على عتبات الأقدار

صبحة بغورة


أفاقت السيدة نبيلة مبكرة، وأخذت تنفض كوابيسها التي علقت بوسادتها، وقميص نومها وشراشيف السرير، أزالت ستارة النافذة على مهل، اطمأنت أن الليل لم يترك خلفه بقايا من كوابيس الفقدان، وحرارة الشوق إلى رفيق دربها وشريك روحها زوجها الذي أغدق عليها بالحب والحنان، أفجعها موته في حادثة مرور أليمة، ففقدت فجأة الظهر والسند والحضن الآمن.

مضى أسبوع على وفاته، وكانت تتمنى أن يشاركها فرحة إنجاب طفلهما الأول، ولكن لم يشأ القدر أن يرى ثمرة عملية زرع الجنين في رحمها بعد رحلة طويلة مع العلاج، خشيت أن تنقلب فجيعتها على سلامة وضعية الجنين، تنهدت عميقاً وهي تتحسس بطنها بكل رفق وحنان، قامت ببطء وأحضرت فنجان القهوة الساخن لتعزز به قدرتها على اليقظة.. وعلى النسيان لتجاوز الانحدار إلى قاع الهاوية بقدمين حافيتين، تتأمل الحياة الكريمة ومظاهر الثراء الذي تركه لها، ثم تتمتم بكلام مبهم تارة، ومفهوم تارة أخرى: "لا طعم للحياة من غيره، إنه السلام النفسي لحياتي، أحبك زوجي العزيز، أذكرك في كل الأشياء التي تحيط بي حتى في رائحة القهوة الصباحية التي أشربها في فنجانك، إنه يشعرني أنك تقاسمني وجهي الداخلي".

قصدت غرفة شقيقتها شيماء دخلت عليها قائلة ولم تكن تخطت عتبة الباب: "هل تودين مرافقتي الآن إلى الدكتورة التي تتابع حملي"؟ أكدت لها شقيقتها أنه ليس موعدها مع الطبيبة، وأن الوقت ما زال مبكراً، ولكن نبيلة أرادت الاطمئنان سريعاً على كل الأمور خاصة بعد الحالة الحرجة التي مرت بها بسبب ظروف الجنازة التي تأثرت بها، إنها تدعو الله أن يسترها فحملها تحقق بعد محاولات كثيرة فاشلة، طمأنتها شيماء أن الله تعالى سيجبر خاطرها. بعد أن تهيأتا للخروج سلكت نبيلة طريقها نحو السيارة ولكن شيماء أصرت على أنها هي من ستقود؛ لأنها قلقة من الشحوب الظاهر على وجهها من أثر التعب، شعرت نبيلة ولأول مرة وهي تخرج إلى حديقة المنزل الواسعة بخوف يغلف المكان، ورعب يغلفها ويعشعش بين خلاياها المتعبة؛ إنه ثوب لم تألفه، ثوب الحزن والفقد، تنهدت واستسلمت لحديث داخلي جميل: "كم كان العمر معه جميلا، أنا القانعة الراضية بالقسمة والنصيب، أنا المترقبة الأيام القادمة بلهفة لرؤية قطعة من روحي أحملها، وما الحياة إلا بناس نحبهم، لن أتركك يا حبيبي، ستظل تعيش بداخلي إلى أن يواري التراب جسدي إلى جانبك، كانت سعادتي بوجودك، لم تتخل عني، كنت فرح الحياة الحقيقي وكل متعتها، معك المتعة حقيقية خالية من الزيف، شاركتني كل لحظات الحياة بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة فوجدت فيك المسكن المؤمّن، فسكنتني للأبد وأخذتني معك إلى بر الأمان، لكن الآن تركتني في مفترق الحياة أحمل معي صخبها في كل الجهات..".

انتبهت من وشوشات قلبها على صوت شقيقتها تلح عليها بصوت عال أن تركب، انتبهت لها متأخرة، لقد كانت مستسلمة لهواجس قلب مجروح قابع خلف ستار الخوف من الغد، انطلقت السيارة في أجواء خريفية، وكانت أكداس أوراق الأشجار الصفراء المتناثرة كأنها تقاسمها الكثير من أحزانها، وصلتا عيادة الطبيبة الكائنة بحي شعبي وسط عمارات تتخللها ممرات وحدائق صغيرة جرداء، رحبت بهما ولكنها استغربت حضورها لأول مرة من غير زوجها، أخبرتها بما ألم بها، تفاجأت الطبيبة وترحمت عليه كثيراً، وما أن فحصتها حتى ابتسمت وطمأنتها بأن الوضع مستقر تماماً، وأن هذه المحاولة أفضل من المحاولات السابقة، ونصحتها أن تهتم أكثر بنفسها وأن تلزم الراحة التامة هذه الأيام، فهي لم تخرج بعد من مرحلة الخطر، وأنهما آخر بويضتين تم إخصابهما من زوجها الراحل ووضعهما برحمها، تعاظمت حيرة نبيلة بين الفرحة والدهشة؛ إذ كانت تظن أنها بويضة واحدة كشفت لها الطبيبة أن تلك كانت إرادة زوجها. بدا الأمر بالنسبة للزوجة؛ وكأنه كان يشعر أنه قريباً سيفارق الحياة.

رافقتهما الطبيبة إلى الرواق الخارجي مشددة على الاهتمام أكثر بالغذاء المتوازن، سعدت نبيلة كثيراً بعد لقاء الطبيبة، وكانت كلها أمل وثقة كبيرة في قدرة الله أنه لن يحزن قلبها، بدت خطواتهما نحو السيارة متثاقلة على وقع حديث حائر بينهما؛ إذ ستسافر شيماء مضطرة بعد أسبوع إلى فرنسا، وستكون مهمومة لأنها لا تدري ما تفعل لشقيقتها، من سيهتم بها أثناء غيابها عنها وهي حامل؟ هي لا تثق في أهل زوجها الذين تكالبوا عليها طمعاً في نصيبهم من الميراث، قاطعتها نبيلة بأن محامي المؤسسة مهتم بالأمر ولن يتم اتخاذ أي إجراءات حتى يحين موعد الوضع سواء تم بالنجاح أو الفشل، قطعت حديثهما رائحة طعام طيبة؛ إنها أكلة "الدولمة" الشعبية الشهيرة والمفضلة لهما، ذكرتهما الرائحة بما كانت تطبخه أمهما عند عودتهما من الجامعة، ومنذ أن غادرتهما إلى رحمة الله لم يشما رائحتها، صاحت شيماء مصممة أنها ستحاول طبخها لشقيقتها، مع أنها غير واثقة إن كانت ستوفق في ضبط التوابل التي تكسب الوصفة نفس تلك الرائحة المميّزة، فالسنوات الطويلة التي قضتها في الغربة أخذت منها مأخذاً كبيراً، حتى نسيت معنى كلمة الطبخ المنزلي، أرادت أن تركن الروتين جانباً، وتحرر نفسها من انشغالات تجلدها بتعب على نفس الوتيرة، وأن ترتاح من ثرثرة الأرصفة والمقاهي الباريسية، وأن تستحضر في هدوء ذكرياتها لتسترجع تلك الحواجز القديمة المزروعة في النفوس بإتقان، منذ طفولتهما وسط أهل لم يتركوا أحلامهما تذبل وتموت، بل أزهرت بفضلهم حواجز بقيم سامية بنت شخصيتهما، وأسست للسير في رحلة العمر.. وبينما هما كذلك سمعتا من تنادي عليهما، كانت امرأة في عقدها الثالث تدعوهما، لم يتعرفا عليها ولكن نبيلة ظنت أنها ربما تكون صاحبة المنزل الذي انبعثت منه رائحة طبخة المحاشي المحببة لهما "الدولمة"، اقتربتا منها فدعتهما للدخول إلى بيتها، كان بيتاً صغيراً متواضعاً، رحبت بهما وابتسمت وهي تخبرهما بما سمعته من حديثهما، وأنها لم ترض على نفسها أن تدعهما يمران مرور الكرام، وأخبرتهما أنها تعلم أنهما عائدتان من عند جارتها الطبيبة، فدعت أن يرزقها الله بطفل يسعد قلبها، واستنتجت أنها أكيد تمر بفترة الوحم، فأسرعت وأعدت لها نصيباً وفيراً شهياً تأكله حالا ما دامت قد اشتهته، كما أعدت نصيباً آخر مع خبز الدار الساخن تأخذه معها لوجبة العشاء، التهمت نبيلة الطعام بنهم كبير، كمن لم تأكل منذ سنة، خاصة وأنها لم تتذوق الطعام منذ وفاة زوجها إلا من بعض المقويات، اندهشت شيماء من حجم الطعام الكبير المعد بالمطبخ وكميات الخبز المرصوصة على المائدة، ولتفك الغموض أخبرتها مضيفتهما هدى؛ أنها تطهو الطعام وفق طلبات الزبونات من النساء العاملات، وأنه كلما أجادت طبخ صنف معين تترك لها الزبونة نصيباً لها ولأولادها، وأخبرتها أن ما قدمته لهما هو نصيبها ونصيب أولادها هدية منها لها ولجنينها في بطنها بكل الحب وبصدر رحب وسعادة، أحرج هذا الموقف نبيلة، ولم تقبل أن تحرمها من حقها في هذا الطعام وطعام أولادها، طمأنتها هدى أنها لا تحرمها من شيء؛ وأنه بالعكس لقد أشعرتها بحضورها بسعادة لا مثيل لها، وأنه ما زال لديها الكثير من طعام الأمس يكفيها وأولادها، ثم حمدت الله كثيراً، وأكدت لها أنها تعمل بأمانة وبما يرضي الله، ولا تأخذ إلا ما كتبه سبحانه لهم، نظرت إليها شيماء متسائلة في حيرة عن والد أبنائها، علمت أنه تُوفي وترك بنتين والطفل وسيم الذي كانت ما تزال حاملا به، وسيم لا يعرف والده إلا من الصور، لقد مات بمرض السل بسبب غبار الإسمنت ومواد البناء، حيث كان يعمل في البناء، ولم يكن له خيار آخر للحصول على قوت يومه سوى الاستمرار فيه حتى توفي، ولم يجدوا مكاناً يسع حملهم وخواطرهم بعدما ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت على غيرهم، لم يجدوا السعادة إلا في الإيمان الخالص لوجه الله تعالى مفرج الكروب، ضاقت عليهم الدنيا وأخذت تضيق وتضيق حتى لم يعد في متناول القلب أن يفرح، طرق الحزن القديم قلبها وترك وشماً عميقاً في روحها وعلى جسدها بفقدان زوجها، تركت أبواب القلب مقفلة، وأغلقتها بإحكام حتى لا يمر الآخرون إلى حياتها، عاهدت نفسها أن تتحمل عبء الحياة بمفردها، برغم اشتياقها لملامسة زوجها على جبينها وتقبيله القبلة الأبدية، سألتها نبيلة عما إذا كان قد ترك لها معاشاً، وصفت هدى حالها بالكارثة عندما اكتشفت أنه كان غير مؤمن، لقد وجدت نفسها في الشارع بعدما طردها صاحب المنزل، لكنها وجدت من أهل الخير من أجروا لها هذا البيت، ثم استحضرت خبرة والدتها الطويلة في الطبخ في المناسبات والأفراح والأعراس، تأسفت نبيلة لحال هدى وتأثرت كثيراً لموقفها الكريم معها، شكرتها ودعت لها أن يفك الله كربها.

غادرت الشقيقتان المنزل على دعوات هدى بالذرية الصالحة.. عادتا إلى البيت، وبجوار الشباك المطل على الحديقة جلست نبيلة تتأمل، وتحاول أن تخفف من حالها عندما رأت في هموم الناس ما قد تهون أمامها همومها. انتهزت شيماء الفرصة، فأفصحت عن ما كان يقلقها وصارحت أختها أن موعد سفرها يقترب وستبقى هي وحيدة، وليس هناك من يهتم بشأنها، هوّنت عليها نبيلة وحاولت أن تطمئنها بأن معها الخادمتين والحارس والسائق، ولكن شيماء كشفت لها علمها مؤخراً أن الخدم الذين معها ينقلون تفاصيل أخبارها إلى آخرين، وهذا يشكل خطراً عليها، خاصة بشأن الميراث، احتارت نبيلة وتساءلت حائرة عن ما ستعمل، أشارت عليها شيماء أن تبقي على الحارس والسائق وتسرح الخادمتين، ولكن من سيشرف على خدمتها وقد أوصتها الطبيبة أن تقلل من الحركة ولو كانت بسيطة لتثبيت وضع الجنين، اقترحت شيماء تلك المرأة التي استضافتها في بيتها، إنها امرأة تتمتع بعزة النفس، فإن قبلت بها نبيلة ستقوم شيماء بالسؤال عنها أكثر.

توجهت نبيلة إلى غرفة نومها أملا أن ترتاح بعد أرق وقلق الليالي الماضية، أطفأت النور بسرعة وألزمت نفسها الهدوء؛ كي لا تهاجمها الأفكار الحزينة والمشاهد المؤلمة، وكي لا تمتد يدها إلى ألبوم الصور النائم بجوارها على أجمل الذكريات، تريد أن تفرض رغبتها في استحضار النوم، مؤمنة بأن الله ينظر إليها من عليائه ويحميها. وفي الغرفة المجاورة باتت شيماء تفكر كيف تستعد في الغد لتنفيذ فكرتها دون تأخير حتى تطمئن على شقيقتها قبل سفرها، هكذا هي الأخت تقف دائماً إلى جانب أختها وقت الشدة. في الصباح الباكر خرجت دون أن تخبر أحداً، توجهت إلى حيث يمكنها أن تسأل جيداً عن هدى، لم تسمع سوى عبارات الثناء في أمانتها وكلمات المدح في أخلاقها وأدبها وعفتها، اطمأنت لكل ذلك فقصدت منزل هدى، وما أن رأتها حتى رحبت بها، صارحتها شيماء بتفاصيل أمرها راجية منها أن لا تردها خائبة، طمأنتها هدى أنه لن تخرج من بيتها إلا وهي مجبرة الخاطر، علمت هدى أنه سيتم تخصيص منزل بالحديقة ملحق بالبيت تسكنه بدون إيجار، وسيخصص لها راتب شهري مقابل اعتنائها بنبيلة واهتمامها بشؤون البيت، وسيجري تسجيل أولادها بالمدارس الأقرب من البيت، صمتت هدى فترة جعلت شيماء في ريب، فدفعها ذلك إلى التأكيد على أن الأمر إنساني أكثر؛ وأنها الوحيدة التي أطمأن لها القلب، طابت نفس هدى لها ووافقت على المقترح، لم تنتظر شيماء طويلا حتى اتصلت بنبيلة وبشرتها أنها نجحت في إقناع هدى للانتقال إلى البيت، وكانت المفاجأة لما رأت هدى المكان الذي ستقيم فيه مع أولادها، مكان راقٍ، محترم، وبيت واسع لها ولأولادها في ركن من الحديقة الواسعة، أدركت أنها أجادت الرأي وأحسنت الموقف، قامت شيماء بالاستغناء عن الخادمتين، وسألت هدى إن كانت تقبل أن تحضر لها امرأة أخرى تساعدها في مهام البيت، لم تر هدى داعياً لذلك فهي تستطيع الاعتناء بالسيدة نبيلة، وتقدر على شؤون البيت، بل إنها ستطبخ كل ما تريده السيدة وتحبه وتشتهيه ما دامت قد تحررت من عملها مع الناس الآخرين، ثم توجهت بجزيل الشكر على الكرم الكبير الذي لقيته منهم، فجاملتها شيماء بأن كرمها كان أكبر وأسبق.

سافرت شيماء كما كان مقرراً، أما هدى فكانت نعم المرأة الوفية للأمانة وللكلمة والوعد، لم يغرها متاع الدنيا وغواية الحياة، كانت سعيدة وراضية لأن أولادها بجانبها وقد وجدوا سعادتهم الحقيقة في مكان جيد وبمدارس محترمة، أما نبيلة فقد نعمت بوجود هدى إلى جانبها تهتم بها وتعتني بنظافتها الجسدية، خاصة مع زيادة شدة وطأة تقدم فترة حملها، وكانت تحضر الطبيبة بنفسها إلى البيت لفحصها، وترافقها دائماً في خرجاتها القصيرة ولا تأمن لأي أحد عليها ولا تثق في أي شخص يتقرب منهما، تحتفظ في دخيلة قلبها ونفسها بكثير مما لا يليق إخبارها به حتى لا تغضبها أو تثير أعصابها، كانت الملاك الأمين الحارس لها.

وأخيراً؛ أنجبت ولدين توأمين بصحة جيدة، رغم سنها الكبير وكانت هدى سعيدة بهما، ترعاهما بأفضل ما تكون المراعاة، وكان رضا وسامي قرة أعين من حولهما، ولدا بعد انتظار طويل، جاءا إلى الحياة في آخر المطاف. عادت نبيلة إلى إدارة أعمال شركة زوجها الراحل، أما أهله فقاطعوها بعد إنجاب ولديها وابتعدوا عنها، لقد صبرت طويلا على افتراءاتهم واتهامها بالعقم، كان صبرها ستراً على زوجها الذي لم يكن لينجب سوى بالتلقيح الخارجي، ورغم تطاولهم عليها لم يسمع أحد منهم حقيقة مرضه، ولم تشتك عجزه لأحد منهم تجرعت في صمت مرارة معاملتهم الفظة وكلماتهم الجارحة، انتصرت على ادعاءاتهم وأكاذيبهم لتشويه سمعتها والمس بشرفها، وكتب الله تعالى لها السلامة من محاولاتهم الخبيثة المتكررة للنيل منها، أو لإجهاضها قبل الوضع حتى لا يحرموا من نصيبهم في الميراث، فكان جزاء صبرها فرحتين.

ثم اكتملت فرحة نبيلة الكبرى بعودة شقيقتها شيماء وأسرتها من الغربة، وكانت سعادة شيماء كبيرة عندما رأت شقيقتها كما تركتها أمانة عند هدى، وجدتها في حال أفضل، عاشوا جميعاً عائلة واحدة، كل فرد منهم سنداً ودعماً للآخر، فارتقت بالحب الحقيقي مشاعرهم في القلب، وسمت بنبلها الروح.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها