هاتفتُ أصدقاء العمر، لربما أجد صورًا لي من الماضي معهم!
- من أين نعثر لك عمّا تسأل؟ ألهذا تتصل!
للحقيقة، البعض منهم، لم يوفّر جهدًا، فلقد تحصّلت على بعض ما طلبت، أمّا البعض الآخر، فقد ظنّوا بي الخرف! لم أعتبر ألبوم الصور كاملًا كما أشتهي، ولكنّه جيدٌ، فقد استطعت أن أعيد تركيب الماضي إلى حدٍّ ما.
هكذا أصبحت أجلسُ في خلوتي، لأمارس طقس التذكّر، هنا صورة لي، وأنا في رحلة إلى تدمر، وأخرى لرفاق لي في التعليم الثانوي، وهذه أول حلاقة على الصفر لشعري عندما خدمتُ عسكريتي. أمّا صور طفولتي، فكانت تمنحني ذاكرة مرمّزة بالحنان والشوق، لكنّها بلا أفكار واضحة لأعيد صياغتها، وخاصة عندما كنت في طور الرضاعة: آه يا أمي، لو أنّك مازلت على قيد الحياة؛ لكنتِ أسعفتني بما أريد.
يقول أبي: ما بكَ يا مجنون، وهل تركت لنا الحرب الدائرة الكثير لنتذكّره؟ أمّا البقية من عائلتي، فقد خمّنوا بأنّ هناك مشروعًا، أعمل على إنجازه.
ماذا أقول! لم يبقَ لي شيء آخر غير التذكّر، والباقي من حياتي بأجمعه متشابه، بطريقة تدعو للدوران حول نفسي، وفقدان الوعي.
لم أكن أستطيع أن أعدّ السعي وراء لقمة العيش وتأمين بيت وتأسيس أسرة، هو حقًا ما يملأ الحياة بهجة وانشغالًا، ونسيانًا، وحزنًا، وفرحًا، بحيث يصبح وضع الرأس على المخدة في نهاية اليوم، هو المشتهى. لا بُدّ أنّ هناك شيئًا آخر مفقودًا، يربط بين تلك الذكريات المبعثرة ويخرجها من العادة القاتلة إلى رغبة في يوم جديد! أعترف أنّني أصبحتُ كالبقرة التي تعود من المرعى مساءً؛ لتقضي الليل كلّه وهي تجترّ العشب.
لو أجري وراء الكرة حتّى تتكسّر قدماي في ساحة القرية، وأعود إلى البيت متسخًا وأنال نصيبي من الصفعات الحنونة من أمي، فالأمهات عندما يضربن! يضربن بحبّ. إنّني أحنّ إلى بعض تلك الكفوف وصراخها: ألم أقل لك، لا تلعب بثياب المدرسة ثانية. ولكنّها عندما تجرّني إلى الحمام من أذني، وتسكب أول طاسة ماء ساخن، تبدأ بالغناء.
أشتاق إلى أنْ أستيقظ صباحًا لأجد حبّ الشباب وقد انبثق في وجهي، فأعمل على تنظيفه، وأنا أنظر إلى شفرات الحلاقة العائدة إلى أخي الكبير، فأهمس لنفسي: الحلاقة هي الوسيلة الناجعة للقضاء على حبّ الشباب. ومن ثم أسرّح شعر رأسي بمصفّف الشعر، فأسمع أبي يقول: ما هذا الوسخ الذي تضعه على رأسك! أتجاهل كلماته وأهرع إلى الشارع، أنتظر قدومها على زاوية الطريق، فقط لتسلّم عليّ، ومن ثمّ نتمشى صامتين باتجاه المدرسة، فهكذا أكون قد جهزّت ما يلزم لأنام ليلتي، وأحلم بغدٍ يفكُ صمْته الكلام.
ماذا حدث لك أيّها القلب؟ لماذا لم تعد تجيد غير ضخ الدماء؟ إنّك كوظيفتي والطقم الذي ألبسه! إنّك جامد كتمثال، لا تقارن أيّها القلب، أبدًا، بأيام بنطال الجينز وT شيرت وحذاء الرياضة، ففي تلك الأيام كنتَ تصهل كحصان في داخلي، وتدقّ بحوافرك على قفصي الصدري.
هل أصبحت عجوزًا هرِمًا؟ لكنّ وجهي لم يتغضّن جبينه بعد، ولم تتسع صلعتي! هذا ما تقوله بطاقتي الشخصية، فأنا في العقد الرابع والمعنى: شباب! إذن؛ لمَ لم يبق لي غير الصمت والتذكّر؟ هل أنا غير سوي؟ يخيفني السؤال!
أمضغ كلّ شيء ببطء سلحفاة، مبتسمًا، كأنّني قد وضعت ملقطي غسيل على وجنتيّ؛ كي أحافظ على بعض ابتسامه، فلست قادرًا على تحمّل تلك النظرات المستفسرة من الآخرين، ولا أستطيع الشرح، فمنذ زمن بهتت ألواني، وبتّ أقوم بكلّ أعمالي بشكل نفّر الآخرين منّي. "أربعون حولاً- لا أبالك - يسأم"؛ أضحكتني المقارنة جدًا مع بيت زهير بن أبي سلمى، فرحتُ أسعل من كثرة القهقهة لتلمع في ذهني فكرة قد تجعل الحياة أقل رتابة؛ أو لنقل متفجّرة كنبع في الربيع. أخذت نفسًا عميقًا وسعّتُ به أفق الشباك الذي أطلّ منه على الشارع الفرعي في مكان عملي. نحّيت جانبًا كل تلك البنايات التي تنتصب أمامي. مددت المدى وأخرستُ الزحام وأنا أدندن أغنية شبابية، نقّيت الهواء من حولي بياسمينة وشجرة ليمون في خيالي، ومع البرودة التي تنساب من البحيرة الصغيرة في ساحة المؤسّسة، ابتسمت لزميلتي بدون ملاقط غسيل على الوجنتين: أراكِ غدًا!
يجب أن أحبّ، أن أعشق، أن أهيم، من إذن؟ زميلتي في العمل، السكرتيرة! ولكنّني لست مديرًا لتقع في غرامي! أو مراهقة كـــــ(لوليتا) للروائي نباكوف، لكن من أين أجد امرأة مطلقة أو أرملة لأتزوّجها ومن ثم تغرم بي ابنتها! ومن أين لي الشجاعة لأقتل أمّها! لست قاسيًا حتى إنّني أخاف من منظر الدم، وهذا ما عطّل على أبي حلمه، بأن أصبح طبيبًا. ضحكت من كلّ قلبي على تلك الأفكار حتى من كان معي في الباص، قد ظنّوا بأنّني مجنون.
لم أذهب إلى البيت مباشرة، قصدت تلفونًا عامًا مع أنّ جوالي معي، واتصلت بإحداهن، وقلت جملًا كثيرة دون أن أنتظر الإجابة خاتمًا كلامي: بعد نصف ساعة، لا تتأخري!
تنقل ساعتي عقرب دقائقها بكلّ تأنٍ، فيما أنظر إلى مينا الساعة الذي تآكل لونه ومعدنه. مضت عشرين سنة وأنتِ في يدي؛ كانت ليلة حمراء عندما أهدتني إياها. انقضت ربع ساعة على الوقت المحدّد، إنّه الزحام، هذا ما فكّرت به، سوف تأتي بلا ريب. جلستْ قبالتي على الطاولة ملهوفة ووجهها يحمل ألف سؤال!
- ماذا تشربين؟ أو بالأحرى ماذا سنأكل؟ وبوجهٍ يكاد يلتهمني لينطق غاضبًا من الهلع الذي سبّبته لها. ولكن قبل ذلك، نظرتُ إليها بعينين تعودان إلى عشرين سنة خلت، وقلت: أحبكِ ...
رنّ الخلوي.
- أين أنتما؟ هل حدث شيء؟
فأجيب: لا شيء يا ولدي، ولكنّني دعوت أمّك إلى الغداء.
أغلقت الألبوم.