شكلت همزة وصل بين المغرب وامتداده الإفريقي

كْلِمِيمْ.. بوابة الصحراء وملتقى القوافل التجارية

محمد العساوي


تعتبر مدينة كْلِمِيمْ (بتفخيم الكاف) واحدة من أعرق الحواضر المغربية، التي عرفت الاستيطان البشري بها منذ أقدم العصور، وهو ما كشفت عنه مختلف الأبحاث الأثرية والدراسات التاريخية، فهذه الحاضرة تحتل موقعاً جغرافياً استراتيجياً، يشكل نقطة التقاء الجبال بالهضاب والصحراء بالبحر، فهي تقع في جنوب المملكة المغربية على السفح الجنوبي للأطلس الصغير، بمساحة إجمالية تزيد عن (30 كيلومتراً)، كما أنها تبعد عن مدينة أكادير بحوالي (200 كيلومتر)، وعن مدينة تزنيت بحوالي (100 كيلومتر)، أما المحيط الأطلنتي الواقع في غربها فهو لا يبعد عنها إلا بـ(60 كيلومتر)، ومن الناحية الإدارية فهي تابعة لجهة كلميم – واد نون.
 

ومناخها مناخ الصحراء؛ الذي يتميز بحرارة وجفاف صيفاً وبرودة شتاءً، لكنه يبقى معرضاً للتيارات البحرية والقارية، ويتراوح المعدل السنوي للتساقطات المطرية ما بين (100 و400 ميليمتر)، بينما تصل الحرارة العليا إلى أزيد من (45 درجة) في شهر أغسطس، كما يخترقها واد نون الذي يعد من أبرز الأودية الدائمة الجريان في المغرب، وهو ما يجعلها تتوفر على غطاء نباتي متنوع في طليعته شجر الأَرْكَانْ والنخيل.

وعلى المستوى الديمغرافي فقد بلغ عدد سكان مدينة كلميم حسب إحصاء (2014م) أزيد من (100.000 نسمة)، جلهم من الفئة النشيطة، وتتألف التركيبة السكانية من مجموعات مختلفة من الأعراق والأجناس التي انصهرت مع بعضها البعض، مكونة من مجموعتين كبيرتين: الأولى مجموعة القبائل الحَسَّانِية العربية التي جاءت من قلب الصحراء، والثانية هي القبائل الأمازيغية التي استوطنت المنطقة منذ أقدم العصور.

أما مدلول اسم "كْلِمِيمْ"، فهو مشتق من الكلمة الأمازيغية "أَكْلْمِيمْ"، ومعناها البحيرة أو الظَّايَة، وفيما يخص تاريخ استقرار الإنسان بالمنطقة فترجعه معظم الدراسات إلى العصور القديمة، دون تحديد زمن مضبوط، غير أن تشييد المدينة الحالية "كلميم"؛ فإنه يعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي على عهد السلطان المولى إسماعيل العلوي، حيث كان الهدف منها هو أن تكون ملتقى للقوافل التجارية القادمة من فاس ومراكش والصويرة وغيرها من الحواضر المغربية، وأيضاً للقوافل الأخرى القادمة من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وبذلك أصبحت مدينة كلميم تتبوأ الصدارة في المبادلات التجارية بين المغرب وامتداده الإفريقي، وهو الدور نفسه الذي كانت تقوم به قبلها مثيلتها مدينة سِجِلْمَاسَة.

وقد اضطلعت منطقة كلميم بأدوار طلائعية عبر مختلف محطاتها التاريخية، وحتم عليها موقعها أن تلعب دوراً أساسياً في مجمل التحولات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي عرفها الجنوب المغربي بشكل عام، وهذه الأهمية هي التي جعلتها تتعرض للأطماع الأوروبية، وفي مقدمتهم الإسبان الذين تمكنوا من احتلالها في مطلع القرن العشرين، وبعد جهود سكان المنطقة في إطار المقاومة المسلحة والسلمية، تمكنت المدينة من الحصول على استقلالها انطلاقاً من سنة (1956م).

وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي لكلميم؛ فجله ينبني على القطاع الفلاحي وتربية المواشي، الذي يشغل عدداً هاماً من العمال، معتمداً في ذلك على الإمكانات المائية التي تزخر بها المنطقة، وتشتهر بشكل كبير بتربية الإبل، حيث يوجد بها سوق "أَمْحِيرِيشْ" الذي يعد أكبر سوق في المغرب مخصص لبيع الإبل، وقد شُيد منذ حوالي ثلاثة قرون، ممتداً على مساحة إجمالية تزيد عن ثلاثة هكتارات، ومن أهم البضائع التي كانت تباع في أسواق كلميم إلى جانب الإبل نجد: الملح، النسيج القطني، ريش النعام، الحلي، الصمغ... وكلها ساهمت في ازدهارها القوافل التجارية القادمة من البلدان الإفريقية.

تزخر مدينة كلميم بموروث ثقافي وطبيعي غني ومتنوع ساهمت في إثرائه مختلف الأجناس التي تواترت على المنطقة، ففيما يخص التراث الثقافي، فتجسده بالدرجة الأولى المواقع الأركيولوجية المنتشرة في مختلف الأرجاء، والتي تبرز بجلاء الجوانب التاريخية والعمق الحضاري لإنسان كلميم، خاصة فيما يتعلق بالنقوش الصخرية، وهو ما يزكي نظرية عراقة وقدم المنطقة، كما تتوفر كلميم على مآثر عمرانية ممثلة في السور التاريخي الذي يعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وأيضاً "قصبة أكْوِيدِيرْ" التي تحتوي على أربعة أبراج كبرى استعملت للدفاع عن المدينة من الهجمات الخارجية، إلى جانب وجود مجموعة من المنازل التقليدية والمحلات التجارية التي شكلت نواة المدينة الحالية.

كما تحتضن المدينة العديد من المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية، من أبرزها مهرجان أسبوع الجمل، الذي يقام فيه سباق الهجن باعتباره من الفنون التراثية التي كانت تمارس منذ القدم، في مجموعة من المناسبات الاحتفالية بالمنطقة، كما تشتهر أيضاً بالموسيقا الحَسَّانِية التي ساهم في رواجها التجار والرحل العرب الوافدين على المدينة، ومن الرقصات الشعبية المحلية هناك "رقصة الكَدْرَة"، وعلى مستوى الأزياء التقليدية، فتتمثل عند الذكور في زي "الدَّرَّاعَة الصحراوية"، وزي "المْلَحْفَة" بالنسبة للإناث.

وعلى مستوى التراث الطبيعي، فمنطقة كلميم توجد بها "واحة تَغْجِيجْتْ" التي تعد من أكبر الواحات في الجنوب المغربي، وأكثرها إنتاجاً لمختلف أنواع التمور، إضافة إلى توفرها على شجر الأَرْكَانْ الذي يقام له سنوياً مهرجان يبرز أهميته لدى سكان المنطقة، ويثمن المعارف التقليدية المرتبطة به، المتوارثة بين الأجيال.

وفي المقابل لقد أنجبت منطقة كلميم العديد من الأسماء البارزة في مختلف المجالات، من ضمنهم الأستاذ والشاعر "سيدي محمد ولد سيدي إبراهيم الدَّاهْ"، والإعلامي "ماجد الشَّجْعِي"، والفنان التشكيلي "عزيز المَهْدَاوي" الذي بصم على أعمال متميزة نابعة من الموروث المحلي... وغيرهم من الأسماء التي أعطت إشعاعاً للمدينة.

وختاماً؛ يكمن القول بأن مدينة كلميم بمؤهلاتها الطبيعية والاقتصادية والتاريخية استطاعت أن تحتل مكانة متميزة ضمن مصاف الحواضر المغربية العريقة كفاس ومراكش والرباط... الشيء الذي يجعلها مرشحة بقوة لكي تصنف كتراث عالمي من قبل اليونسكو في المستقبل القريب.

 


المراجع المعتمدة:
رشيدة بوشتى: "التراث وتشكل الشخصية بجهة كلميم واد نون"، مجلة الدراسات الثقافية واللغوية والفنية، العدد: 6، منشورات المركز الديمقراطي العربي، برلين، أبريل 2019، ص: 294-314.
الحسن المحداد، مادة: "كلميم"، موسوعة معلمة المغرب، العدد: 20، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 2004م، ص: 6811-6813.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها