النقد.. بين الانطباعية والممارسة الثقافية

حـوار مع الناقد علي حسن الفواز

حاوره: خضير الزيدي


يكتسب الحوار مع الناقد والشاعر علي الفواز أهميته من عدة اعتبارات؛ أولها أنه شهد مرحلة الجيل السبعيني والثمانيني وما تلاها من أجيال، وقدم لنا عبر العديد من إصداراته القيمة دراسات تهتم بالبنى الأسلوبية، وتحولات الخطاب النقدي، وشهد مرحلة الثمانينيات التي عرفت يومها العديد من الإصدارات ذات التوجه المعرفي والتعبوي معاً لبروز ظاهرة أدب الحرب وتوظيفها، ومن أجل أن نلقي نظرة ومعرفة على جوانب أدب الحرب، وما يحمله من سمات أسلوبية وقراءة للتاريخ المعاصر. وقد كان لنا معه هذا الحوار:
 

✦ بدايةً؛ لماذا شكلت مرحلة الثمانينيات انتباهاً ملفتاً في بروز أدب الحرب لتعد ظاهرة جديدة، بينما نراها اليوم مع كل هذه الأحداث شبه غائبة؟

أدب الحرب ليس جديداً، فهو يملك إرثاً في الأدب العالمي، والأدب العربي، لكن ظاهرة حرب الثمانينيات من القرن الماضي في العراق جذبت الانتباه لها، لطولها ولقسوتها ولطبيعتها النفسية، ولعلاقتها بالرعب الاجتماعي والسياسي، وهو ما جعل حكاياتها وسردياتها الأقرب إلى "الأدب التعبوي"، مع وجود روايات وقصص محدودة تجاوزت هذه العقدة، وكسرت عمومية ذلك الأدب، وتجاوزت بعض تابواته. لكن عالم ما بعد 2003 له حروبه الأكثر تعقيداً، وصراعاته الأكثر رمزية، وأحسب أن أغلب روايات هذه المرحلة اقتربت بشكلٍ أو بآخر من وقائع هي الأقرب توصيفاً لـ"الحرب الأهلية"، ولصراع الحيوات التي تبحث عن وجودها وسط عالم غائم، إذ حفلت يوميات هذه الحرب، بصراعات الهوية والوجود والمنفى والعلاقة مع السلطة والآخر، ومع تمظهرات تدخل في إطار تمثيل مظاهر سسيولوجيا العنف، حيث الإرهاب والعنف والجماعات المسلحة والكراهية والمدن المفخخة وغيرها من الظواهر التي تتقنع بأقنعة الحرب أيضاً.

✧ هناك من يجد أن الكم الإبداعي الغزير عن أدب الحرب لم يرافقه نقد يواكب فهمه بالشكل السليم، هل يمكن أن نعتبر العملية النقدية يومها كانت متعثرة؟

من الصعب أن يرافق الإنتاج "الابداعي" ما يقابله من النقد، فالعمل النقدي ليس انطباعاً عابراً، ولا يكتفي بالمتابعة الصحفية، إنه ممارسة ثقافية تستدعي وعياً بالمكتوب، وبأهمية التعاطي النقدي مع التاريخ والوثيقة، ومع مستوياتها التاريخية والنفسية والعسكرية والأنثربولوجية، وهذا ما يجعل الخطاب النقدي صعباً و"بطيئاً"، ورهيناً بمقاربات تستدعي كتابة فاعلة، ورؤى تتقصى ما تحمله، وحتى على المستوى الفني، فقد حفل "الأدب التعبوي" للأسف بكتابات جعلت من الحرب وكأنها "نُزهة" من بطلها السوبرمان أنموذجاً، وهو ما أثار جدلا حول القيمة الفنية والأخلاقية والتاريخية لمثل هذه الكتابات، مقابل تغييب ما هو خبيء فيها، من وجع واغتراب ومن قهر انساني، ومن صور "مسكوت عنها" للبطل الآخر "الجريح، الأسير". كما أنّ تعثّر النقد، لا يعني غياب قدرته على المتابعة، بقدر ما يعني صعوبة نقد خطاب الحرب، والبحث عن النص الحقيقي، إزاء كمٍ هائل وجد اهتماماً من قبل "السلطة الحاكمة" دون مراعاة لأهمية حيازته لشروط الكتابة الأدبية، والتي ضاع معها الغث السهل مع السمين الإبداعي.

 

✦ بعد كل هذه السنوات على غياب أدب الحرب.. هل تراه شكّل مفاجأة للنقاد في مرحلته؟

ربما كان أدب الحرب بمعناه الواقعي كان صادماً، رغم أن العديد من الأدباء العراقيين كتبوا عن البطل العربي، والبطل الفلسطيني بعد نكسة حزيران عام 1967، فضلاً عن اطّلاعهم الكبير على أدب الحروب العالمية الأولى والثانية، والحرب الأهلية الإسبانية، والحرب الفيتنامية والكورية وغيرها. لذا بدت صدمة الحرب مفارقة، ومثيرة للجدل والأسئلة، حول مرجعياتها، وزمنها، وعلاقتها بالتاريخ، والآيديولوجيا، وهو ما جعل الكثير من "الكتابات" التي كُتبت عن أدب الحرب، فقيرة، ومباشرة، ومحدودة، وتعاني من خلل واضح في حيازة أدوات النقد الفعّال الكاشف عن الحمولات العميقة لها، بوصفها ظاهرة إنسانية، وصراعية تفترض مقاربة تتسق مع استحقاقاتها، كما وجدناه في ما كُتب من دراسات نقدية عن أدبيات حرب النكسة، والحرب اللبنانية وغيرها.

 

✧ يشير بعض النقاد إلى أن نصوص قصة الحرب ابتعدت عن الأنماط التعبيرية المتطرفة.. ما مدى صحة هذا التوجه؟

الحرب بطبيعتها ظاهرة متطرفة، وما يُكتب عنها من نقد، لا يعني الاقتراب من عوالمها المباشرة، بل يتطلب الأمر كشفاً لما في عوالمها الخبيئة، ولأثرها في النفس البشرية، فبطل الحرب ليس كائناً خرافياً أو أسطورياً، إنه كائن واقعي، له أحلامه وأحزانه وأسئلته وخوفه، مثلما له بطولته في مواجهة أعدائه. وهذا ما أفقد المغالاة في كتابة القصة والرواية الوازع النقدي؛ لأن الناقد معنيٌ بالدرس، وبالتقانة الأسلوبية، وبالجدّة والموضوعية التي يكتب بها الكاتب، وحتى لا يقع هذا الأدب في الفنتازيا والسحرية، فإن النقد بدا أكثر حذراً في الاقتراب من تلك الكتابات، والبعض من النقاد ذهب إلى الحديث عن سايكلوجيا الحرب، وعن تاريخية الحرب، وأهمل معالجة البنى الفنية الضعيفة لقصة الحرب وروايتها، وحتى إلى القصيدة التي بدت "تعبوية" هي الأخرى والأقرب إلى قصيدة النداء والفخر، وأكثر تمثيلا للأشكال والأنماط التقليدية في الشعرية العربية.

 

✦ لقد قرأنا في بعض الدراسات التي تشير لأدب الحرب؛ أن الغالب من النصوص القصصية والشعرية لم ترقَ إلى مصاف أدب الحرب العالمي، وأن كتاباتها جاءت نتيجة دوافع تعبوية.. ما رأيك؟

هذا تشخيص صحيح، مع التحفّظ على تعميمه، فهناك قصص وروايات وقصائد ودراسات أدركت حساسية "أدب الحرب" فذهبت إلى الرمزية والتورية، وإلى الاحتفاء بعوالم تناور على الفكرة المباشرة للحرب، وهذا ما ينبغي الحديث عنه، لكن الأغلب للأسف كان أكثر انحيازاً للأدب التعبوي والمباشر، لذا من الصعب مقاربة بين ما كُتب حول الآداب العالمية عن الحرب مع أدب حربنا المحلية، وعلى المستويات كافة، في التقانات البنائية، وفي المقاربة الأسلوبية، وفي زوايا النظر إلى حمولات هذه الحرب نفسياً واجتماعياً، وحتى في التعاطي مع بناء الشخصيات، والأحداث وفي توظيف الأمكنة والزمن، فروايات مثل: "من يقرع الأجراس" لهمنغواي، و"الأمل" لأندريه مالرو، و"للحب وقت وللموت وقت"، و"كل شيء هادئ في الميدان الغربي" لريك ماريا ريمارك، و"دروب الحرية" لجان بول سارتر، اشتغلت على المصير الإنساني، وعلى واقعية الحرب في "مقدّسها" وفي "بشاعتها"، وهو جعلها خالدة في الزمن وفي تاريخ الرواية العالمية.

 

✧ هل القدرات الفنية لأدب الحرب العراقي يمكن أن تحمل نفس السمات الفنية لروايات وقصص عالمية تركت آثارها في نفس المتلقي، مثل رواية (الأمل) لمالرو عن الحرب الأهلية الإسبانية، أو رواية وداعاً للسلاح لهمنغواي؟

رغم صعوبة المقارنة في هذا السياق، لكن يبقى لكلٍ أدب تجربته الخاصة، ومهارته في التعاطي مع موضوعات الحرب بأساليب متعددة، فالكثير من أدبائنا العراقيين كتبوا عن الحرب، لكن بعيون تتجاوز المباشرة إلى الرمزي، وإلى توظيف الحفريات التصويرية والفكرية في التقاط ما هو نسقي مضمر أو محذوف في الأدب المباشر للحرب، كما فعل أحمد خلف في رواية "تيمور الحزين"، وما كتبه محمد خضير في "كراسة كانون"، وما كتبه حنون مجيد في رواية "المنعطف"، وما كتبه وارد بدر السالم في بعض قصصه القصيرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها