مدرسة الخطوط العربية.. مائة عام من الرِّيادة والتّميُّز

(1922-2022م)

د. محمد حسن



لقد أبدع الفنان العربي مجموعة متنوعة من الفنون أضافها إلى الفنون التشكيلية عامة، وإلى مدارس الفنون الجميلة الإنسانية، ومن تلك الفنون الجديدة فن الخط العربي. الذي يُعدُّ واحدًا من أهم الفنون الإسلامية، وقد حظي باحترام الناس في سائر العصور؛ فالخطَّاط هو الذي يكتب المُصحف الشريف، ويُسَطِّر الأحاديث النبوية، والكتب المفيدة، ورسائل الحكام الخطيرة، ويُزيِّن بآيات الله المساجد والقصور وغيرها.


وتعتبر دراسة المدارس الخطية المختلفة واحدة من أهم النقاط التي يجب أن يهتم بها القائمون على علم دراسة الخطوط، وأيضًا تمثل المدارس الخطية عنصراً مهماً وفاعلاً في دراسة تاريخ الفن وتطوره. وكان أول فنون الخط العربي ظهورًا هو الخط الكوفي، فهو أعرق الخطوط، وظهر أول ما ظهر في الكوفة، ومنها انتشر إلى سائر البلاد العربية والإسلامية، وتطور هذا الخط وانقسم إلى قسمين: قسم يُعرف بالتقوير، وقسم آخر يُعرف بالبسط فالخط الكوفي المقوَّر هو ما كانت عراقاته منخسفة إلى أسفل، وهو كثير الاستخدام في المراسلات العادية. والخط الكوفي المبسوط هو الذي تُبْسط عراقاته كالنون الطويلة على سبيل المثال، وقد كثُر استخدام الكوفي المبسوط في النقش على المحاريب، وعلى أبواب المساجد، وجدران المباني، كما كُتبت به المصاحف الكبيرة، واستُخدم لأغراض الزينة والزخرفة.

وتنوعت الخطوط العربية بعد ذلك، وانتشرت في البلاد العربية؛ والسبب المباشر لظهور فن الخط العربي ومدارسه الفنية المتعددة هو انتشار القرآن الكريم في البلاد المختلفة، وحرص الخطَّاطين في كل بلد على نسخه، وأصبح لكل منطقة نوع معين من الخط يُمَيِّزها؛ فظهر الخط المدني بالمدينة والمكي بمكة، والفارسي ثم النسخ والثُلث وغيرها.

وصفات المدرسة الخطية سؤال محوري تضمن إجابته الوافية الاطلاع على مجموعة من العلوم والفنون، بجوانب اجتماعية وفنية وتاريخية مهمة، تلك الرؤية هي التي تخرج فن الخط العربي من أزمته الدراسية الحالية إلى دراسته دراسة فنيةً ومعرفية وتاريخية؛ ويمكننا القول إن هناك نسقًا معرفيًا ما يطلق عليه "مدرسة خطية". يتكون هذا النسق من إطار فني، وإطار تربوي، وإطار تاريخي وجغرافي.

وكانت المدرسة المصرية طوال تاريخها تقف باقتدار وتستوعب كل جديد، ومنفتحة سواء على التطور الكبير الواقع في الدولة العثمانية، أو في بلاد فارس، ويعتبر الأستاذ محمد مؤنس زاده؛ شيخ الخطاطين المصريين في زمنه، واشتهر برسالته التعليمية الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف التي طُبعت في مصر بأمر من علي مبارك لتعميم فائدتها عام 1868م، ويُعتبر رأس المدرسة الخطية في مصر، وُلِدَ في القاهرة ونشأ فيها فتلقى علوم عصره، وأحب الخط منذ حداثته فتشرّبه وتعلمه من والده إبراهيم أفندي مؤنس الذي كان خطاطًا مجوِّدًا وأستاذًا في هذا الفن، حتى تفوق فيه وأصبح مجودًا كبيرًا وشيخًا للخطاطين.
 

