المسرح والمجتمع

كيف ساهم المسرح في توعية المجتمع

د. عباس عبد الغني


المسرح جزء من المجتمع، ومساهم فاعل في التركيب البنيوي للجانب الأخلاقي، فمنذ اكتشافه على يد الإغريق وضعوا حضوره جزءاً من الالتزام الديني للفرد، ووسيلة للتعبير عن الجوانب الدينية التي قدسوها. فأعياد الاحتفاء بالإله باخوس رمز الخصب والنماء، هو مكنون ديني وأخلاقي وسياسي في المجتمع الإغريقي. حمل المسرح على عاتقه مهمة التفسير للمدلول الحياتي الذي يسقطه، فالمسرح هو الوسيلة التعبيرية عن هذا الجانب المهم من جوانب البناء الإنساني في مجتمع ما، مما جعله يجاور "الدين في مرحلته الأولى في تطور جدلي حضاري، فقد أدى ظهوره –المسرح– إلى اعتماد الدين، المواكب والطقوس الدينية وتمثيلها وسيلةً للوصول إلى المعتقد، ووصف ذلك بأنه الشكل الأول للفن، فالاحتفالات البابلية القديمة التي كانت تقام للتقرب إلى إله الشمس والربيع ومردوخ، وكذلك احتفالات (ديونسيوس) في اليونان القديمة، والعروض التي تقدم حياة (بوذا) في جاوه، وعباد الإلهين (إيزيس واوزريس) في مصر، ومسارح الأقنعة في الصين والهند واليابان التي تقدس ديانة الأجداد، والمسرحيات الدينية في العصور الوسطى، كل تلك الاحتفالات ولد فيها المسرح من الطقوس الدينية".

 

نشأ المسرح وعلى عاتقه التعبير عن الجوانب الدينية قبل الدنيوية، انطلاقاً من مفهوم أن المسرح وجد لخدمة الآلهة "فالأصل الديني القوي للمسرح عامل من الأهمية في المسرح أكثر مما هو مفهوم بصورة عامة".

دَخَلَ المسرح في هيكلية الحياة للفرد؛ لأنه وسيلة من وسائل التثقيف والتعبير عن الأتراح والأحزان التي يعانيها الفرد، بالإضافة إلى اعتبار أن المسرح بالنسبة لعدد كبير من الناس واحد من فئات الأشكال البديلة للتسلية، كما أن المسرح "يتوجه إلى جمهور أغلبه من الأميين الإغريق، يحاكي توجهاتهم بمحاكاتهم باللهجة التي يفهمونها ليوصل هدفاً تعليمياً وثورياً". أسس المسرح الأرضية التعليمية للفرد حين بدأ في استشعار البنى التي يتموضع معها في حياته الاجتماعية، فالمسرح ينقل الفرد من مكان عام كالحياة الاجتماعية، إلى مكان يجري فيه حدث منعكس عن هذه الحياة، ألا وهو مكان العرض المسرحي، أو فضاء المكان المُتخيل حين يكون المتلقي يتلقى النص دون العرض، ويتسم هذا الانتقال الذي "ينتجه وينتخبه المتلقي بحسب وعيه وذائقته، وثقافته وميوله الفكرية والعقائدية، باعتبار المتلقي شريك في إنتاج العرض، فهو وإن واجه مختلف المقترحات المكانية (التجريدية، الطرازية المقترحة، أو الواقعية)، والتي يقترحها المخرج أو المؤلف؛ فإنه سيعمل في النهاية على إحالتها ذهنياً إلى مكان أثير لديه وراسخ في ذاكرته الجمعية".

لقد دخل المسرح في بلورة الجانب التربوي التعليمي للفرد، ففي عصرنا الحديث اقتبس الكتاب العرب من القصص القرآني، ليقدموه للناس وفق آيديولوجيا منتقاة، وكان لهذا التقديم جانب تربوي، فمسرحية أهل الكهف لكاتبها (توفيق الحكيم) كانت مقتبسة من القرآن الكريم، و"كانت هذه المسرحية هي المسرحية الدينية الأولى في المسرح العربي، باعتبارها أول عمل مسرحي متكامل، وقائم على القصة القرآنية الواردة في سورة الكهف، والتي تعتبر الدليل الممثل على معجزة البعث".

عُدَّ المسرح أكثر الفنون مساساً في الحياة الاجتماعية، لا سيما كونه أساساً للبنية الفكرية للفرد، وبهذا فإن الفرد يتجه للوله بالمسرح "من إيمانه بضرورته الحياتية في الحياة المعاصرة، ذلك أنه يمس الحياة البشرية بطريقة فريدة من نوعها، قد تعجز الفنون والآداب الأخرى عنها".

إن المسرح، هو تقليد للحياة يجعل من المتلقي يهاب الأفعال التي يقوم بها البطل، فينأى بنفسه أن يكون مكان البطل "فتكشف بذلك المسرحية من تحت الشخصية المتذبذبة المهتزة عن الإرادة الدؤوبة اللاواعية، ومن تحت الهدف المصمم للطبيعة الحيوانية عن الإنسان كضحية للظروف، فمعرفة شخصيات الناس في الحياة الواقعية تقف في سبيلها عوامل شتى منها: غلبة الحياء على الناس، مما يجعلهم يلتزمون إخفاء ما بهم، إما لشعورهم بأن حياتهم الداخلية لا تهم أحداً سواهم، وإما لإحساسهم بأن معرفة الغير لهم على حقيقتهم قد تؤدي إلى احتقارهم أو الهجوم عليهم، إلى غير ذلك من الأسباب الغريزية أو المكتسبة في الإنسان.

اتخذ المسرح منحىً اجتماعياً في تاريخه الطويل "وأظهر ما يبين ذلك في مسرحيات (يعقوب صنوع)، التي يدور معظمها حول القضايا الاجتماعية خاصة، قضايا الحب والزواج، وما يعتريهما من عقبات مصطنعة، تتمثل في تدخل الأبوين أو في وجود الفوارق الاجتماعية". إن سبب دخول المسرح كعنصر أساس في المجتمع، هو أن الأخير بكل ما يعتلج فيه كان مصدراً يستمد الكاتب منه موضوعاته.

لقد دخل المسرح في السلك الاجتماعي للمجتمع العربي عبر التعليم للفرد، حين طرح موضوعات تهدف إلى تعزيز الجانب التعليمي، وبرز ذلك في مسرحيات (فرج أنطون) في مسرحية (السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم)، التي تدور حوادثها في الصراع الدائر بين المسلمين والفرنج حول بيت المقدس، ثم نجاح العرب في الاستيلاء على المدينة وطرد الغزاة منها "فقد طرح الكاتب الإطار التاريخي مصوراً عواطف الانتقام الديني، وإلى إضفاء حالة من المثالية على شخصية صلاح الدين عاكساً بذلك طبيعته الحقة وحكمته وعفوه، وترفعه عن الصغائر والدنايا".

استمد المسرح دوره في المجتمع لأنه يدخل إلى القضايا التاريخية التي يقتبسها، فالهدف التعليمي والترفيهي يقتربان عند (خليل اليازجي)، الذي يتخذ من تاريخ (النعمان بن المنذر)، وما دار بينه وبين حنظلة الأعرابي و(قراد الكلبي)، فقد صور هذا الجانب الأخلاقي الفاضل للكرم العربي "وإذا كانت حكاية (النعمان) هذه هي الحادثة الرئيسة؛ فإن المؤلف قد أضاف قصة حب نمطية، طرفاها (قراد الكلبي)، و(هند بنت النعمان) هادفاً إلى ترطيب جو المسرحية الصارم المتجهم، والتخفيف من وطأة الوعظ والإرشاد، بدغدغة عواطف الجمهور وتسليته. وطبيعي أن تؤول المسرحية إلى نهاية سعيدة، انسجاماً مع وظيفتها الخلقية التعليمية". يُشكل المسرح أحد أضلاع المجتمع عبر تتبعه للممارسة العملية للحياة، والتي تؤثر تأثيراً كبيراً في الفن، وبهذا فإن المسرح يوطد العلاقة "بين الفن والتطور الاجتماعي، فالفنان عندما يبدع عملاً فنياً؛ إنما هو يستقي موضوعاته من عالمه الذي يعيشه (الرعي، الصيد، الزراعة...)، ومضمونه يكون محكوماً بالتطور الاجتماعي، ونظرته إلى العالم عبر نسيج معقد من المؤثرات والعلاقات". لهذا نحن نقرأ المسرح باعتباره منظومة حيوية، ترسل إشعاعاتها إلى المتلقي لتثيره عبر مجسات، هدفها أن تؤثر وتتأثر في الجو الذي تعوم فيه الإحداث.

إن من أهم الجوانب التي انطلق منها المسرح في كونه منظومة اجتماعية، باعتباره وسيلةً شعبية محببة لدى الناس، فالمسرح لا يعني أن يتلقاه الكبار فقط، بل هو للصغار كذلك "ولا ريب في أن الاهتمام بمسرح الطفل في العصر الحديث غدا ضرورة لازمة من أجل مستقبل لائق بالأطفال، فضلاً عن علاقة الطفل الوثيقة به، فهذا الفن يرسخ في الطفل دلالات ومعاني، وجماليات في بصره وبصيرته، ويثري معرفته، ويزرع في عروقه ماء الحياة من بهجة ونبض، وسعادة وروئ وخيالات مجنحة". والسينما كفن يضارع المسرح في أنه أحد وسائل التأثير والتأثر بالمجتمع، عبر المشاهدات اليومية للسينما والتلفزيون، وهذه الوسائل يمكن أن تؤثر في دوافع الأطفال والكبار على السواء، عبر الاتفاق على المادة المعروضة، ومدى فاعليتها مع الجانب العمري للمتلقي، وقد قام (Klinger) "بتجربة على طلبة إحدى الكليات؛ إذ عرض عليهم نماذج من أحد الأفلام السينمائية المتضمنة لفعالية كانت صامتة، تدل على إنجاز عمل إنتاجي، فوجد أن دافع الإنجاز قد تأثر بهذه المنبهات البصرية، وذلك بتطبيقه لاختبار تفهم الموضوع قبل التجربة".

لقد تأسس المسرح على أسس المجتمع منذ بدء نشأته في أحضان الدين إلى وصوله إلى ما هو عليه، فعملية العرض المسرحي تؤطر بجوانب تعليمة، عبر عرض موضوع يمتلك الجوانب الإرسالية لمفهوم ما، فمسرحية (تاجر البندقية) لـ(وليم شكسبير)، يمكن أن توضح الكثير من الجوانب المبهمة في إعداد النص وتقديمه على المسرح في صورة مرئية يتلقاها المتلقي، لتتضح رؤى النص أمام المتلقي، وكذلك الحال في مسرح الطفل حين يرمي المربي إيصال فكرة وترسيخها في ذهن الطفل؛ فإنه يلجأ إلى المسرح، وعبر شخوص المسرحية المعدة للطفل، كأن تمثل شخصيات المسرحية شخصيات حيوانية تبين الجوانب السلبية للنوم المتأخر، والجوانب الإيجابية للنوم المبكر على لسان الشخصيات التي تعرض الفكرة وتؤطرها بإطار درامي حي، يرسل على مرأى من عين المتلقي، فيُظهِر المسرح الجانب الإيجابي، وما ينتج عنه من أشياء إيجابية على لسان الشخصية التي تقوم بالمسرحية، والجوانب السلبية وما يقع عليها من مكروه، وبذلك تترك لدى المتلقي خوفاً من أن يكون هو الشخصية.

المجتمع بكل اختلافاته يذهب بمدرك ليأتي بمدرك جديد عبر جيل جديد، وهذه هي دورة الحياة في الطبيعة، فالتفاحة التي سقطت على الأرض أوحت لـ(نيوتن) اكتشاف قانون الجذب العام، وبذلك تصاعدت وتناثرت الرؤى لتبشر بآفاق جديدة، وهذا يجعلنا ندرك أن للمسرح دوراً في الحياة الاجتماعية سواء في أطار ديني اجتماعي أو اجتماعي سياسي، هذا الإطار جعله يدخل في تثقيف الإنسان عبر محاكاته لأحاسيسه "فالمسرح يحشد الانفعالات ويدفعها في الآفاق الطبيعية والاجتماعية، فيجعل الإنسان واعياً لحب الخير العام وكراهية الضرر العام... المسرح يدرب النفس الإنسانية على إعادة تقدير مواقفها واعتماد العقل والمنطق أساساً للرأي والموقف، إنه يثير الإنسان ليتخذ الموقف السليم ويزوده بالحافز السليم لبناء موقفه".

ومن هنا تأتي هيكلية دخول المسرح في بناء المجتمع ثقافياً وسياسياً وتعليمياً، فالمسرح هو بنيان متكامل في المجتمع؛ لأنه لسان حال المجتمع.

لقد دخل المسرح كوسيلة تعليمية للفرد، باعتباره دراما لها أسسها الواعية، وهذه الوسيلة دخلت في تعليمها للصغار والكبار "فالدراما تسهم في إيجاد طفل سعيد ومتوازن"، مما يدل على دور التعليم الكبير في التربية والتعليم.

إن المسرحية التي تركز على حبكة مدروسة، وبناء درامي محكم، وشخصية نامية دافئة ذات حضور فني متميز ستكون "مسرحاً معلماً ومهماً وملهماً للأخلاق الفاضلة وترسيخ المعارف...". وبهذا؛ فإن المسرح يأخذ أشكاله العديدة ليؤلف عبرها مسائل شتى تُحاكي الفرد، باعتباره أحد بُناة المجتمع ليسهم في بناء وعي أخلاقي، وفق برمجة خاصة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها