
◁ ميخائيل.. كاتب ومفكر موسوعي، رسم وكتب الشعر والنقد، والمسرحية والقصة والرواية، والسيرة الذاتية، والسيرة الغيرية، وتميز بالنقد.. جاء شعره مرآة لأفكاره وقناعاته، قاد النهضة الثقافية، وحمل لواء التجديد من خلال الرابطة القلمية.
◀ ولد في بسكنتا/ لبنان، في فلسطين /الناصرة، ودرس في المدرسة الروسية، ثم أكمل دراسته في جامعية بولتافا الروسية خلال الأعوام 1905-1911، ثم أكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية.
◁ انضم إلى الرابطة القلمية، وعاد إلى لبنان عام 1932 متفرغاً للكتابة.
◀ له مجموعة شعرية وحيدة هي "همس الجفون" وضعها بالإنكليزية، وعرّبها محمد الصابغ سنة 1945. تنوعت مصادر ثقافته وغناه الفكري وتواصله مع الثقافات الأخرى، والتي كان لها روافد كثيرة بحكم عمله ودراسته وتنقله، كاطلاعه على التراث العربي القديم، والثقافة الفرنسية والأمريكية والروسية، وتشبعه بالتعاليم المسيحية، وتأثره بالفلسفة الصوفية الهندية، حيث أثبت ذلك بنفسه في كتابه "نجوى الغروب" [ص: 258] من أنه كان تلميذاً للجمعية الثيوصوفية سنة 1912 في شمال أمريكا، وقراءته بعمق لكتابات الأمريكي "رالف. و. إمرسن" وتأثره بها، كما اعترف بذلك في كتابه "الغربال الجديد [ص:121]، وبشكل خاص فلسفته المشهورة بمذهب التسامي.
من يقرأ مجمل كتابات نعيمة التي تمحورت حول عناصر الطبيعة، ومفردات الكون التي يراها قراءة في كتاب الوجود الناطق بعظمة الخالق، وتمعنه بفلسفة الحياة والموت، والوجود والعدم، يستوقفه انشغال الرجل بالجانب التأمليّ، وقضية الإنسان وخلاصه، والتعبير عن المضامين الإنسانية بعمق، وزهده في مركّبات الحضارة وتفضيله النقاء والبساطة، والاندغام بالأرض، وقد سجّل موقفاً من الحضارة الغربية تحديداً معلناً رأيه الجريء ضد من ينادي بلقاء الحضارات، ناظراً للحضارة الغربية نظرة شك وريبة، رغم ما يخلب الأنظار من مخرجاتها المادية، ومما قاله في كتابه "زاد المعاد" [ط3، ص: 29]: "ما أبعد السلام المخيّم في جبالكم عن الجلبة المعسكرة في مدينة كمدينة نيويورك، فعلام تصرون على تزويج سلامكم من تلك الجلبة"؟ حاملاً مشعل نزعة صوفية إيمانية خالصة تحذّر من العقلانية المغالية، يهدم بها جسور التواصل مع الغرب ولا يتنازل للتصالح معه ".. وأنتم يا أبناء بلادي ليس يؤلمني من أمركم شيء على قدر ما يؤلمني تطلعكم للغرب، وجهدكم في تقليد مدينته واحتقاركم لأنفسكم.. أولا تعلمون أن لكل ما تقتبسونه وجهين: وجه صالح ووجه طالح، فأنتم إن اقتبستم مثلاً حكومة البرلمانات اقتبستم مع محامدها كل مفاسدها، ومفاسدها لا تعد، وإن أخذتم السيارة أخذتم مع بركاتها كل لعناتها، مثلما أنكم عندما تقبلون قطعة من النقد لا تقبلون "طرتها" دون "نقشتها"؛ إذ لا سبيل إلى الفصل بين الاثنتين، ثم إنكم تفاخرون كل المفاخرة بتاريخ بلادكم فتدعونها "مهد الأنبياء"، فما نفعكم من هذا المهد وقد أصبح عِشّاً طار منه فراخه؟ ما نفعكم من أنبيائكم ما لم يشع نورهم في قلوبكم؟ [زاد المعاد، ص: 39-45].
لذلك؛ أدار ظهره للسياسة وأحزابها، ولم يعط العلاقات الاجتماعية كبير اهتمام فلم يتزوج، وتفرغ لتأمله وكتاباته وفلسفته التي طبقها عملياً على نفسه وحياته. فعاش تجربة صوفية ذاتية عميقة فريدة، انعكست ظلالها على مجمل ما كتب "طفلك أنا يا ربي، وهذه الأرض البديعة الكريمة الحنون التي وضعتني في حضنها ليست سوى المهد أدرج منه إليك".
إذا سماؤك يوماً.. تحجبت بالغيوم
اغمض جفونك تبصر.. خلف الغيوم نجوم
والأرض حولك إمّا.. توشحت بالثلوج
أغمض جفونك تبصر.. تحت الثلوج مروج!
وإن بليت بداء.. وقيل داء عياء
أغمض جفونك تبصر.. في الداء كل دواء!
وعندما الموت يدنو.. واللحد يفغر فاه
أغمض جفونك تبصر.. في اللحد مهد الحياة
بهذه الأبيات المختصرة يمنحك ميخائيل نعيمة وصفة طبية روحية، وبساطة فائقة العذوبة تمسح عن قلبك هموم المعاش، ويغسل أدران روحك بعطر ياسمن الأمل، فلا تجد بعدها غير انشراح للصدر مملوءاً بالمحبة والجمال والخير، ويحلّق بك في سماوات السعادة والرضى، بعيداً عن أوضار الطين ومنغصات التراب، بنظرة تأملية عاقلة تقرأ كتاب الكون بقلب يعمره الإيمان، وينفخ فيه التفاؤل: تمعن فيما كثف من معان في قصيدته" اغمض جفونك تبصر "التي ترتقي بإحساسك بتأملية جاذبة وصوفية رقيقة، كأنما ينسج بالكلمات ابتهالاً، وينفث في الحروف صلوات، يتجه بها لمدبر خالق كريم رحيم منه البداية ولديه المآل.
إذا سماؤك يوماً... تحجبت بالغيوم
اغمض جفونك تبصر... خلف الغيوم نجوم
والأرض حولك إمّا... توشحت بالثلوج
أغمض جفونك تبصر... تحت الثلوج مروج.
وها هو الشاعر الأديب الوديع، يعلن ثورته في قصيدة "أخي" ورفضه للحرب وويلاتها، بعد أن عايش تجربتها جندياً في الجيش الأمريكي في الحرب العالمية:
أخي، إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله
وقدّس ذكر من ماتوا وعظّم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا.. ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتاً مثلي
بقلب خاشع دام
لنبكي حظ موتانا
أخي، من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي العارُ
لقد خمت بنا الدنيا، كما خمت بموتانا
فهات الرفش واتبعني
لنحفر خندقاً آخر
نواري فيه أحياناً...
في هذه القصيدة نلمس سَورة الغضب، ورفض الظلم من الإنسان لأخيه بمسميات تحط من قدر البشرية، وتلعن تقدمها الصناعي وتجارة السلاح والتكالب على حطام الدنيا، هذه العاطفة الجياشة تلعن الظالمين الذين يفرقون بين البشر حسب اللون والعرق والمنبت، وهم بذلك يعلنون قسمة الخالق الذي جعل الناس حيثما وجدوا يستظلون سماء الله، ويعيشون فوق تراب أرضه، فإذا كانت الحضارة وتقدمها قد أوصل البشرية للقتل والتنازع والموت، فحري بنا أن ندفن أنفسنا أحياء؛ لأننا نخالف بذلك فطرة الله في عمارة الكون بمحبة وإيثار ولمسة إنسانية.
يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريـر؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟
بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائـقِ والزهـور
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديـثَ الدهـور
بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانع في الطريـق
واليومَ قد هبطتْ عليك سكينة اللحدِ العميـق
بالأمس كنـتَ إذا أتيتُك باكيـاً سلَّيْتنـي
واليوم صـرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكـاً أبكيتنـي
في قصيدة "النهر المتجمد"، يؤنسن الشاعر الجماد وينفث الروح فيها، جاعلاً منها كائنات تحس وتتألم، وتسمع وترى وتشارك مخلوقات الكون الأخرى مشاعرها، وهو في هذه القصيدة يخاطب نفسه، ويحكي حاله جاعلاً من النهر المتجمد حالة يكشف رؤيته للكون والحياة.
ميخائيل نعيمة، ناسك الشخروب وشاعر الطبيعة، صاحب الحس المرهف، الذي عصر فكره وأذاب قلبه، ولخص تأملاته وصاغها شعراً بسيطاً عذباً يلامس الروح، وضمنه ديوانه الوحيد "همس الجفون"، الذي صدر في طبعة ثانية عن دار صادر ببيروت عام 1952، وجاء في 149 صفحة، ناشراً فيه أعلام الخير والمحبة والسلام، أملاً بالوصول بالبشرية لعالم فاضل أنقى، بعيداً عن الظلم والحرب، يليق بإنسانية الإنسان. وقد صاغ وعجن قصائده بصورة أخّاذة جميلة تأخذ بلب القارئ وتحرك وجدانه، مصاغة بكلمات من معجم تسمه البساطة العميقة، التي تكتسي بثوب الفكر، وتجري في عروقها دماء التجارب الناضجة والنظرة المتفائلة المطمئنة، للكون والحياة التي يخضع كل ما فيها لتدبير خالق عظيم.