لقد كان لمحمد مؤنس زاده الفضل الأول في انتشار الخط العربي في مصر، وكتابه في الخط سماه "الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف"، وهي كراسة في الثلث والنسخ، وكتب مؤنس زاده مع تلميذه محمد جعفر قبر أم الخديوي توفيق بحوش الباشا، الذي يمثل قمة في الإبداع الخطي، ووقع مؤنس مع تلميذه بتوقيع واحد بصيغة "كتبه مؤنس وجعفر"، وقد برز من تلاميذه عدد كبير من الخطاطين البارعين الذين جودوا الخط ودرّسوه في المعاهد والمدارس والمكاتب النظامية، وفي مدرسة تحسين الخطوط الملكية التي تأسست عام 1922م، وكان معظم الأساتذة الذين اختيروا للتدريس فيها من تلامذته، ومن أبرز من أخذوا عنه محمد إبراهيم الأفندي، وعلي بدوي، ومصطفى الغرّ، وعبد الفتاح خليفة، ومصطفى الحريري، ومحمد الجمل، وعلي إبراهيم، ومحمد محفوظ، ومحمود محمد عبد الرازق، وأحمد عفيفي، وعبد الرزاق عوض، ومحمود محمد الشحات، ومحمد جعفر الذي خط أساس حروف المطبعة الأميرية، توفي محمد مؤنس زاده سنة 1318هـ/1900م.

ومدرسة تحسين الخطوط الملكية أنشأها الملك فؤاد في سبتمبر سنة 1922م، وهي واحدة من الصور الهامة للتدليل على مفهوم المدرسة الخطية وعناصر دراستها، وعلى الرغم من أن روادها في أول نشأتها كانوا قليلين، إلا أنها أخذت تنمو رويدًا رويدًا، حتى صارت بفضل مكانة مصر -في الطباعة والنشر- كثيرة الرواد والطلاب. يتعلم الطلاب فيها حتى اليوم فنون الخط العربي من الثلث والنسخ والرقعة والديواني والفارسي والكوفي، وما يتصل بهذه الفنون من الرسم الفني والزخرفي بجانب التذهيب، واستجاب لهذه المدرسة النافعة بمصر كثير من محبي الفنون الإسلامية والخط العربي من بالعراق، والشام وفلسطين، والسودان وبلاد الحجاز، واليمن وطرابلس الغرب، وبلاد الهند الشرقية من جاوى وسومطرى، فلم يقف دورها عند مصر فقط بل تعداه ليكون دورًا إقليميًا رائدًا.

وكان الشيخ عبد العزيز الرفاعي من أهم مؤسسيها وأول مدرسيها، وانتظم بتلك المدرسة مئات الطلاب، وقد تخرجت أول دفعة في المدرسة سنة 1925م، وكان لهذه المدرسة الفضل في تخريج رواد فن الخط العربي في مصر في القرن العشرين، ويعزى لعهد الملك فؤاد الأول الفضل، بل وله شخصيًا، في نشوء عدد من المؤسسات الثقافية التي أكسبت مصر قصب السبق في الثقافة في المنطقة العربية.

صحيح أن دور الريادة الثقافية في المنطقة كان لها من قبل من خلال جامعة الأزهر العتيدة، ولكن بعد أن تغير الطابع الديني كان مطلوبًا إقامة مؤسسة حديثة تقوم بهذا الدور، فظهرت الجامعة المصرية عام 1908م، وصحيح أن مصر ظلت مركزًا للثقافة العربية والإسلامية، غير أنه بعد اختلاط العالم العربي على نحو واسع بالثقافات الأوروبية، وتأثره بها، تطلب الأمر مؤسسة خاصة للحفاظ على مقومات لغة القرآن، ومَثل إعلان مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية، وإلغاء الخلافة الإسلامية في 3 مارس 1924م، وإصدار قانون توحيد التعليم، وقامت الدولة بإغلاق المدارس الدينية ووكالة الأوقاف الشرعية في التاريخ نفسه، وفي سنة 1925م، منع أتباع كمال الطرق الصوفية، وأغلقوا التكايا والزوايا، ومنعوا الزي الديني والوطني، وألزموا موظفي الدولة بلبس القبعة، وتوالى فرض القوانين المخالفة للدين حتى قبل الإعلان الرسمي للعلمانية، حيث شكلت لجنة من رجال القانون لتتريك القانون المدني السويسري وأخرى لشرحه، وألغى العمل بالشريعة الإسلامية حتى في الأحوال الشخصية، وتم استبدال التقويم الميلادي بالتقويم الهجري.

وكانت مدرسة تحسين الخطوط الملكية منذ نشأتها إلى ما قبل سبتمبر سنة 1935 تابعة لإدارة التعليم بديوان الأوقاف الخصوصية الملكية، ثم ضُمت لوزارة المعارف من ذلك التاريخ فشملتها بعناية كبيرة، ووجهت إليها دعاية مشكورة فمضت قدماً في تأدية رسالتها وتحقيق الأغراض السامية التي أنشئت من أجلها، وهي التي لخصتها الوزارة في المادة الأولى من لائحة المدرسة المعدلة لسنة 1943 بأنها "تحسين الخطوط العربية بأنواعها، وما يتصل بذلك من الفنون وإحياء ما اندثر منها، ونشرها في الأقطار العربية، وإعداد أشخاص ممتازين فيها". وقد اعتبرتها الوزارة إحدى مدارسها الخصوصية يتلقى فيها الطلبة الفن بالمجان، وتصرف لهم الأدوات بدون مقابل، ويكشف طبياً على راغبي اللحاق بها. ويدرس في قسم الخطوط أنواع الخط العربي النسخ، والرقعة، والثلث العادي، والفارسي العادي، والديواني والثلث الجلي والفارسي الجلي، والرسم، ويدرس بقسم التخصص والتذهيب الخط (وهو الذي يختاره الطالب)، والتذهيب، والرسم، والخط الكوفي.
 

وعمل بالمدرسة نخبة كبيرة من الأساتذة والفنانين المشهود لهم بالتفوق في الخطوط العربية والتمكن من دقائقها، وهو فريق من الخطاطين القدامى الممتازين، وفريق من نابغي المتخرجين في المدرسة، ويجمع محيط الطلبة بالمدرسة طبقات مختلفة، فبعضهم يحمل شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، وبعضهم شهادة الدراسة الثانوية للمدارس والأزهر، ومنهم من يحمل كفاءة المعلمين الأولية، وشهادات مدارس الصناعات والفنون التطبيقية، والتجارة المتوسطة، ومنهم من لم يحصل على مؤهلات فنية، ومعظم هؤلاء وهؤلاء من الموظفين والعمال والطلبة.

وقد تخرج في هذه المدرسة كثير من المصريين وغيرهم من أهل الأقطار الإسلامية الأخرى، كما تخرج فيها بعض الحاصلين على إجازة التدريس من دار العلوم. وعمل خريجو المدرسة في كثير من المصالح والوزارات، وخاصة المساحة والري والتنظيم بصفتهم خطاطين ورسامين، كما يشتغل بعضهم بالتدريس وبأقسام الإعلانات في الجرائد والمجلات، وغير ذلك من الأعمال الحرة المتصلة بالخط العربي، وقد عينت وزارة المعارف فريقًا منهم مدرسين في التعليم الابتدائي. ويمكن تحديد مساحة الإسهام الكبير لمدرسة تحسين الخطوط الملكية في خمسة مسارات أساسية، هي:
• نساخة القرآن الكريم.
• صورة تعليم الخط العربي.
• الهوية البصرية للخط العربي وذائقته.
• التجديد في شخصية الخط العربي.
• المحافظة على الخطوط التراثية القديمة.

وتمثل نساخة القرآن الكريم واحدة من أهم الموضوعات التي اهتم بها خريجو المدرسة، بداية من الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي، والشيخ علي بدوي، والأستاذ محمد عبد الرحمن، والأستاذ عبد المتعال إبراهيم، والأستاذ محمد سعد الحداد، والأستاذ سيد عبد القادر "الحاج زايد"، وقد استطاع كل واحد منهم أن يحقق بصمة واضحة في تاريخ نساخة المصحف الشريف في مصر، ومن مصر إلى العالم أجمع.

