سيميائية الأنساق السَّردية في الحكاية الشفوية بالمغرب

 الدَّلالَةُ والتَّداوُلُ

د. محمد دخاي

تُشكِّلُ الحكايةُ الشَّفوية في الموروث المغربيِّ منطلقاً لقراءات سيمائية ومادة للبحث الأكاديميِّ، ليس فقط باعتباره أحد الأشكال التَّعبيريَّةِ المَنسيَّةِ، ولكن لاعتبارات ترتبط بأفق قراءتها، ليس فقط على المستوى الموضوعاتي بحكم أنَّها في بعدها الواقعي تقدم رؤية ترتبط وتضم العديد من الرموز، التي تجسد العديد من محمولات الإنسان الثقافية، وكذلك على مستوى التلقي النقدي المرتبط برد الاعتبار لإصلاح وضع الثقافة الشعبية في المغرب، والاهتمام بالسرد الشفاهي سواء من منطلقات لسانية تتبنى مفاهيم علم الدلالة والسيمائيات وعلم الاجتماع ونظرية الأدب، على أساس أن السرد الشفاهي ومن خلال الحكي نتاج اجتماعي، يبني نفسه لسانياً عبر عناصر لغوية تتكرر في الحكي يكون لها وزنها الدلالي في النسق الثقافي، الذي أنتجها والتي تبين ما يجري بتحولات المجتمع.


وكذلك من منطلقات جمالية التلقي من خلال تحليل المرجعيات L’énonciation، أي من خلال العلاقة بين الراوي والمتلقي وتداولية الحكي وبلاغته في بناء المتن ودلالاته السوسيوثقافية، وما يرتبط بها من فضاء الالقاء وبنيات الزمن وزمن الحكي والعلامات اللَّسانية وغير اللِّسانيَّة وتأثيرها في بناء المعنى، فهي تملك بنية إيقاعية لسرد أحداث متخيلة تعود إلى اللاَّشعور الجمعي، أو من منطلقات سيمائية كنظرية دلالية تشتغل على أشكال استيعاب وإنتاج المعنى، وإعادة صياغة الخطاب ودلالات تواصله، باعتباره نصّاً يشتغل كذاكرة إيدولوجية، ويقترح على المرسَلِ إليهم نماذج معرفية modèles cognitifs إلزامية déontique وجمالية مصاغة، وكذلك من منطلقات وصفية ترتبط بموضوعات المتن فقط، كأحد أهّمِ الانتاجات الثقافيّة والاجتماعيّة والفنيّة، التي تحمل وقائع ومجريات حياة الناس وتعبر عن انشغالاتهم، ويتم توارثتها جيلاً بعد جيل شفاهياً وتلقائياً، أو من منطلقات وظيفية تشتغل على أشكال الحكاية وجماليتها ولحظة إنتاجها وأشكالها التعبيرية المرتبطة بقضايا السرد الشفاهي، وتدوينه وما يطرحه من قضايا ترتبط بصعوبة الاستعمال المنهجي بالتحول من حيز أنطولوجي، يرتبط بالذاكرة والحكي الشفاهي المتضمن للعرض الحكائي، القائم على مكان وزمان التلفظ وعناصر التفاعل والانفعال، بين الرواي والمتلقي إلى نظام سوسيولساني يرتبط بالنص المكتوب .
النَّصُّ الشَّفاهي بنية لسانية وثقافية مشتركة بين الناس جميعاً في إلقاء الحكي وتلقيه، لكن حضوره كنص مكتوب يراعي أن تكون اللغة نمطاً سيميائياً موسعاً macro sémiotique، وبالمعنى الذي يستعمله كريماس على اعتبار أن السرد الشفاهي ينطلق من كونه لغة طبيعية، وأن اللغة الطبيعية لا ترتفع إلى مرتبة اللغة إلا بفعل إحساس خاص بالجماعة، فالإنتاج الشفوي بالمغرب إنتاج ينطلق من رمزيته التي يتعدد فيها السنن اللساني والثقافي، وهو ما يتأكد على مستوى تعدد اللغات المستعملة، أي ما يسميه الأستاد أحمد بوكوس بالسوق اللسانية Marché linguistique1.
وبخصوص التحديد الجناسي للحكاية في مقابل الرواية والقصة، فهي تحضر هنا كمصطلح يحيل على المحكي غير الواقعي، ذلك أن هدف الحكاية هو التسلية بحكم أن قيمتها توجد في أسلوبها الساذج واللاذع، وفي حكي وقائع لا تملك أي أسس حقيقية، أما الرواية فهي سلسلة من المغامرات الخيالية الخاصة بإثارة الاهتمام والخوف والرعب وغالباً الانفعالات، إنها تقريباً من إبداع الخيال المعاصر، أما القصة فهي رواية قصيرة كانت ستشكل رواية لو لم تقترب بمغامراتها المعقدة وهدفها الانفعالي من الرواية2. علماً أن عنصر التسلية الذي أصبح يلازمها كعنصر قطعي ليس من ثوابتها البنيوية الخاصة؛ لأن تحقيقه لا يتم إلا بتحقيق الابتهاج النفسي والفكري لدى المتلقي.

تداولية المتن الحكائي : حكاية الشيطان والعجوز

يُحكى أنَّ الشَّيطانَ لعنه الله كانَ يأتي عند قرية من أجل أن يفتن أهلها، وهذه القرية كان يتواجد بها فقيهٌ عالمٌ مؤمنٌ يعلمهم ما قال الله وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الشيطان: إذا بقيت هذه القرية في هذا الصلاح فمن سيدخل معي جهنم؟ لابد لي من ابتكار حيلة ما من أجل إفسادهم.
فيأتي بأعوانه فلا يستطيعون شيئاً أمام إيمانهم القوي، فيقطع الشيطان رؤوسهم إلى أن بلغ أربعين شيطاناً من أعوانه.
وذات يوم التقى بعجوز شمطاء تمشي على ثلاث (يعني العكاز) فسألته: ماذا تفعل هنا؟
فقال لها: أريد أن أشتت شمل هذه القبيلة وأبعدهم عن الإيمان.
فقالت: وإذا فعلت ماذا تعطيني؟
قال لها: اطلبي ما تمنيتي الآن قبل أن تفعلي.
قالت: أريد بغلة ولباساً وسأفعل ما تريد.
فقال: المهم في هذه القبيلة هو الفقيه العالم وزوجته فإن قدرت عليهما هان الأمر لك.
قالت: هذا أمر سهل.
ذهبت العجوز عند زوجة العالم وقالت لها: السلام عليكم
ردت المرأة: وعليكم السلام
فقالت العجوز: ما هي مهنة زوجك؟
قالت المرأة: هو فقيه عالم
قالت العجوز: لن أخفي عنك الأمر يا ابنتي فزوجك متزوج من امرأة أخرى.
صدمت المرأة: وولولت، لكن العجوز هدأت من روعها وأخبرتها أنه باستطاعتها مساعدتها وتطليق الزوجة الثانية منه .
قالت المرأة: وكيف ذلك؟
ردت العجوز: أريد منك أن تحضري لي سبع شعيرات من لحية الفقيه زوجك، انتظريه حتى ينام ثم اقطعي الشعيرات بالسكين، وهذا كفيل بإبعاده عن الأخرى.
شكرت المرأة : العجوز وعزمت على تنفيد ما أخبرتها به.
ذهبت العجوز هذه المرة عند الفقيه العالم (الزوج)، وابتدأت بالسلام وقالت: هل أنت هو الفقيه؟
قال: نعم
قالت له: إن زوجتك تريد قتلك
قال لها: أنت تكذبين فزوجتي امرأة تقية تصلي وتعرف ربها
قالت: أقسم لك أنها ستغدر بك وتقتلك
قال: وما دليلك؟
قالت: إذا لم تصدقني، تظاهر اليوم بالنوم وستراها تحمل سكيناً تريد قتلك به.
وفي المساء استلقى الفقيه على فراشه وتظاهر بالنوم، جاءت الزوجة وهي تحمل سكيناً تريد قطع السبع شعيرات من لحيته وهي تعتقده نائماً، أما الفقيه فقد اعتقد أنها تنوي قتله فأخذ السكين منها وقتلها.
عند ذلك ذهبت العجوز إلى أهل الزوجة وأخبرتهم أن الفقيه قد قتل ابنتهم دون ذنب، فأتوا بعصيهم مجتمعين للنيل منه وأخذو في ضربه حتى الموت، فما كان من العجوز إلا أن ذهبت إلى أهل الفقيه وأخبرتهم أن أنسباءهم تحالفو ضد ابنهم وقتلوه دون ذنب، فاجتمعوا وأخذو أسلحتهم وذهبوا للثأر ممن قتل ابنهم، وما هي إلا لحظات حتى قتل من قتل وشب النزاع والخلاف في القرية بعد أن كانوا قوم صلاح وإيمان وتقوى.
ذهبت العجوز إلى الشيطان لتأخذ ما وعدها به، فأخذ الشيطان قصبة طويلة وعقد في نهايتها رزمة الملابس التي أرادتها العجوز ومدها إليها، فسألته أن يقترب منها فقال: لا، لقد أحرقتني نارك وأنتِ بعيدةٌ فكيف إذا اقتربتُ منكِ؟

الأنساق السردية في حكاية الشيطان والعجوز: الدلالة والتداول 

إنَّ تداولية الحكي الشفوي من خلال نموذج حكاية (الشيطان والعجوز)، كإحدى الحكايات الأكثر تداولاً بالبادية المغربية وبجميع مناطق المغرب، كنص شفوي ملتقط ميدانياً وكفضاء حكائي يستدعي استبعاد البحث في أصوله التاريخية أو الجغرافية بسبب صعوبة التوثيق، ثم إنَّ النموذج المقترح للدراسة النقدية لا صعوبة فيه من ناحية تأويل سياقاته الثقافية، رغم بعده التخييلي والعجائبي، لكن مع ضرورة الانتباه إلى اختلاف صيغته المكتوبة كنص أعيد إنتاجه كتابة، مما يعني تعدد القوالب الأسلوبية التي تناولته واختلافها اللغوي بحكم انتقالها من نصوص شفوية إلى نصوص لغوية، أو كمتن يتيح معالجة السنن الدلالي الملازم للنسيج الحكائي وكذلك البعد التلفظي في المحكي.
ثم إن حكاية (الشيطان والعجوز) حكاية عجيبة وهي إحدى مظاهر الحكي الشفوي الشعبي، الذي تم إهماله في البنية الثقافية الحالية ليس باعتباره جزءاً من الذاكرة الشعبية والماضي الثقافي فقط، ولكنه خطاب قيمي يمتد حتى عصرنا بحكم أن الحكي المستعاد في سمته الفولكلورية تلك، لا يمثل القديم والأصيل بل هو جزء من الراهن الثقافي الجديد، بعد أن فسحت له الثقافة المستوردة فرصة التواجد مجدداً بعد أن كان مجرد مستودع أثري لمجتمع فاتر الحياة3.
وعلى الرغم من صعوبة تصنيف الحكي الشفوي وذلك في إطار خطاب نظرية الأنواع الأدبية، بحمولتها العلمية القائمة على أسس منهجية ومفاهيم؛ فإن حكاية (الشيطان والعجوز) يمكن تصنيفها باعتبارها إنتاجاً ثقافياً إنسانياً، ونموذجاً سردياً حسب تحديد غريماس أي خطاباً حكائياً ذا طابع تصويري يتضمن مجموعة من وظائف أو أعمال وهو ما يمكن تحديده في تصويريته وزمنتيه في نفس الآن، ثم لأن التصنيف يعد منطلقاً أساسياً يساعد الباحث على الوصول إلى بنية النص كمتن حكائي يتضمن العديد من أنساق الدلالة، دون نسيان أن دراسات (فلاديمير بروب) كانت موجهة أصلاً لقراءة المحكي الأدبي المكتوب كالرواية والقصة.
على مستوى البناء الحكائي فإن حكاية (الشيطان والعجوز)، حكاية مؤطرة لحكايات صغرى بداخلها تنطلق مما يلي:
- حكاية أولى تبرز لقاء الشيطان بالعجوز، وعجزه عن غواية القرية وإخراجها من إيمانها، وفشله رفقة جنوده، واستعانته بالعجوز من أجل تحقيق مراده عبر عالم القرية وزوجته.
- حكاية ثانيةٌ، وتبرز بداية اشتغال الخطة التي نسجتها العجوز عبر تجريب الأمر مع زوجة العالم، عن طريق إخبارها بكيد زوجها وزواجه عليها. 
- حكاية ثالثةٌ وتزكي استمرار الخطة في الجهة الأخرى مع العالم وإخباره بكيد زوجته.
- حكاية رابعةٌ وتبرز بطش العالم بزوجته، وانتقال العجوز إلى أهل الزوجة لإخبارهم بمقتل ابنتهم، من أجل الانتقام وتحقيق مراد الشيطان بإيقاع الفتنة بالقرية وأهلها.
- حكاية خامسةٌ وأخيرة، وتُبرِز توجس الشَّيطان من العجوزِ ومَكرها، وعدم قدرته على مجاراة مكائد ودسائس النساء.
ولتحديد النمط الذي تنتمي إليه فهو النمط المعكوس التوازي Type en sablier، ويعني فتح المسار السردي عن طريق التناوب بين الشخصيات، فرغم قدرة الشيطان كشخصية تنتمي إلى عالم الجن على غواية الناس، فقد عجز الشيطان عن غواية قرية، فاحتاج إلى التعاقد مع عالم الإنس ومع عجوز شمطاء لا قوة لها إلا ذكاءها الخارق، وهو النمط الذي يحدد البعد العجائبي أو الخُرافي، الذي يسلكه السارد من أجل بناء المتخيل السردي كفكر (يحيط بالإنسان من كُلِّ جانب، دون أن يكون ابتعاده عن الواقع عبثاً أو خالياً من الدَّلالة، ولكن على العكس يمتلك حججاً لوجوده، لكن فك رموزه أسطورياً وبنيوياً لا يظهر أية مقدرة لتحديده بشكل كلي، وهذا ما يَجعلُه لغزاً جميلاً يحمل معنى التفكير والحلم)4.
​الحكاية يمكن تصنيفها في باب الحكايات العجيبة، وهي التي يقوم فيها الجن والشياطين والغول بدور البطل، يعتمدها السارد لبناء وتشكيل المتخيل لإبراز الصراع الموجود بين المتخيل والواقعي، أي ما يحث القارئ على البحث والمحاورة حول طبيعة اللبس الذي يكتنف ما هو طبيعي وواقعي، في حين أن العجائبي يبقى عالماً (يفتننا ويستدرجنا لرؤيته والاستمتاع به دون أن يثير فضولنا لأننا نتقبله بسهولة)5، وهي حكاية مركبة ذات نموذج تصاعدي، وتنطلق من حالة النقض التي يعرفها الشيطان بسبب فشله في غواية القرية، وهو ما سيتم تعويضه من خلال العجوز كعنصر دينامي في الحكاية، يبني مكونات حكائية جديدة بين السارد والمتلقي، وهي أيضاً مجموع الوحدات السردية التي يؤطرها تحرك البطل/ العجوز، بين الشخصيات المؤطرة للحكاية بكل أبعادها النفسية والاجتماعية، من أجل الايقاع بها طلباً للفتنة والشر في القرية، وهي شخصيات نمطية وافتراضية، فالشيطان شخصية لا تتكرر، والقرية عالم مفتوح على فضاء غير محدود، والعجوز نموذج للدهاء والمكر البشري الذي يفوق الشيطان، حيث يستحضره السارد بكونه ملعوناً وهي من الصفات التي يستحضر بها في الوعي الجمعي؛ لأن السارد هنا ليس إلاَّ صوتاً من الأصوات الناقلة للمجتمع، يوجه منطوقه السردي من الاقناع وإيهام المتلقي أو المتلفظ إليه بحقيقة ما يرويه.
النص الحكائي المقترح للدراسة في نموذجه المدون يقدم متواليات سردية مترابطة وفق منطق حكائي ينهض على التشويق، ويقوم خلاله السارد بتقديم الشخصية المحورية، الشيطان في علاقاتها المحورية بالعجوز وتحولاتها في الزمن والمكان، لبناء عوالم حكايتها المبنية على القيام بما عجز عنه إمام العالم وزوجته، وهي رؤية لا تختلف عن ما قدمه فلاديمير بروب في كتابه مورفولوجيا الحكاية الشعبية، والذي اهتم باستخراج شبكة العلاقات الشكلية التحتية للحكايات، لينتهي إلى اكتشاف أن الأفعال actions، التي تملأ الحكایات بالإمكان تحديدها على عکس تعدد الممثلين acteurs، والاختلافات المكانية والزمنية المؤطرة للعالم الحكائي أو كما أظهر ليفي ستراوس، بأن هناك إمكانية أخری مزدوجة لقراءة الأساطير لقراءتها بطريقة خطية، بوصفها توالي أحداث، وانطلاقاً من مقاربة بعضها لبعض على مستوى الارتباطات السردية. 
إن البحث في دلالة ومحتوى الملفوظ السردي يعطي إمكانية إنشاء دلالات للحكاية العجيبة، انطلاقاً من المنظومة التركيبية للسرد، وكذلك من العلاقات التقابلية العميقة الموجودة بين الصور figure في الحكايات، وهذا يعني رؤية أخرى للتحليل الدلالي كقراءة عمودية، وحسب المحور الاستبدالي: تكون مستقلة عن علاقات التتابع المنطقي لأساطير قد تخفي دلالة ذات أهمية كبيرة، لا تظهر إلاَّ من خلال فحص السيرورة السَّرديَّة بغاية تحديد النسق الدلالي، من أجل الوصول إلى سنن تصويري للوحدات المتمفصلة داخل العالم الطبيعي والمختارة من طرف ثقافة معينة من أجل إظهاره، وفي هذا المعنى وكما عند غريماس بأن السنن نفسه يمكنه أن يشير إلى عدة فضاءات أسطورية مقارنة تتمظهر بطرائق مختلفة، بشرط أن يكون السنن جيداً وأنموذجاً عاماً.
إن استخراج الصور من الحكايات العجيبة وربطها وفق مقابلة استبدالية، انطلاقاً من عملية وصفية ترتكز على مبدأ التمدد extraction والاختیار sélection والتشاكل، مما يعني أن هذه الصورة الموجودة في المتن الحكائي ليست اعتباطية؛ وإنما ثمة سنن تصويري -كما يشير إليه کورتاس- يسمح لنا بإعطاء معنى لهذه الصور، ذلك أن أغلب الدراسات التي اشتغلت على الحكي انتهت إلى أن العناصر الأساسية للحـكي كالقصة والخطاب والنص، انطلاقاً من مرجعيات لسانية محضة كما هو الشأن مع (رولان بارت)، في تحليله البنيوي للحكي منطلقاً من الدراسات السابقة لتحليل الخطاب عند كل من (بنفست وهاريس وروفي)، مشيراً إلى استحالة تقديم نظـرية لسانية للخطاب لصعوبة إيجاد مماثلَةٍ بين الجملة والخطاب6.
لكن (رولان بارت)، يرى أنها حكاية ثابتة بين اللغة والأدب من خلال سياقات الحكي المتجلية في المقولات الرئيسة، سواء فيما قامت به البويطيقا أو من خلال تحليل غريـــــماس المتجلي في النمذجة العاملية، فرولان بارت جسد ما تحمله اللسانيات في التعامل مع المحكي، والتي تصف الجملة على المستويات الصوتية والنحـوية والفونولوجية، وذلك من خلال مرجعية التحليل عند تودوروف، الذي انطلق من الشكلانيين الروس فيـما يخص التمييز بين القصة والخطاب من ناحية، والجهة والزمن والصيغة من ناحية أخرى.
وتحليل الحكي من الناحية اللسانية يكون من خلال ثلاثة مستويات: الوظائــــــف والأحداث والسرد المرتبطة فيما بينها، (فالوظيفة لا معنى لها إلا لكونها تأخذ مكاناً ضمن الحديث العام للعامل)7، وتتعدد مرجعيات التحليل في انطلاقها عند (رولان بارت) من فلاديمير بروب فيما يخص الوظائف والأحداث من غريماس، والسرد الذي يأخذ معنى الخطاب عند تودوروف.
وما يلاحظ هو تداخل المستوى الأول والثاني عند بارت من خلال ما يسـميه تودوروف بالقصة، وذلك فيما بين الوظائف والأحداث من علاقات تتصل بمادة الحكي كما قلنا سابقاً.
جيرار جينيت الناقد الأدبي حاول طرح مشاكل تعريف مفهوم الحكي من خلال علم السرديات، والذي يحضر من خلال ثلاثة استعمالات:
- الحكي بالملفوظ السردي وهو استعمال عادي.
- وصف الحكي كمتوالية من الأحداث سواء كانت واقعية أو متخيلة كتحــليل للحكي.
- وصف الحكي كحدث كأنه فعل الحكي ذاته، وهو استعمال قديم. 
والملاحظ أن نظرية الحكي لا تهتم بالتلفظ السردي بسبب تركيزها على الملفوظ والمضمون، وذلك لأن الخطاب السردي يركز في تحليله على العلامات المتجلية في الخطاب والأحداث، والفعل لتبرز الأنماط السردية عبر القصة والحكي والقصة.
وتقسيم جينيت هذا هو تقسيم ثنائي سواء من جهة القصة أو من جهة الحكي والسرد بحكم ترابطهما كما يظهر من مفهوم الصيغة، فهو عكس تودوروف يرى أن الحكي هو الخطاب الذي يمنح إمكانية تحليله ودراسته من الناحية النصية8. أي أن القصة والسرد يرتبطان بشكل كبير مع الحكي، وهو ما يعني عند تحليل الخطاب السردي الاهتـمام بالعلاقة الموجودة بين الحـكي والقصة من جهة، والحكي والسرد من جهة ثانية، والقصة والسرد من جهة ثالثة، وهو ما لا يتم إلا من خلال خطاب الحكي.
إن الحكي عند جيرار جينيت إنتاج لساني مما يعني تطويره لفظياً بالمعنى النحوي، مما يتيح إنتاج قضايا الخطاب السردي من مقولات ترجع لما يسـمى بنحو الفعل، والتي تختزل في الزمن والصيغة والصوت، فالزمن والصيغة والصوت يتمان على مستويين للعلاقات بين القصة والحكي، أما الصوت فيرتبط بعلاقات السرد والحكي، والسرد والقصة من جهة ثانية.
ما يلاحظ هو التقاء جنييت وتودوروف وفاينريس في قضايا تحديد مفهوم الخطاب أو تحديد آلياته من مبدأ أساسي، هو المطابقة بين لسانيات الجملة ولسانيات الخطاب، مع الوقوف بشكل كبير عند المظهر الفعلي واللفظي في بعده النحوي، ويتجاوز كُلَّ الأنسـاق الدلالية والتركيبية الأخرى، أما فيما يتعلق بالأحداث والوظائف فترتبط بالدلالة في أبعادها السوسيولوجية (سوليمان ولفيف) والسيموطيقية (بارت وجماعة لييج).
من بين الذين عملوا على تطوير الأنماط السردية عند جيرار جينيت الباحثة (سلوميت ريمون رينان)، في مشروعها عن التخييل الحكائي متجاوزة بذلك الحدود النــحوية، التي أشارت إليها متسائلة عن ماهية الحكي لتخلص إلى أنه (سرد متتابع لأحداث متخيلة9. على أسـاس أنه إرسالية بين مرسل ومتلقي بطبيعة لفظية، انطلاقاً مما يراه جينيت في تميزه السابق بين القصة والنص والسرد.
ونجد لهذا التقسيم الثلاثي رأياً آخر عند روجر فاولر (r.fowler) في مشروعه اللسانيات والرواية، وذلك في مطابقته بين الجملة/النص من منطلق لسـاني، مُعتبِراً أنَّ الروايات مثل الجمل تتأسس على مقولات بنيوية تشترك وعناصر بنية الجملة10، أي أن التقابل بين الجملة والحكي يتم عبر مايلي:
الجملة تتضمن البنية السطحية والجهة والقضية، في مقابل النص والخطاب والمحتوى بالنسبة للحكي، ويظهر تأثر فاولر في تقييمه هذا بالمقاربة الوظيفية كما عند اللساني الإنجـليزي هاليداي وإن كان هذا الأخير يحصر الوظائف في ثلاث: النصية والتشاخصية والتجريبية، وهو ما يقابل وظائف الحكي كما حددناها سابقاً، فهو يحاول إقامة نحو للنص بعيداً عن اللسانيات البنيوية.
إن أهم ما يمكن وصفه في بنية الحكاية هو التركيز على وصف مسار البطل، الذي هو العجوز التي حلت محل الشيطان بعد عجزه عن غواية القرية، ولك من خلال إنجازاتها كشخصية رئيسة أي كثابت بنيوي invariant structurel، يرتبط مسارها بمسار الشخصيات المختلفة الأخرى، مثل: العالم وزوجته وعائلتها، ثم سكان القرية كرمز دال على مجموعة من العلاقات الرابطة بين جماعات من الأفراد، أو بالأحرى مجموعة من الأسر لتحقيق المقصد destination، وهو أن الغواية ترتبط بالنساء أكثر مما ترتبط بالشيطان الذي خلق لها أصلاً، علماً أنها تبقى حكم قيمة إنتجها الوعي الشعبي، الذي كان دائماً يعظم من كيد النساء: {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عظِيمٌ}11. في مقابل كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}12.
تحرك أبطال الحكاية يحدد التفاعل ما بينها بفعل البنية الثنائية للحكاية، ليس في أفق تعارضهما هنا أي من خلال تطور برنامج سردي لكل واحد منهما، بفعل الصراع بين البطل والبطل المضاد، ولكن في تفاعلاهما اللامتكافئ أي بين عالم الجن وعالم الإنس -الشيطان والعجوز- أي عبر ما يسمى بالمقاربة الاثنينة L’approche dyadique.
من خلالِ قِراءة هذا النَّموذج نَصلُ إلى أنَّ الخطاب الشَّفوي يبقى مرجعاً عاماً يُوظِّفُ العجائبيَّ بصيغ متعددة، يكون فيه السارد وهو يروي حكايته صوتاً ناقلاً لهموم المجتمع، الذي ينطلق منه لتحديد القيم المنقولة كمجتمع لا زال يرى في النساء تلك المعادلة الصعبة، التي يستحضرها بقوة ذكائها ودهائها، وكيف إن حواء وكما في لاوعيه الجمعي قد أخرجت آدم من الجنة، حتى وإن كانت عدة ثقافات أخرى ترفض نمطية الصورة السلبية التي تستحضر بها النساء باعتبارهن منبعاً للرحمة والحنان، فالراوي يحكي دائماً من عدة موجهات وعلى القارئ الفعلي العمل على استنباطها، فهي إما أن تكون تقييمية وعاطفية، وتأويلية وتفسيرية وتعبيرية أيضاً، فالسارد من خلال ملفوظه ينطلق من العجائبي لتقويض الواقعي في حكاية متداخلة فيما بينها، تحمل دلالات قيمية وبلغة تجعلنا أمام نص متكامل نجح في بناء السنن اللساني، وبنية سردية تسمح بكل القراءات الممكنة.


هوامش الدراسة 
1-Boukous A : Société, langues et cultures au Maroc enjeux symboliques ; publication de la faculté et 
sciences humaines au Maroc :p11
2- LAROUSSE Pierre ; Grand dictionnaire universel du XIXe siècle Paris 1869 P:1066
3- السنن الثقافية من خلال نماذج حكائية: محمد الماكري، كتاب أعمال ندوة مدينة أكادير، الفكر والثقافة، مطبعة النجاح الجديدة، 1990 ص: 78.
4—GIOUVACCHINI D :le merveilleux pp1482-1483 Dictionnaire des littératures de la langue française ; J-p de Boumarchais ;Daniel Couty –Alain Rey Bordas 198 P1482
5- PREISS A: Fantastique, in dictionnaire des littératures de langue française bordas-Paris 1984 p :789
6- Groupe -Rhétorique générale. Seuil-points.2eme-edit-1982-p :116
7- -H-Heinrich-se temps. Edi-seuil.1973-p : 60-62
8--R-Bartes-introduction a l’analyse structurale du récit- communications-n-8-1966-p-9
 -9 المرجع نفسه، ص: 12.
10--Fouler –Linguistique and the novel nethuen –soudon and newyork-edit 1983-p23.
11 – سورة يوسف، الآية: 28.
12- سورة النساء، الآية: 76.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها