لقد سيطرت الصورة المرئية على القراءة الورقية، وصارت ثقافة الصورة هي المصدر الأساسي لأي شخص يتطلع إلى المعرفة، صارت الصورة رمزًا من رموز عصر النهضة فهي ظاهرة ثقافية حداثية، حتى إن الإدراك الآن صار إدراكًا شكليًا يتم بالرؤية، وهنا انسحب دور الخيال الذي كان ينمو في ظل القراءة حيث الرسم بالكلمات، والحفر بالقلم على سطح الورق لتنطبع المعرفة في العين وتقبع في باطن الذاكرة.
وإذا أردنا تأصيل الصراع بين الصورة والكلمة، فسنجد أنه صراع قديم جديد، فقد أورد "الأصفهاني" في كتابه "الأغاني" خبراً عن حمدان الخرّاط/الرّسام، وبشار بن بُرد/الشاعر، قال فيه:
"أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي، قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان بالبصرة رجل يقال له: حمدان الخراط، فاتخذ جامًا لإنسان كان بشار عنده، فسأله بشار أن يتخذ له جامًا فيه صور طير تطير، فاتخذه له وجاءه به، فقال له: ما في هذا الجام? فقال: صُوَرُ طيرٍ تطيرُ؛ فقال له: قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذه الطيّر طائرًا من الجوارح كأنه يريد صيدُها، فإنه كان أحسن؛ قال: لم أعلم؛ قال: بلى قد علمت، ولكن علمت أني أعمى لا أبصر شيئاً! وتهددّه بالهجاء، فقال له حمدان: لا تفعل فإنك تندم؛ قال: أو تهددني أيضًا قال: نعم؛ قال: فأي شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك قال: أُصَوِّرُكَ على باب داري بصورتك هذه وأجعلُ من خلفِك قِردًا... حتى يراك الصادر والوارد؛ قال بشار: اللّهمّ اخْزه، أنا أمازحُهُ وهو يأبى إلا الجِدَّ" [أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، تحقيق: إحسان عباس وإبراهيم السعافين وبكر عباس، دار صادر، بيروت ـ ط3 ـ 2008 ـ ج3، ص: 105-106].
إن خوف "بشّار" من رسم "حمدان" له في صورة مُخلة وفاضحة، جعله يتراجع عن هجائه، موظفًا سلاحه/ الكلمة أمام سلاح أقوى/ الصورة.
فإذا كان الشاعر يمتلك الكلمة ويعرف قوتها وذيوعها؛ فإن ثمة قوة أكثر شيوعًا وتأثيرًا، إنها قوة الصورة التي يخشاها الشاعر ويؤمن بأنها أقوى من أي كلام.
الآن.. مع تطور وسائل التواصل المرئية صار العصر عصر الصورة، فشكل الصورة المؤطرة بكلام تُعدُّ مظهرًا من المظاهر الثقافية الطاغية؛ لأنها تجذب العين وتؤثر في جلب القارئ نحوها. ومع سرعة إيقاع الحياة أخذ القارئ يميل أكثر إلى التصفح السريع ويهرب من قراءة المقالات المكتنزة بالجمل والممتلئة بالسطور، فصارت الصور المقروءة هي وجبته السريعة المفضلة، التي تفتح شهيته لرؤيتها لِما تتسم به من قوة وسرعة وجاذبية وتأثير.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفكر في كيف لنا أن نُحيي القراءة والكتابة على الورق، حيث الصورة الذهنية المتخيلة في العقل بدلاً من المشاهدة العابرة التي شكلتها الثقافة الحداثية، وطغيان استخدام الأجهزة الحديثة: من (الحاسوب والتابلت والأيباد والهواتف الذكية)، التي حولت الجالس أمامها إلى متصفح يشاهد كماً هائلاً من الصور أكثر من كونه مفكراً يقرأ ويخزن في عقله، فأي شخص الآن لا غنى له عن الجلوس أمام شاشة جهازه، ولن يستمتع بهذا الجلوس إلا إذا كان هذا الجهاز متصلاً بشبكة الإنترنت، ولن يهنأ بوقته إلا بالدخول على مواقع التواصل الاجتماعي والتصفح للأخبار. وربما سيبذل هذا الشخص جهدًا كبيرًا، ومعه سيهدر وقتًا أكبر في مشاهدة وربما تحميل الفيديوهات المرئية من كليبات وأفلام ومسلسلات.
وهذا كله يعكس لنا حقيقة مفادها أن ثقافة الصورة المرئية حلت محل المعرفة التقليدية، التي تنبني على القراءة من أجل المعرفة، فصار نصيب الفرد من قراءة الكتب الورقية لا يتجاوز ثلاث ساعات سنويًا وذلك بحسب آخر الإحصائيات الرقمية، كما وجد كثير من الدارسين من واقع الاستبانات والإحصاءات أن نصيب الفرد في بلاد الغرب من تحميل الكتب، يفوق نصيب الفرد في البلاد العربية.
ولا يحتاج الأمر إلى دليل بالإحصاء والأرقام، فالواقع اليومى يثبت لنا ذلك، فمثلاً في مجال الغناء، صارت أغاني الفيديو كليب المرئية أكثر رواجًا من الأغاني المسموعة، وأصبح المستهلك يتطلع إلى الصورة السهلة ويعتمد عليها في اكتساب كل معارفه وفي سبيلها ترك القراءة الورقية التي تجعله يجتهد ويتخيل ويفكر، فالصورة حولت المثقف من شخص يفكر ويتخيل إلى شخص يشاهد ويتصفح.
ومن اللافت للانتباه أن واقعنا الاجتماعي الآن تحول إلى فضاء من التغريدات والتدوينات، والمشاهدات والتعليقات والإعجابات، فقد اكتظ بالصور والفيديوهات التي زاحمت وطغت واستعمرت حياتنا الاجتماعية الواقعية. فالأجهزة اللوحية والهواتف الذكية التي نلج بها فضاء التواصل من: فيس بوك Facebook وتويتر Twitter والانستجرام Instagram، وسناب شات Snapchat... صارت تدعم الحياة الانفرادية؛ وإن بدت أنها تؤسس لتواصل اجتماعي من نوع آخر؛ إلا أنها لا يمكن أن تحل محل الترابط الذي نحس به عندما نتلاقى ونتصافح ونتحدث، ونتفاعل وجهًا لوجه.
لقد صارت أصابعنا تتحدث أكثر من شفاهنا وتحول تواصلنا الاجتماعي إلى كلمات نكتبها ونرسلها، وانعكس هذا بدوره على العلاقات والروابط الأسرية، فظهر ما يُعرف بـ"الأسرة الإلكترونية"؛ لأن أفرادها منعزلون، يتحدثون أكثر بالأصابع، وهنا يكمن خطر داهم يزلزل العلاقات الإنسانية الطبيعية لتتحول إلى مجرد قشرة زائفة تفتقد الحميمية والأريحية، وتخضع للخداع البصري عبر الصور والفوتوشوب والكذب، وانتحال الشخصيات.
لقد أصبح التصفح والتواصل عبر الفضاء الافتراضي بديلاً مقبولاً لدى شريحة كبيرة ممن يجلسون أمام شاشة الحاسوب، أو يلمسون شاشات هواتفهم الذكية، ويبدو ظاهريًا أن غرضهم التسلية والمتعة أو قطع وقت الفراغ، ولكن ثمة شريحة كبيرة تندرج في حيز الإدمان المرضي.
لقد بلغ الشغف بالمشاهدة والتصفح ومتابعة الأنشطة المعروضة على صفحات الفيس بوك، إلى التحول عن الجوانب المعرفية، لنتابع فقط، الصور ومضامين الجذب والتشويق. وهنا تكمن مشكلة جلية، تتمثل في أن كثرة ساعات المشاهدة والتصفح، لا تمنحنا الإشباع، فيستمر هذا التصفح حتى يصل بنا إلى حدود الجهاد الحقيقي، واستنزاف الوقت، ويقلص فرص التواصل داخل المجتمع الواقعي مما يضعف علاقاتنا بمن حولنا، ويشغلنا عن خوض غمار حياتنا الواقعية. لقد تحولت مواقع التواصل الافتراضي إلى قنبلة موقوتة وخطر داهم، وحرب صامتة، تهدد حياتنا النفسية والاجتماعية؟
وختامًا نؤكد على أن الانصراف نحو الصورة والتوجه نحو الجلوس أمام الشاشات الإلكترونية حل محل المعرفة الحقيقية، حيث حل جهاز الكمبيوتر محل الكتاب، وحل الماوس محل القلم، وحلت الشاشة المرئية محل الصفحة الورقية، ومن هنا فقد زادت المشاهدة والتصفح السريع وقلت القراءة والتمعن الدقيق فطغت الصورة على التخيل. وهذا سيؤدي بدوره إلى هشاشة الثقافة.. ضحالة الرؤية.. سطحية التفكير.