كذلك استطاعت المدرسة أن تعطي صورة مختلفة لتعليم الخط العربي والاحتفاء به، بداية من تجاوز مفهوم "المشق" التقليدي، إلى إخراج الكراسات التعليمية لطلاب المدارس الابتدائية المختلفة، أو كراسة تدريب المعلمين، والتي صاغت مفهوماً تربوياً مهماً للغاية، وهو كيفية القيام بتدريس منهج للخط العربي، بل وكيفية تقسيمه تربويًا ولفئات مختلفة ومتعددة. كذلك فقد أبدع أغلب طلاب وأساتذة المدرسة في عمل لوحات فنية مختلفة، كانت هي المثال الأكثر وضوحًا للهُوية البصرية للطبقة الوسطى المصرية، والأكثر قُربًا منها ومن طبيعتها، وهناك طريقتان للاستفادة من الحرف العربي، الأولى يكون الحرف فيها عنصراً تشكيلياً أساسياً في اللوحة، والثانية لا علاقة للحرف بمضمون اللوحة؛ إنما يكون الحرف فيها عنصراً تشكيلياً فحسب. ففي المجال الأول نجد ميلاً لدى كثير من الفنانين إلى استخدام الكتابة العربية شكلاً ومضموناً، بحيث تتكون اللوحة من جملة أو كلمة تكتب بالطريقة التقليدية للخط العربي، أو بطريقة فنية لا تلتزم بقواعد الخط العربي، بل إن بعضهم استخدم الكلمات للتعبير عن مضمون اللوحة بأشكال فنية غير ملتزمين بقوانين وقواعد الخط العربي.

كذلك فقد عملت المدرسة بشكل مباشر وغير مباشر على تجديد شخصية الحرف، ويمكن أن نأخذ أفيشات السينما والاستخدامات المختلفة للخطوط العربية عليها مثالاً على التجديد في شخصية الخط العربي، مع الجرائد اليومية التي كانت تكتب بخط الرقعة، وقد جرى تكييف كثير على القواعد الفنية للخط لتتناسب مع طبيعة شخصية الخط والاحترام الواجب له.

 وأخيراً؛ فإن التجديد لا يعني التفريط في التراث الفني والتقليدي، ويتضح مفهوم الأصالة في الفكر العربي من خلال المحافظة على تلك التقاليد المتجذرة في عمق السلوك والفكر والقيم، مما يجعلها عاملاً موروثاً ومورّثاً في آن واحد؛ أي أنه ممتدٌ من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر، وهذا ما يؤكده حفاظ الخط العربي على تقاليده الفنية في قواعده وأصوله وجمالياته، فدور الأستاذ يوسف أحمد كواحد من أهم رواد وأساتذة مدرسة تحسين الخطوط الملكية، يمثل حجر الزاوية لإعادة الحياة للخط الكوفي بعد رقدته لأكثر من ستة قرون كاملة، كذلك النماذج المتعددة التي خلفها الأستاذ محمد علي المكاوي بخط الإجازة، ودور الأستاذ مصطفى غزلان في الخط الديواني تحكي كلها عن فصل آخر مهم من فصول الاهتمام التي حققته مدرسة تحسين الخطوط الملكية، كرائدة إقليمية مميزة في صياغة تعليم وفن وتذوق الخط العربي.

خِتاماً؛ إن دور مدرسة تحسين الخطوط الملكية تجاه الخط العربي بحد ذاته كان مفارقة تاريخية وحضارية، وكشفًا هامًا لحقيقة ووجود الخط العربي داخل المخيلة والثقافة المصرية بصفة خاصة، والمخيلة العربية بصفة عامة، وسرعان ما أشادت تلك المدرسة الوليدة فنًا راقيًا قائماً على التعددية والتنوع، ذلك الفن الإنساني العظيم، الذي لم ينفرد بنفسه وبفلسفته ليكون وسيلة تعبير ذهنية فقط، بل تخطاها عبر نساخة القرآن الكريم، وفنون الكتاب العربي الإسلامي، والعديد من التطبيقات العملية اليومية على صفحات الصحف والجرائد، وظلت أشكاله الفنية المتنوعة غنية بطاقاتها الفنية والتجريدية إلى الحد الذي عبرت باستمرار عن المعطي الروحي الصرف للحضارة العربية الإسلامية، وذلك باستمرار ظهورها كلوحات حائطية على جدران المسجد. ودورنا اليوم هو العمل على فهم حاضر ومستقبل الخط العربي، والعمل على تأسيس أقسام للخط العربي داخل الجامعات المصرية تأكيدًا للدور المصري الرائد في هذا المجال.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها