"الشعر ديوان العرب وعنوان الأدب" هكذا قيل. ففي الشعر تتحدد خصائص وعلامات المروءة والفتوة وتزدري العيوب عن أصحابها، وقد سأل عمر بن الخطاب الحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ فقال: كنا ألف حازم نطيع قيس بن زهير ولا نعصيه، ونقدم إقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد. ومن هنا تتحدد وظيفة الشعر والشعراء التي يرجع إليها تسجيل بعض صفات القيم والأخلاق، وهما من ذخيرة الشعر العربي في التنفيس الحر عن الوجدان، فلا شعر دون أن تتغذى الذائقة الجمالية، وفي الشعر أيضًا تتحدد الدهشة، وكيف لا تظهر هذه الدهشة في قصائد من وادي عبقر، وقد أعاد كريم معتوق صياغة مفرداته بشكل غير مألوف، بتلك الشاعرية الفذة يأخذنا في معركة يطوف فيها حول شعراء الجن يسامرهم في معانيهم، ويجاريهم في واديهم حتى استطعنا رؤية عوالم تركيبية داخلية متعددة لكريم معتوق تصل هذا العالم الشعري بعوالم أخرى، تماست هذه التراكيب الدلالية أحيانًا مع تسريد القصيدة بتشكيل أبعادها الدلالية والبنائية للنص الشعري، وبأبعادها الخطابية بشكل عام، وبتشكلات نظامها في الأداء اللغوي.
وادي عبقر وشيطان الشعر:
تؤكد الأسطورة قديمًا أن كبار شعراء العرب مثل امرئ القيس والأعشى وغيرهما يتلقيان الشعر من شعراء الجن في وادي عبقر، حتى كانت فصاحتهما في الشعر من فصاحة الجن الذي لقنهما الشعر، وإليه ينسب كل شخص ذكي؛ فمن إحدى أساطير العرب، من وادي عبقر وساكنيه من الجن، هذا المكان الذي يسكنه شعراء الجن، يأتي كريم معتوق كمَن يأتي من هذا الوادي العميق متزينًا بزينة الفصاحة والنبوغ الشعري، وبقوة تشبه قوة هذا الوادي وساكنيه، يأتي بأدب شعري جمٍّ وبقوة شعرية بالغة، ليسألونه والاستفهام هنا لطلب الفهم، وربما في تعجب واستغراب كاشف عن عدم ذكره لمعتوق الأب في أشعاره؛ وقد ذاع صيته بين الشعراء، فقد قرؤوا عنه "أشعارًا.. عن الأم التي قد غادرت إلى الممات". فكيف يكون صاحب هذه الأشعار "ولم نلقَ معتوقًا بشعرك خالدًا"، ولا يخلد ذكر أبيه، لينتبه ويؤكد انتباهه الأفعال الماضية وتأثيراتها الحتمية في: "بادرت.. عفوًا". فيطلبون: "قيل: هات". فيُسْمعهم: "الأب الحاني تخلده صفاتي". فمَن ترك خصاله الحميدة في أبنائه لم يمت أبدًا. ولتنتبهوا: "كان بي شبه من العينين". و"لون سماره في حنطة العربي". وفي قوته: "معتدل بقامته الثبات". وهذا الأصيل الأمي: "يبكي لأخبار العروبة.. والذي مسَّ العروبة.. من ضياعٍ من كرامات يراها عاريات". وهذا المثقف الأمي: "يسمع لندن". و"يُطارد الأخبار". حتى "يغلبه النعاس". وتؤكد الأفعال المضارعة وجوب صفة الاستمرارية. صاحب هدوء واضح: "قد عاش في صمت كأني لستُ أذكر صوته.. والبحة الصغرى.. إذا اختنق الدخان بصدره والحشرجات". اسمعوا: في حنوه ليس له شبيه: "يحنو على غنم لديه كأنها الأبناء". أودعه الله الرضا: فـ"لا يقتفي حسدًا إلى أحد". ولا ينظر إلى أحد: "ما جره طمع ليملك واكتفى.. أن غادر الدنيا بلا دَيْن عليه". ويلقى الله راضيا محبًّا للُقياه: "تبسمت عيناه". وكأنما: "في الموت بدأ الحياة". ليتضح تأثير ارتباطات الأفعال الماضية والمضارعة، ورسمهما لإيقاعات سريعة في جعله متتبعًا لاستمراية الحدث والوقائع بمختلف أطوارها، لتساير الاتجاه الزمني لتحديد الدلالة التركيبية في تأكيد الغرض الأيديولوجي بطبيعة المعنى الخبراتي المؤكد للقيمة الخبراتية الواقعية المحددة من صفات الأب، ومن امتداداتها لصفات الابن الشاعر.
تتكون قصيدته الشعرية من هذه المقاطع الستة لـ"قصائد من وادي عبقر" ذات النسيج الشعري بغية إثراء صيغ جمالية متناسقة تتصل بعمارة المقاطع البنائية الشعرية المتتابعة فتأتي لغته الشعرية سلسة طيعة، وكذلك عصية عنيدة، لتعبر عن الهوية والعروبة والمنشأ، والأرض والذات والوطن، والحب والأم والحبيبة في جملة مقاطع يتضافر فيها النسيج الشعري، فلا شعر دون أن يكشف لنا الشاعر مواطن جماله وإبداعه؛ فمما قاله في دخوله وادي عبقر من جملة مقاطعه:
فدخلته يا عبقر الجن الكرام/ دخلته صبحًا وفي رأسي المساء/ .. سأسامر الجن العُتاة/ أُجنُّ، أبقى مثلهم/ أو أن أمر بثقلِ ما خفَّ المتاعُ كما أشاء/ .. ورأيت فيما قد رأيت كبيرهم/ بوقاره وعمامةٍ صفراء أو حمراء/ .. رحبتُ في صوتِ الذي لا يعرفُ الخوفَ القديم/ وقلتُ ما شرط المرور/ .. أومأت بالحديث شريعة ما بيننا/ أومأت هاتوا واعتدلت بجلستي/ للعبقرية جلسة/ تستحضر الإلهام سرًّا معلنًا/ .. أختارُ من كل البلادِ حبيبتي/ أرضُ الإماراتِ التي/ .. الجنُّ أعجبهم حديثي قال أكبرهم:/ صباحًا تترك الوادي هنيئًا/ فيما بين مفرداته اللفظية والتركيبية ومقاطعه الشعرية استطاع كريم معتوق أن يرتقي بمستويات مغايرة عما هو متداول، إذ يشكل كل مقطع وعاءً شعريًّا كاملاً محملاً بمدلولات وأفكار وفلسفات ومفردات متمايزة، لكنها تتشابه في التكامل والاتصال التركيبي لإنشاء مدلولات دلالية لغوية وغير لغوية متصلة.
اتسمت قصيدة "قصائد من وادي عبقر" لكريم معتوق بتعابير صادقة من شعر الفصحى يتضح فيها النفس الشعري الطويل من خلال السردية التعبيرية على شكل الفقرة النصية الواحدة؛ منها ما جاء قوله: فالشعر صوتٌ، سوف أُخفي فضلَ أشعاري/ بذاك القبر لن أُدني رضاه/ وليبق مني ما تركتُ الناس تحفظه/ وما ظلتُ به الأبناء رافعة/ فلقد نجح كريم معتوق في أن يمتلك قلب الشعر، ويلون حروفه الدلالية ليلقي بظلالٍ من عالم الأسرار والحكايات لمنحه أبعادًا متعددة لطاقات فنية توحي بالتكثيف الشعري.
التراكيب النحوية:
ومن الأدوات النحوية التي وظفها كريم معتوق كانت أدوات الاستفهام، وتعدُّ هذه الصيغة مستوًى نحويًّا مهمًّا يسهم في شعرية النص، وقد تحددت وظائفه في ربط العديد من العلاقات النحوية بين أجزاء الجملة التركيبية، وقد تم استعمالها في سياقات لغوية خاصة، منها ما تم على لسان شعراء الجن:
هل ترتدي شرف النزال/ وهل ستقترف المقال/ أم الضياع وحيرة العشاق تلتحف المنى/ ويقول: أتراه فصلا مرعبًا/ لا جارَ عندك في الظلام ولا أنيسَ/ وكل مَن أبقيتهم قد غادروا/ من بعد أن سكبوا على القبر المياه؟ وتفرقوا/ فأجبتُهم أنا في رُبى الإيمان/ تسكن رحمة الرحمن في صدري.
نجد أن البنى الشعرية للقصيدة قوية في مبناها ومعناها ترتبط بالدلالية اللغوية؛ لأنها اعتنت بالذاتية، فكريم معتوق لا يرضى إلا بكبيرهم من الجن، فعن جني وادي عبقر يلتفون؛ يتساءلون ويتدارسون أمر هذا الشاعر في العشق والهوى والموت والحب، فهو قد غُلّف قلبه وصدره برحمة الرحمن يعلم أولاده أفضالاً وتعاليم كثيرة، وربما يُعلّم وادي عبقر أنفسهم. حتى في جلسته تكون جلسة العبقرية؛ يعتدل كريم معتوق ويطلب: هاتوا ما عندكم/ فمَن يجاريه، إذ تتعدد ضروب التفاوت المنتظم في توزيع الصيغ التركيبية بين جني وادي عبقر وبين شاعرنا، فيستدعي إلهام شعره ويبارز ساحتهم، فهو لاجئ في الحب مؤكد لهواه التي تهواه وتحن إليه.
وتشير المستويات التركيبية أيضًا إلى صيغة أخرى تتحدد في ضمير المتكلم، ويحتل هذا الضمير مركز الشاعرية للإشارة إلى نفسه ولموضع ذاتيته بين معشر وادي عبقر من الجن؛ ومما يقول فيه كريم معتوق في مقاطعه الستة: رحبتُ في صوت الذي لا يعرف الخوف القديم/ وقلتُ ما شروط المرور/ لكي يمرّ العابرون/ ويكون لي من صحبة الوادي/ كبيرُ الجنِّ لا أرضى بأصغر منه/ فتشكلت بواسطة هذا الضمير العديد من العلاقات النحوية التي نظمت الجمل، والتي عبرت عن طور ذاتي وجوديٍّ أمام العديد من مختلف المكونات التركيبية التي حددت بدورها الخصوصية الفكرية والثقافية السياقية للدلالة الشعرية في جعل هذا الضمير على النمط المعهود؛ لإبراز مواضع الرفعة والغلبة والشموخ الذي يملأ وجدان الشاعر ولصفته الأعلى ولمَ لا؟ وهو صاحب الرأي والإرادة أمام شعراء وادي عبقر، وحددت أيضًا صور الارتكاز على درجة الإيحاء الذي يتعالق مع السياقات التركيبية الأخرى داخل المقاطع الستة، حتى تحولت الإرادة الفردية إلى مدارات العالم الجمعي بواسطة هذا الضمير وتحولت أيضًا إلى باعث لليقين الذي يحاول أن يرد الارتكاز إلى محور تاريخ الشخصية وإظهار ثقافتها.
تشكلات صورة الأب في قصيدة: "قصائد من وادي عبقر":
في أساس فكرة الخطاب الأبوي مجموعة من الأعراف والشروط اللغوية في استعمالاتها الذاتية، من خلال خطاب يدمج مجموعات من التساؤلات وأنماط متعددة من الأشكال الخبرية، بواسطة الأفعال الماضية والمضارعة في سياقاتها التركيبية، شكلت جميعًا صورة فقدان الأب في هذا المقطع الشعري، الذي يعتبر نقطة مضيئة، ارتكز حولها المفتاح النفسي الأول لكريم معتوق، الذي انطلق منه لمفتتحه الشعري، حيث كانت هذه الصورة أكثر قربًا لذاتيته؛ فمنها بُنيت الأحداث السردية الشعرية، وتشكلت الصور الوقائعية للحكي الشعري، فجاء معبراً عن مرارة فقد الأب، وبها كان محور التجربة الشعرية التي تُشكّل بجانبها باقي العلاقات الدلالية الأخرى من أساليب وأدوات ربط توكيدية؛ حيث يكشف كينونة فقدان الأب من خلال التركيز على محيط صورة الأب الداخلية والخارجية، وعلاقاتها بالهويات الاجتماعية تجاه الأبناء والأسرة وبالشخوص الآخرين، وكذلك مكانتها الاجتماعية البسيطة حتى يتضح لنا أهمية هذا البعد الاجتماعي، فقد شغل حيزًا مهما داخل هذا المقطع باعتبار شخصية الأب شخصية رئيسية للخطاب الشعري.
