حيث يؤسس لهوية هذا الأخير وديناميته، أي يميز مجال الـ"نحن" المتميز بالاتساق والانسجام، عن مجال الـ"هم" البربري والمتوحش، وهو كذلك مصفاة يتم على أساسها ترشيح مجموعة من النصوص لتتوافق ومعايير وأنماط مفصلة العالم في الثقافة، أو الكون السيميائي الهدف. ولا يمكن القول، إن "الحد" له تجل متفرد ووحيد يمكننا من خلاله القبض على معناه ووظيفته، بل هناك مجموعة من المعايير التي يمكن من خلالها تحديد هذا المفهوم، وهي معايير إما جغرافية أو زمنية أو تاريخية.

ريجيس دوبريه وضرورة إقامة الحدود

إذا كان مفهوم "الحد" عند لوتمان ينخرط ضمن صرح نظري ومفهومي رصين ومتماسك، ويخضع لمجموعة من التحديدات تبعاً للعلائق التي يقيمها مع مكونات الكون السيميائي، وكذا الوظائف التي يضطلع بها في تنظيم وإسباغ الهوية على هذا الأخير، فإن الأمر عند "ريجيس دوبريه Régis Debray" مختلف تماماً، حيث إن المداخل التي تم من خلالها التطرق لمفهوم الحد، لا تعدو كونها مداخل تأملية وشذرية لا تستقيم على تحديد مضبوط لمفهوم الحد، ولا تحاول أن تأسس لكيانه النظري بعيداً عن تجلياته وكذا وظائفه في الواقع. ويتحرك تصور "الحدود" عند دوبريه ضمن إطار تصوري عام وناظم، يتجلى في ضرورة إقامة الحدود والوعي بأهميتها، ولا يحاول أن يجرد من التجارب العيانية التي تجسد تطبيقاً للحدود، تحديداً عاماً وشاملاً يستحضر الخصوصيات المشتركة للتجربة الحدودية الواقعية، بل يحاول أن يحفظ لكل تجربة خصوصيتها في إقامة وتشييد الحدود.

إن إقامة الحدود عند دوبريه، تنطوي على مجموعة من الإيجابيات التي يتحدد من خلالها المجتمع، ويبني بالتالي خصوصيته وهويته إزاء مجتمعات وثقافات أخرى. ولعل المحاضرة التي ألقاها في البيت الفرنسي-الياباني بطوكيو سنة 2010، والتي عنونها بـ"مديح الحدود"، تجسد بشكل كبير هذا الاعتناء الذي يخصه "دوبريه" لمسألة الحدود وضرورتها، وهو اعتناء راجع –حسبه- إلى أن الحد يعتبر "عنصراً ضرورياً لمعنى العالم، وتكريس وإدامة الحياة"15، وهذا المعنى نابع من التعارضات التي يقيمها الحد ويتخلل من خلالها أبسط التجارب الإنسانية، ويحد من التشويش الذي قد يعتري الإنسان في فهم العالم والتعاطي معه، وحتى في مجال البحث العلمي، فإن الحد يلعب دوراً كبيراً وأساسياً في حصر الظاهرة المدروسة عن محيطها، أو العناصر التي تدور في فلكها، حيث يغدو الحد بهذا المعنى ضرورة وليس اختياراً. وعليه، وحسب دوبريه، فإن "الحديث عن الإنسانية، باعتبارها مجتمعاً يتعايش فيه جميع الناس، ليس له أي معنى إلا إذا صادف هذا المجتمع أجانباً. ويمكن أن تشكل الإنسانية حدودها البرية الأرضية في مقابل غيرية خارجية. لكن الحد، كما يعتقد ريجيس دوبريه، ليس عامل إقصاء أو استبعاد، بل على العكس من ذلك تماماً"16.

لا يمكن –بالتالي- تصور العالم بلا حدود، ولا يمكن أن نجذر فهمنا للواقع وللكون في جو خال من التشويش بدون حدود، ويتعدد الحد وطبيعته بتعدد التجربة الإنسانية وغناها، فهذا الأخير، قد يكون ذا طبيعة بيولوجية أو جغرافية أو سياسية، أو ثقافية أو تاريخية... ويتراوح –كذلك- بين حد مُعطى من قبل الطبيعة، وحد مُحدث من طرف الإنسان. وكما يقرر دوبريه، فإن "الكائن الحي يستطيع أن ينمو ويتشكل من خلال تمتعه بطبقة عازلة، لا يكون دورها في المنع، بل في تنظيم التبادل بين الخارج والداخل"17.

يربط دوبريه تأملاته حول الحدود ودورها بمسألة أساسية هي مسألة الاعتراف، وهو مستوى يلعب فيه التعارض بين قوتين أو بين قطبين دوراً كبيراً، فكما أنه ليس هناك سيد بدون عبد أو مأمور يعترف له بسيادته؛ فإن دوبريه يتساءل "كيف يمكن للمرء أن يثبت شخصيته من دون أن يعترض أو يقاوم؟ إن جماعة لا خارج لها يعترف بها أو يوظفها، لن يكون من علة لوجودها"18.

يبدو واضحاً أن دوبريه يستنكف عن التحديدات الإجرائية والنظرية لمفهوم الحدود، ويرصدها بناء على خلفية متقاطعة التخصصات ومتعددة، وإذا كان لوتمان قد رصد للحد وظيفته ضمن كون نظري محدث، وانفتح بعدها على الكون السيميائي والثقافي ليرصد تجلياته-الحد-، وربطه بمجموعة من التعالقات المفهومية، من قبيل المركز، الهامش، الترجمة... فإن دوبريه في تأملاته حول الحدود، لم يصدر عن إطار نظري محدد لهذا المفهوم؛ وإنما انفتح على تجلياته المختلفة في الكون الطبيعي والاجتماعي، ومختلف تمظهراته، وهو في هذا الرصد الشمولي وغير المقنن، يتقاطع في بعض الأحيان مع الأساس المفهومي الذي كرسه لوتمان لمفهوم الحد، حيث يقول في إحدى تأملاته: "يمنع الجدار المرور، أما الحدود، فتنظمه. والقول عن حدود ما بأنها مصفاة، هو أيضاً منحها ما تستحقه: فالحدود هنا هي من أجل الفلترة والتنقية"19.

وإذا كانت خاصية التصفية التي يتمتع بها الحد عند لوتمان تتحدد في أن هذا الأخير يكيف ويصفي مجموعة من النصوص الوافدة من كون سيميائي آخر مع الأسس التصورية والثقافية للكون السيميائي الهدف؛ فإننا مع دوبريه لا نتعرف على طبيعة هذه التصفية ولا مواضيعها أو أهدافها. لكن الحدود عند دوبريه، في نهاية المطاف، هي معطى ضامن للمعنى والهوية، وإبعاد التشويش عن الملاحظة الهادفة التي تتوخى استنباط مواضيع معينة، وعزل مواضيع عن أخرى، فالحدود لها طابع كوني، يتخلل مجمل التجارب الإنسانية، حيث نصادفها في المقهى، وفي المنزل، وفي أيام الأسبوع.


لائحة المصادر والمراجع
باللغة العربية:
1. بريمي عبد الله، السيميائيات الثقافية، مفاهيمها وآليات اشتغالها، المدخل إلى نظرية لوتمان السميائية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط 1،2018.
2. دوبريه ريجيس، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، وزارة الثقافة والفنون والتراث-دولة قطر.
3. لوتمان يوري، سيمياء الكون، ترجمة: النوسي عبد المجيد، المركز الثقافي العربي، ط: 1،2011.
4. مفتاح محمد، المفاهيم معالم، نحو تأويل واقعي، المركز الثقافي العربي، ط: 2،2010.
5. نعيم جمال، جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المركز الثقافي العربي، ط: 1،2010.
6. الكوش حسيب، نحو إبدال جديد في علوم الثقافة، رباط الكتب، 25 يناير 2014 ضمن موقع : http://ribatalkoutoub .com
7. لوتمان يوري، أوسبنسكي بوريس، حول الآلية السيميوطيقية للثقافة، ترجمة: عبد المنعم تليمة، ضمن: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف: سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد، دار إلياس العصرية، 1986.
 
باللغة الأجنبية:
- Alexandre Poussart ,La frontière c’est la vie , http://zone-critique.com/2012/12/16/la-frontiere-cest-la-vie
- Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics
- LOTMAN,YURI. Dialogue Mechanisms. In: Universe of the Mind: A Semiotic Theory of Culture.Translated by Ann Shukman. Bloomington, IN: Indiana University Press, 2009
الهوامش:
1. مفتاح محمد، المفاهيم معالم، نحو تأويل واقعي، المركز الثقافي العربي، ط:2،2010، ص :6.
2. نعيم جمال، جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المركز الثقافي العربي، ط:1،2010، ص: 35.
3. الكوش حسيب، نحو إبدال جديد في علوم الثقافة، رباط الكتب، 25يناير 2014، ضمن موقع: http://ribatalkoutoub.com/?p=1054
4 .Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics,p:9.10.
5. بريمي عبد الله، السيميائيات الثقافية، مفاهيمها وآليات اشتغالها، المدخل إلى نظرية لوتمان السميائية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط1،2018، ص: 119،120.
6 .Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics,p:10.
7. لوتمان يوري، سيمياء الكون، ترجمة: النوسي عبد المجيد، المركز الثقافي العربي، ط:1،2011، ص: 36.
8 .Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics,p:.11
9 .Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics,p:.10
10. لوتمان يوري، أوسبنسكي بوريس، حول الآلية السيميوطيقية للثقافة، ترجمة: عبد المنعم تليمة، ضمن: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف: سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد، دار إلياس العصرية، 1986، ص: 296.
11. الكوش حسيب، نحو إبدال جديد في علوم الثقافة.
12. بريمي عبد الله، السيميائيات الثقافية، مفاهيمها وآليات اشتغالها، المدخل إلى نظرية يوري لوتمان السميائية، ص: 118.
13. أنظر:
LOTMAN,YURI. Dialogue Mechanisms. In: Universe of the Mind: A Semiotic Theory of Culture.
Translated by Ann Shukman. Bloomington, IN: Indiana University Press, 2009, pp.143-150.
14 .Ekaterina Vólkova Américo, The Concept of Border in Yuri Lotman’s Semiotics,p:.13
15 .La frontière c’est la vie ,alexandre poussart, http://zone-critique.com/2012/12/16/la-frontiere-cest-la-vie/
16 .Ibid .
17. دوبريه ريجيس، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، وزارة الثقافة والفنون والتراث-دولة قطر، ص: 29.
18. دوبريه ريجيس، في مديح الحدود، ترجمة: ديمة الشكر، ص: 40.
19. نفسه، ص: 36.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها