للكتاب في اللغة العربية أكثر من معنى، فالخطاب يُسمى كتاباً، وكل ما هو مكتوب من الشرائع يُسمى كتاباً مقدساً، وكل ورقة تحتضن غلافاً يمكن أن يسمى كتاباً إذا أراد مؤلفه ذلك. ويستخدم لفظ الكتاب في تعابير وكنايات مختلفة.
ما جعلني أقف عند تعريف ما الكتاب؟ الجدل الذي حدث بيني وبين شخص آخرَ عندما رفض أن يصنف الكتاب الذي ألفته كتابًا؛ لأنّ كتابي يحمل عنواناً وخمسين صفحة لم أكتب فيها شيئاً.
واعتمدت في تأليفي لكتابي على مقولة (خيرُ الكلامِ ما قَلَّ ودل)، فاكتفيت بكتابة العنوان وألحقت به 50 صفحة دون أن أكتب فيها شيئاً، إلا أنني كتبت في صفحة إهداء الكتاب بأني أعتمد على فطنة القارئ في فهم الكتاب؛ لأن الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة أحياناً تُغني عن قراءة الكتاب. كما أشرت في الغلاف الخارجي للكتاب بأنني أريد أن أحفز القارئ بجميع انتماءاته على أن يستفيد من عنوان الكتاب في تطوير ذاته.
لن أُناقش في هذه السطور أُفُق وإبداعات ودرجة ثقافة محدثي الذي رفض أن يسمي كتابي كتاباً؛ لأنني أريد التركيز ولو بشكل مبسط على مصطلح الكتاب الذي يؤلفه المؤلف لا سيما تلك التي تتعلق بالشؤون الإنسانية وتنمية الذات.
أحياناً أنا وآخرون نعبر عن استيائنا عن كتاب لم يرق لنا بأنه لا يستحق أن يكون كتاباً، وقد يكون كتابي الذي لا يحمل أي محتوى بالنسبة لمحدثي لا يرقى أن يكون كتاباً، ولكن علينا أن نفرق بين تلك التعابير والحكم بإخراج الكتاب من دائرة تصنيفه ككتاب ورفضه بأن ينضم ككتاب ملموس لعالم الكتب لأنه لم يرق لنا، وعلينا أن نعامل الكتاب الذي لا يروق لنا معاملة اللوحات الفنية.
فكثيراً ما نقف أمام لوحات فنية قصد رسامها أن تحمل رسائل غامضة أو تعبيرات مبطنة، فإذا لم نستوعبها لا نُعطي لأنفسنا الحق بالقول إنها ليست لوحة فنية، فقد يعرض الرسام لوحة بيضاء لا شية فيها إلا توقيعه، معتمداً على فهم المشاهد للوحته البيضاء، فقد يفسر أحدهم بأن لونها الأبيض رسالة سلام، وأحدهم مخيلته خصبة تقوده بأن الرسام يريد أن يقول لنا ما أجمل اللوحة البيضاء إذا لم تزاحمها الألوان الأخرى، وقد يكون شخصاً يائساً ينظر للوحة، فيعتقد أنه لا يوجد شيء في الحياة يستحق العناء، فلهذا علينا أن نترك الأمور كما هي ولا نتدخل لتغييرها. وقد يكون الرسام لا يهمه فهم أحد للوحته سوى شخص مهم للرسام همس في أذنه عن المغزى من اللوحة البيضاء، وقد يكون الرسام أراد أن يستثير ويحفز الناظر للوحته لكي يستوحي شيئاً لم يكن في ذهن الرسام أو حتى من نظر إليها، كما أن كمية التأويلات والتحليلات لن ننتهي رغم أنها مجرد لوحة بيضاء عند البعض.
وحتى أُقنع محدثي طلبت منه أن يقوم بصياغة مصطلح الكتاب، فقال: الكتاب مأخوذ من فعل كَتَبَ، وإنه لم يجد في كتابي شيئاً مكتوباً، فهنا أدركت أني لستُ مسؤولاً بإقناع محدثي عن أن ما كتبته كان كتاباً؛ لأن تركيزه منصباً على نصف الكوب الفارغ من الماء، وإنه قرأ الكتاب بنظره لا بعقله.
وبعد أن فهمت عقلية محدثي لم أشأ أن أحرجه لأسأله ما القالب الذي يجب أن يوضع فيه الكتاب حتى يكون كتاباً، من حيث عدد الصفحات أو عدد كلمات وسطور الصفحة الواحدة، وهل هناك معيار موحّدٌ لنوع الخط وحجمه، وماذا عن حجم الصفحة ولونها حتى نعتبره كتاباً؟
***
قَولٌ على قول
كتب المحرر الثقافي
يتقدم الأستاذ/ حسن جمعة الرئيسي بمقترح مفاده أن الكتاب يمكن أن يحلّق في فضاء الخيال والتّخيِيل؛ أي أن بوسع كاتب النص أن يكتفي بعتبات ذلك النص، بل العنوان الرئيس ويترك بقية الصفحات لخيال المُتلقي. وهذا مقترح جديد قديم من حيث إنّ مدلولاته السيمولوجية كانت وما زالت واردة في مختلف الأنواع النَّصيّة، سواء كانت مكتوبة أو مرسومة أو مسموعة. وهنا نستطيع الإشارة لبعض تلك النصوص كما هو الحال في "طواسين الحلاج"، أو في منهج التأليف عند الشيخ محيي الدين ابن عربي، أو في ما ذهب إليه رولان بارت حول فكرة "موت المؤلف".
أما في الفنون البصرية؛ فقد ظهر "النص الغائب" في الفنون المفاهيمية البنائية كما في اللوحة. ويمكن الإشارة هنا إلى اجتراحات السورياليين والدادائيين وأمثالهم.
ومقطع القول؛ أن ما ذهب إليه صاحب المقال الذي بعنوان "الكتاب ليس بكتاب"، يسمح لنا باعتبار المرجع الأساس للفكرة أنه لا فراغ في الوجود، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن ما نستوهمه فراغاً هو امتلاء من حيث لا نحتسب، وأن كل سطر مكتوب يخفي ما يليه؛ وكأن ما نراهُ ليس إلا إشارة لما بعده!