نبضُ الصور!

انتصار عباس


أم علي تصحو فزعة على دوي فرامل سيارة علي، وهي تدب على الأرض ثم تتوقف فجأة.. هرعت إلى الشرفة تتفقد "الكراج" ها هي سيارة علي تقف واجمة، ما من شيء سوى هذا الحلم الذي يتكرر كل يوم.. تطرق رأسها مستغربة، تسأل نفسها: ولكن لماذا لم يعد علي يطلق زوامير الفرح حينما يصل، وكما كان دائماً وهو يصعد الدرج ويطرق الباب؟ تنظر ساعتها، إنها الثانية ظهراً، تمسك بالهاتف تهاتفه. الهاتف مغلق. (تحدث نفسها): هذا وقت عودته.. لعلّه كان قريباً، أو لعله مر بأحد أصدقائه الذين يقطنون في العمارة المجاورة، فكثيراً ما كانت تراهم وهم يلعبون الورق على الشرفة.

وقفت تلوح بيديها علّه كان هناك، أو لعلَّ أحدهم يخرج إليها يخبرها أنه سيتأخر قليلاً كما جرت العادة، لكنها لم تكن لترى أحداً منذ زمن، تعاود الاتصال: الهاتف المطلوب مغلق حالياً. وبينما هي على تلك الحال لمحت شاباً يقف في الشرفة المقابلة، يلوح منادياً: أمي، أمي. انتبهت للصوت وكمن يصحو من حلم. صاحت بفرح: عاد علي.. علي عاد، أخذت نفساً عميقاً وخرجت للشرفة، تلوح بكلتا يديها.. تعالى صوت الشاب وهو ينادي: أمي.. أمي.

ردت: تعال قبل أن يهبط الظلام، هل يرضيك أن أبقى وحيدة هكذا؟! لكنه لم ينبس بأي كلمة سوى: أمي.. أمي. ثم ناداها بأعلى صوته: تعالي. ولم يكتف بذلك، بل صار يشير لها لتذهب إليه. استغربت ابنها ولأول مرة يفعلها، ترددت في البداية كيف ستذهب؟! وماذا سيقول عنها أهل صديقه إن رأوها وهي بطبعها خجولة؟! لكنها في الوقت نفسه إن ذهبت سيطمئن قلبها وتخلع عنها هذا القلق، ودونما أن تشعر، خلعت ثوبها الأسود الذي كانت ترتديه وارتدت ثوبها الأخضر الذي جلبه علي في عيد الأم، وخرجت على عجل، لم يحتمل الأمر منها سوى بضع دقائق حتى كانت في الطابق الرابع، حاولت أن تلتقط أنفاسها، وقبل أن تقرع الجرس فوجئت بشاب يقف بالباب مرحباً بها ثم يدعوها للدخول، وما إن وطئت قدماها المنزل، حتى ارتمى الشاب في أحضانها يبكي: أمي.. أمي.

حاولت الرجوع للخلف قليلاً، لكن شلال دمعه أربكها وأفقدها القدرة على فعل أي شيء، تحلق بقية الصغار حولها.. انتابها شعور غريب أيقظ فيها حناناً دفيناً لم تكن تدريه، فما كان منها إلا أن احتضنتهم وهي تبكي، ثم ابتسمت قائلة: ما الذي يبكي ابني الجميل وعصافيري الصغار؟! قال بصوت تخنقه الدموع: لن تتركيني بعد الآن يا أمي.
قالت: يشقيني دمعك.. توقف وإلا سأرحل في الحال.
تشبث الشاب بثيابها كطفل استيقظ خائفاً، ثم هز رأسه وقد تورد وجهه بابتسامة شقت طريقها وسط الدموع: عديني بأن لا تتركينا بعد اليوم. أم علي: أعدكم جميعاً، فأنتم أبنائي لكنني سأغضب إن بقيتم هكذا.. هيا انزعوا هذا الحزن عنكم، اغسلوا وجوهكم وتعالوا نحتفل بلقائنا. تدافع الصغار نحو الداخل يغسلون دمعهم، قالت أخت الشاب بأسى وقد أشارت للصورة المعلقة على الجدار: هذا هو علي قبل أن يتعرض لذاك الحادث اللعين. وهنا هوى قلب أم علي لدى سماعها اسم علي، ثم قالت في نفسها: يا الله! حتى اسمه علي! ثم أخذت تتأمل صورة الشاب وهي تعانق الجدار وتضيء الغرفة بسحرها، بينما جلست على الجدار المقابل صورة الأب والأم، وكأن الصغار قاموا بفصل الجدار إلى نصفين، واحد للأحياء وآخر للأموات، بدا البيت فاقداً لروائح الحياة والطعم واللون وكل شيء.. حتى وجوه الصغار كانت مدينة شاحبة أقفل الحزن أبوابها. بدأ الصغار حركاتهم الطفولية، ذاك يقبل خدها، وتلك تشتم رائحة شعرها، وبحركة لاشعورية ركضت الصغيرة إلى حضنها قائلة: ما أجمل رائحتك يا أمي.

وجدت نفسها وهي تدخل ذاك الشراك ولا تستطيع الخروج، أو لعلّها لم تكن تريد الخروج منه أبداً. دبت روح الحياة، وقد تعالت ضحكاتهم وهم يتبادلون أرقام الهواتف والصور. دقت الساعة المعلقة تشير إلى الخامسة، عانقتهم قائلة: لا تقلقوا، سأذهب الآن أتفقد علياً ثم أعود، فهذا موعده، وما إن دخلت منزلها حتى أطلت عليها صورة علي المعلقة على ذاك الجدار في صدر الصالة تقابلها صور العائلة. تأملتهم طويلاً. وقد علا صوت ضحكاتهم، وصوت علي يطغى على كل الأصوات يصيح: أنا من يغني أولاً، فصوتي الأجمل والأقوى. يقترب يزرع قبلة على خدها ويغني: "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي".
يقاطعه صوت أبيه: خيانة! لم لا تنتظرني لنغني معاً.. "أحن إلى خبز أمي". صوت جرس الباب جعلها تجفل.. تفتح عينيها وتنهض تفتح الباب. وضع البقال الحاجات التي طلبتها وذهب.

عادت تتصل بعلي من جديد.. الهاتف مغلق..
تأففت، ورمت بالهاتف بعيداً. بعد قليل سمعت صوت رنة صغيرة، وبأصابع مرتعشة تناولت الهاتف، إنه علي لم تصدق فرحتها. فتحت الرسالة لتجد صورتها. ضمت الهاتف إلى صدرها، وأخذت تتصل بعلي قائلة: رقمه الجديد، كدت أنسى ذلك.. جاءها صوت الشاب: تأخرت يا أمي. تعالي قبل أن يبرد النهار ويلبس ثياب العتمة. انعقد لسانها ولم تستطع الرد. صاح الشاب: أمي.. أمي.

تقافز قلبها في صدرها، نظرت إلى الرقم المتصل وقد تذكرت أنها خزنت رقمه باسم "علي 2". زعيق زامور سيارة قادمة. صاحت: عاد علي، وركضت إلى الشرفة، كانت سيارة عابرة، صوت يقرع الباب، هرعت تفتح الباب، صوت الصغار بشوق ولهفة وبصوت واحد: أمي جهزنا كل شيء، تعالي معنا، وقد تعلقت أصابعهم الصغيرة بأذيال ثوبها، وأعينهم تشتعل بالفرح والرجاء. تنظر نحو الشرفة حيث علي وتلك الفرحة المعلقة هناك تلوح لها. لوحت له: إني قادمة. راحت تهبط السلالم هي والصغار، وهم يحملون الطعام والهدايا وحقيبة صغيرة تنام فيها صورة علي وباقي الصور.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها