توظيف تقنية الرواية داخل الرواية على غرار متاهات "ألف ليلة وليلة"، بلغ قيمة عظمى في مسار المنحنى الإبداعي على يد الروائي البرازيلي "خوليو كورتاثار"، الذي اختط في روايته "الحجلة" نسقاً أدبياً مميزاً يثير البلبلة والتفكر والإدهاش، لينفتح في نهاية المطاف على صيرورة تحاكي رمزية المندالا. بالمقابل، تحولت الكتابة على هامش الكتابة في زمن الاستهلاك إلى جعجعة بلا طحين، تحاكي عزف مقطوعات بيتهوفن في لحن واحد يصدر ضجيجاً موسيقياً لا يمت إلى الفن بصلة، فيعنون وصول الكتاب إلى مرحلة الإفلاس الإبداعي والروحي.. فحين يصبح اسم الكاتب علامة تجارية، ويتحول الناشر إلى سمسار يفاوض الهيئات الأكاديمية المانحة للجوائز الأدبية، تغدو محصلة القراءة مماثلة لصدى ذلك الضجيج الصادر عن العزف المجتزأ لعدة مقطوعات موسيقية كلاسيكية ودمجها معاً، وهو ما ينطبق على رواية "الحياة رواية"، للروائي الفرنسي "غيوم ميسو".
تتميز روايات "ميسو" بحبكة درامية قوية، تستثير العواطف لحظياً، لكنها في الوقت نفسه، لا تخلف في الذهن أي صورة أو فكرة تقتنص دهشة القارئ، فتكاد تشبه الثرثرة اللطيفة التي يجريها المرء مع أقرانه عند التوقف بشكل عابر أثناء صدفة اللقاء. وهي ذات الملاحظة التي أطلقها النقاد على مواطنته "فرانسوا ساغان"، عند صدور روايتها الأولى "صباح الخير أيها الحزن" في ستينيّات القرن الماضي، والتي وصفت بالرواية العابرة المحملة بفكرة خفيفة تطفو في مخيلة القارئ، أثناء قراءته لها في وسائل المواصلات العامة، ليرميها عقب الانتهاء منها.

تبتدأ رواية "الحياة رواية"1 بتنويه مقتضب عن كاتبة غامضة تدعى "فلورا"، ألفت رواية "فتاة المتاهة"، ونالت عنها جائزة كافكا لعام 2009، دون أن تكشف هويتها الحقيقية للعلن، مما ضاعف الإقبال على قراءتها، وفق الآلية الطبيعية للنجاح، دون اكتراث للرواية نفسها، التي تعرض شظايا حياة وترسم صورة مؤثرة لعالم يضمحل. وينعكس هذا الاضمحلال بلغة الأرقام في تناقص عدد القراء الحقيقيين، وعدم اهتمام الناس بالمنجز الإبداعي، بل بالكاتب؛ بحياته وشكله، بماضيه وعلاقاته، وبالترهات التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي يهتمون بكل الأمور عدا القراءة نفسها. وفي حالة "فلورا" يجبرها اختطاف ابنتها الصغيرة على الخروج من مخبئها، ويحول حياتها إلى عرض ترفيهي، وأداة للتهكم والاستهزاء.
يتأتى تسليع الكاتب من خلال لعبة غميضة بسيطة تلعبها أم وطفلتها الصغيرة، تأخذ أبعاداً أعمق مع توغل "ميسو" في الاستطرادات والاستعارات الأدبية التي يتكئ عليها في حبك مصيدته. فيصبح اللهو سبباً لاقتحام حياة "فلورا" الخاصة وتعرضها للتنمر من قبل القراء والصحفيين الباحثين عن خبر استهلاكي مثير، لتمضي أيامها في ظلمة العقاقير المهدئة، وهي تترقب بيأس ما قد يحدث. فبين ليلة وضحاها، ينبش انتهازيون لم يسمعوا عنها من قبل، ولم يقرؤوا أيا من رواياتها، ولم يفتحوا حتى كتاباً طوال حياتهم، عبارات مبهمة داخل رواياتها، ويعمدون إلى تحريفها، بغية تركيب فرضيات رعناء تتحلق حول إدانتها باختفاء طفلتها. بالمقابل، تنصقل شخصية المحررة "فانتين" وتتلبس تدريجياً بإهاب "فلورا" في تماه بين المؤلف والناشر، والذي يتوافق فيه استثمار الاسم مع الزهد الإعلامي واكتفاء المؤلفة بحياة الظل.
وبعد محاولة "فانتين" تسعير هاجس الكتابة عبر استثمار مأساة اختفاء الطفلة، تدخل "فلورا" كهف الظلال الأفلاطوني، لتدرك أنها تعيش كذبة كبيرة، تعجز معها عن التمييز بين العالم الحقيقي والخيالي. وحين لا تتبين الفرق بين الحلم والعيش تستعيد عبارة بورخيس "الحياة ليست سوى صباغ"، لتصبح دمية في يد المؤلف "رومان أوزورسكي"، الذي صاغ حكايتها كمعادل لمأزقه مع زوجته السابقة التي اختطفت ابنه الوحيد "ثيو"، وأخذته معها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، يختلق "أوزورسكي" لنفسه عالماً موازياً كي "لا يفنى في عالم الآخرين"، متسلحاً بهذه العبارة الواردة في يوميات "أناييس نين"، منتشياً بتشييد عالم بديل يتجاوز واقع العنف، الذي تبدى برحيل "ثيو" مع أمه.
وعلى لسان "أوزورسكي" تتوالى الاستعارات الأدبية الموظفة لخدمة "ميسو" واستعراض ثقافته الواسعة، فيتكئ على مواطنه "فلوبير" في تعريف تقنية الهروب إلى عالم مواز، والتي تبدأ كمتعة لتتحول إلى منظم ومخدر للحياة. ليتخذها معبراً للتطرق إلى الصعوبة في الاستمرار بكتابة المزيد من الروايات، والتي تتعدى الموهبة إلى تملك قدرة خاصة، ثم يحط رحاله عند "كونديرا" الذي يرى في الرواية فخاً منصوباً للبطل، وبالتالي مسوغاً لتزامن قصة انتزاع الطفل في حالتي "فلورا" و"أوزورسكي" بوصفها الدعامة الواقعية الوحيدة في حياتيهما، والعروج منها نحو جنون العصر الذي يسير على طريق الخراب بفعل تأليه الإنسان وتقديس الطفل. وهو ما يسوغ للناشر تجريد المؤلف من حياته الطبيعية وتحويله إلى عبد للاستهلاك الفكري، يكتب تحت الطلب بدون استراحة، وتحت حصار نفسي وروحي، بينما يعيش الناشر كإمبراطور، يتباهى بثروته المتأتية عن جهود الكتاب.
تتجلى التخمة التي يبلغها غرور "أوزورسكي"، في دخوله كنيسة تضرعاً لاستعادة "ثيو"، الذي خسره بفعل تلويث الانقضاض المتكرر للخيال حياته العاطفية والعائلية، فيأخذ على نفسه عهداً بالتوقف عن الكتابة إن استرد ابنه. ويعترف بكونه نصب نفسه "الديميوغورس" خالق العالم المادي في الفلسفة الأفلاطونية، ليتحدى خلال سنوات طويلة، إلهاً لم يؤمن به، فيبني عالمه في عشرين رواية، لتعادل الكتابة تحدي برمجة العالم وترتيبه، ومواجهة عيوبه وعبثيته بالكتابة. ولكن عودة "ثيو" تدفعه لإظهار الوجه الثالث للمرآة، والذي يتجسد في تضخم الذات. فبعد أن أصبح يقرأ من خلال الاسم فقط، قرر "أوزورسكي" مواصلة لعبته مع القراء من وراء قناع، واختار الولادة مجدداً عبر انتحال شخصية كاتب إنكليزي مجهول، وتقديم مخطوطة رواية "فتاة المتاهة" لـ"فونتين"، التي تستبدل الاسم بـ"فلورا".

1. "الحياة رواية"، غيوم ميسو"، صدرت عام 2020 بالطبعة الفرنسية، ونشرتها دار انطوان هاشيت عام 2021 بالطبعة العربية.