والعبارات المحملة بالقيم المرغوب بها من صدقه وأمانته وغيرهما للبنى الخطابية الشعرية عن صورة هذا الأب؛ قُدِّمت باعتبارها حقائق لا مراء فيها، فما إن يبدأ كريم معتوق حكيه الخبري السردي الشعري، حتى يبدأ الخطاب باكتساب صفة الحقيقة، بسبب إنتاجها لعلاقات القوة الأبوية الكاسحة التي تُشكلها صفات محمودة عدة تبدأ بصفات الحنان والرضا واحترام الجار والكرم، والحرص على العمل والعروبة والكرامة والقناعة، وما يصاحب هذه الصفات من طيبة وعفة وبساطة، فقد اتجه الشاعر إلى الأسلوب التوكيدي المباشر في تقديم شخصية صورة الأب؛ حيث قام بتقديمها من حيث تجسيد أفعالها وتشكيل أوصافها مستخدمًا ضمير الغائب، حيث يضع نفسه في زمان ومكان محددين؛ وقدمها بوسيلة الإخبار بأنها قوية وقادرة على التفاعل رغم السمت الهادئ الذي يميزها والصمت الدائم الذي يغلفها حتى أصبحت ذات رؤية تتمتع بالحضور والغياب والظاهر والمضمر، والثابت والمتحرك كل في آن واحد.
شخصية صورة الأب ذات مرجعية اجتماعية:
في هذا الجانب تحدد الفعال النصية من طرق الفعل والتفاعل الخطابي جوانب تقريرية لواقع يعلمه جيدًا، ولمعالم شخصية ثابتة ومرغوبة لصورة الأب، يشكل فيها الموت إطارًا أساسيًّا للحكي. تنتمي خلاله صورة الأب لطبقة اجتماعية معينة ومستوى اجتماعي معين، بمعنى أن الصفات الاجتماعية التي تتعلق بمعلومات حول وضع الشخصية الاجتماعي، وأيديولوجيتها وعلاقاتها الاجتماعية بمَن يحيط بها من هويات اجتماعية وكيفية تأثيراتها عليهم، جاءت لاستبطان حالات شعورية ثابتة وواضحة لصورة الأب، من خلال صفات قيمية مرغوبة مستدعاة، وهو ما أدى إلى تشكيل معالم صورة الأب وهوية الراوي أيضًا التي أضحت من بداية المقطع الشعري شخصية واحدة بما يجمعهما من سمات متشابكة ومشتركة إنسانيًّا ومجتمعيًّا، يتساوى فيها الحاضر والغائب لدى كل منهما وكأن الشاعر يعرض لأرضية قيمية واحدة بينهما. فالأب من الطبقة الفقيرة لكنه يتمتع بالعفة والنزاهة والرضا والقناعة، وهي صفات استطاع الشاعر من خلالها أن يحدد مستوى أعلى للأب هو مستوى الثقافة ونشاطه وأحب الأعمال لديه، وكذلك دينه وهواياته، وكان قد أُنتج عن هذا الضرب الاجتماعي ضرب آخر يتصل بالبعد الجسمي (الفيزيولوجي) لصورة الأب، ولهذا البعد أهميته في تحديد ملامح الشخصية، فهو البعد الذي رسم الكيان المادي والسمات الجسمانية الخارجية للأب، سواء كانت بطريقة مباشرة من: (سمرته- قامته الثابتة- ابتسامته- وجهه البشوش- عمره). أو بطريقة غير مباشرة استنبطت من سلوكها أو تصرفاتها مثل: (الفقر والثقافة وغيرهما)، الذي اهتم بتصوير الملامح الفكرية والثقافية لصورة الأب التي تتصل بالانفعال الفكري والثقافي، وكلما اغتنت ملامحها الفكرية كانت أكثر ديمومة وتميزًا، مما يحدد انعكاساتها، ويؤثر في ذلك على بناء التكوين الشعري كاملاً. كما أنتج أيضًا ضرب شعري ثالث وأخير هو البعد النفسي (السيكولوجي)، وهذا البعد من أهم وأصعب الأبعاد التي حددت مستوى صورة الأب؛ لأنها اهتمت بالصفات الوجدانية والخلقية، ومثلت كينونة الشخصية داخلياً من مشاعر وعواطف وسلوكيات ودواخل أخرى، وهكذا تجسّد البناء الفني بين لغة الخطاب الشعري في الإشارات الدلالية، ولغة الجسد من جهة والصفات الوجدانية والخلقية من جانب ثالث.