ضجيج النرجيلة

علياء البنهاوي

جميع الأصوات اضطرت أن تكون خافتة. المذياع.. الأكواب.. الرمال.. الرياح الباردة، حتى هدير الأمواج و"كركرة" النرجيلة. ربما هي من طلبت من النادل أن يدفع بكل الأشياء إلى الصمت، ولم لا! فاليوم هي لا تريد غير الهدوء.

يبدو هو أيضاً كذلك، فقد ارتضى بالركن الدافئ الصامت والمهمل. لا يسلط عليه الضوء إلا قليلاً، ولا تهاجمه الشمس مطلقاً حتى في أيام اشتعالها.

رشف فنجان قهوته السادة ببطء قاتم. يتألم لمرارتها لكنه ارتضاها منذ زمن وسمح أن يحدث كل ما حدث، وشاهده بعينيه وصمت في سلبية أو قلة حيلة وربما ضعف. كان مثلما أطلق عليه الجميع نموذجاً رائعاً للتمثال الرخامي اللامع الذي يوضع لتجميل ميدان من ميادين الثورات الباطلة.

تطلق الهم من صدرها وتنفثه مع دخان النرجيلة. هذا الصباح ليس مثل غيره. أفرغت عقلها منهم جميعاً، أصواتهم البعيدة الآتية من الماضي رحلت عن أذنيها، ضجيج الخادعين الحمقى.. ثرثرة المعلمة.. اضطهادات خالها.. أبيها الذي كلما تذكرته ضحكت وبكت في آن واحد. رغم كل الخطايا، ما زالت تسكنها تلك الطفلة الخائفة والمترقبة التي طالما جلست بالمقعد المجاور لنافذة الفصل، منكمشة داخل (المريلة) مع أول يوم دراسي. كان العالم غريباً عليها، أحسته موحشاً وخانقاً بعيداً عن بيتها الصغير. كان على أبيها أن يلتزم بالوقوف بجوار النافذة القصيرة، مبتسماً ويطمئنها كي تعتاد الفصل والتلاميذ. كل لحظة تراقب المعلمة وعصاها الغليظة، يقفز قلبها بين ضلوعها وتهم بالهرب لكن وجود والدها ظل يطمئنها، فتهدأ وتندمج مع كراستها الصغيرة. كان يفعل ذلك كل مرة حتى رفعت وجهها في المرة الأخيرة فلم تجده أبداً.

لن تؤنب نفسها على احمرار شفتيها الدموي الفاقع.. فقد اختارته من بداية الطريق وعليها أن تستكمل. ارتبطت بالجلوس بجوار النوافذ، السيارات المتهورة.. القطارات الراحلة.. الحجرات المبتهجة بالأضواء الحمراء.

هنا أيضاً احتفظت بجلسة قريبة من نافذة المقهى المشرعة للهواء بشكل مؤلم.. هذا الصباح بارد، تجمد وجهها، أصابها احمرار في أرنبة أنفها، دعكتها بباطن كفها وأصدرت صوتاً خافتاً، لكنها تشعر باللذة وتسعدها النرجيلة بدخانها الساخن.

دخلت المرأة العرافة. ما الذي دفعها للدخول لهذا المقهى الصامت الذي يجمعهما! هي لا تدري! لكنها تؤمن أن كل شيء مقدر من السماء، نعم فهي تحمل في قلبها إيماناً يساعدها على فعل أشياء خيرة. هذا هو توقيتها بالضبط. تسرح صباحاً وترحل قبل الغروب. لم تجرؤ يوماً على طلب مواجهتها، ربما لأنها تعاني من الخوف منذ صغرها.

قالت:
- رؤية الطالع لا تفلح بعد الغروب، تجلب الشؤم.

تقول:
- ماذا يظهر في كفي؟

أمسكت بكفها وتمتمت بكلمات غير واضحة ثم فتحتها جيداً. تتأمل الخطوط العريضة والأخرى الصغيرة المتشعبة مثل شبكة عنكبوتية. هزت رأسها واستكملت. جفونها مثقلة بالحزن، كشفت الكف أكثر، استخرجت هي نقوداً من جيب معطفها ووضعتها لها في المنديل. قليل من النقود، كثير من الصمت. رفعت نظرها عن كفها، وقالت:
- سفر طويل .. تيه.. دخان.. وخط المنتصف قصير.

نهضت مجمعة أشياءها وغادرت المقهى مع سحابة الدخان والزبد القاسي، لم تتمسك بمناقشتها ولم تحزن لفقدها آخر نقود كانت معها، ولم تعبأ بدفع حساب المقهى.

ما زال يراقبها باهتمام من مكانه المهمل، نظر في مرآة المقهى المواجهة له، مسح عن شعره الأشيب بانزعاج وكأنه قد تفاجأ به.

همس لنفسه:
-لا بد أن أغير نوع الصبغة.

نفثت دخانها الأخير من أنفها ببطء.. رشف بقية بقعر فنجانه ثم وضعه مقلوباً فوق الطاولة.

تقابلت نظراتهما في هدوء مخطط .. ضبط نظارته الطبية حول عينيه، ثم نهض ودفع لها الحساب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها