جمالية القبح

في ديوان "ذلك البزوغ الأول" لوفيق سليطين

د. ساندرا عفش


إن القارئ لشعر وفيق سليطين؛ وتحديدًا في ديوانه الأخير (ذلك البزوغ الأول.. ذلك الاحتجاب العظيم)، سيقف مباشرة على فلسفة إنسانية، تستجلي معالم النفس البشرية ومعانتها في ظل الصعوبات والقهر، وهو في هذا الديوان يروي قصة الإنسان السوري تحت وطأة حرب استمرت سنوات، بطريقة قد تبدو للوهلة الأولى تشاؤمية، لكنها في حقيقة الأمر نظرة تنويرية، تهدف إلى تعرية الواقع بغية تعديله. ونجده في هذا الديوان قد وضح رؤيته بدءاً من العنوان الذي يحيل على معانٍ ثنائية الحضور والغياب؛ حضور القهر وغياب المرغوب، كما أنه أغفل عنونة النصوص فاستبدل بها الأرقام، وهي 44 نصًا في ديوان من القطع الصغير بثمانين صفحة، وقد صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2021م، قبيل أيام من رحيله. ويذكر أن الدكتور وفيق سليطين من مواليد اللاذقية-سوريا عام 1961م، وهو شاعر وناقد وأستاذ جامعي وعضو اتحاد الكتاب العرب، صدر له في النقد عدد من الكتب منها: (الشعر الصوفي بين مفهومي الاتصال والتوحد)، (الزمن الأبدي)، وصدر له في الشعر دواوين، منها: (عناقيد الزبد)، (أخضر كالسرير)، (العتبات)، وغيرها.
 

فذلكة جمالية:

بعيدًا عن النظرة المثالية للوجود، فإن الأكثر حضورًا من القيم الجمالية في الواقع المعاش هو القبيح، على عكس ضحالة حضوره في كلٍّ من التنظير الجمالي والأداء الفني إذا ما قورن بحضور قيمة الجميل فيهما، ومن هنا فإن دراسة قيمة القبيح تنظيرًا وتطبيقًا تشكل ضرورة تساعدنا على فهم الواقع أكثر، واستجلاء ملامحه وأهدافه، وتعديلها حين تتاح الفرصة.

إن ما يشدنا في الجميل هو ميل فطري نحو الحياة التي يمثلها، وكذلك فإن "ما يشدنا في الجميل هو شذوذه عن قاعدة النقص المعممة"1، فالنقص هو شرط القبح، وهو سمة جوهرية في كثير من المخلوقات والأحوال والعلائق، وارتباطنا الفطري بما يجب أن تكون عليه الأمور يعمق المشاعر الجمالية السلبية تجاه ما يحمل القبح، ذلك أن الكمال -وهو شرط الجمال- هو من الندرة بمكان. لذلك نحن غالبًا نصف بالقبح ما لا يمنحنا الجمال ونحن نتوقع منه ذلك2، ومن هنا تتبدى أقسى المشاعر الجمالية المرتبطة بالقبيح، وهي خيبة الأمل بغياب الموضوع المراد، وحضور البديل القبيح.

أما جمالية القبح فالمقصود بها هو تصوير الموضوعات التي تحمل قيمة القبيح، إنما بشكل جميل بالضرورة، وذلك لأن الفن -حتى يكون فنًا- يشترط الشكل الجميل، "فبصرف النظر عن الدلالات التي تحيل عليها جمالية القبح، فإن التقويم الجمالي لها يقوم على أساسين اثنين: النفور من الموضوع، والقبول أو الإعجاب أو الاندهاش بتشكيله"3، وهذا ما يجعل المتعة الجمالية في معايشتنا جمالية القبح مضاعفة؛ فمن جانب أول هي متعة بالشكل الفني الجميل، ومن جانب آخر متعة بفهم الموضوع القبيح عبر مسافة جمالية فاصلة بين هذا الموضوع وبين متلقيه، من غير أي مساس؛ ما خلا المساس الشعوري التقويمي.

إن الشعر الحديث اعتنى عناية بالغة -بل مبالغًا بها أحيانًا- في تقديم قيمة القبيح في نصوصه، لأسباب أكثر من أن نحصيها، لكنها تتلخص بالموقف العام الذي نهجه الشعراء في رفض الواقع ومحاولة تغييره فنيًا، "لأن استعلاء جمالية القبح في شعر الحداثة العربية يحيل أساسًا على الموقف الجمالي السلبي الذي يتخذه الشعراء، من الواقع الذي يعيشونه ويعانونه معًا"4، وهذا ما كان يرتبط غالبًا بالشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تردت في هذا المكان أو ذاك، فتحول الرفض هاجسًا للتغيير. فالقبح لا يصور فنيًا إلا من أجل نفيه جماليًا5، فهو يلفت أنظارنا نحو ما يجب أن ننفر منه، بل إنه يعمق فنيًا مشاعر النفور، حتى نلتفت لاحقًا إلى ما يجب أن يتحقق من جمال، "فيمكن أن نستهدف القبيح باعتباره عامل عزل، لكنه قد يكون أيضًا نداء لحشد المجتمع كي يواجه مخاوفه، كما أن تحديد القبيح ربما يكشف عن توترات اجتماعية على أهبة التغير أو بحاجة للتصحيح، حيث يمكن لتلك العملية أن تكون تنويرية"6، ومن هنا نستطيع أن نقول إن هذا الديوان المترع بالقباحة بأشكالها لم يكن تشاؤميًا، إنما كان تنويريًا، يحمل في دلالاته رغبة في توعية المجتمع، ولفت نظره نحو القبح المتجذر في الموضوعات المحيطة، في عملية استفزاز جمالي، يهدف إلى التصويب والتعديل والتغيير من خلال شكل فني شعري حداثي.

ويمكن أن نفصّل في طرق الأداء التي اعتمدها سليطين في ديوانه ليقدم القبح فنيًا بثنائية الغياب والحضور أولاً، والأشكال والمشاهد الجمالية القبيحة ثانيًا.

الغياب والحضور:

إن المقصود بثنائية الغياب والحضور هو طغيان جانب القبح وتهميشه لما يجب أن يكون، إن تهميش الملائم بدفع من القبح من جهة، وبتخاذل من الجميل من جهة ثانية يجعلنا أمام حالة تعميم القباحة في الواقع، "فيتم تعميم جمالية القبح على الواقع برمته، بشكل يبدو فيه الواقع جملة من القباحات التي لا يمكن احتمالها أو التعايش معها إنسانيًا، وذلك في نوع من التنفير الأشد، أو التحريض الأقوى على نفيها"7، فما يحمله التعميم من مبالغة ما هو إلا حالة دفع شعوري للعبور من النفور إلى سلوك آخر، كما أننا -كما نرى في ديوان سليطين- لم نكن أمام مبالغة فجة؛ إذ إن توجه النصوص نحو الشأن الاجتماعي بجوانبه السياسية والاقتصادية بله الوجودية، يحكي شأنًا جماعيًا، لا شأنًا فرديًا، كما أن "الجماعات الثقافية التي أُقصيت إلى الحدود وقُبِّحت أحيانًا بسبب الخوف، تتطلب منا إعادة تقييم معنى القبيح من خلال مقارنة السياقات"8، فمن المتوقع أن نكون أمام حالات التعميم، التي قد تُصوَّر فنيًا بشكل اجتماعي حينًا، وبشكل فردي جزئي حينًا آخر.

ويبدو كلٌّ من التهميش والغياب بتعطيل فعل الكلام، فسلطة القول هي سلطة الفعالية الأولى ثقافيًا، فحين يُسلب الكلام من القائل/الشاعر، بفعل العجز من جهة الذات، وبفعل سلب القدرة من الآخر الذي يفرض حضوره، يغدو الغياب متجسدًا بالصمت، وبلا جدوى القول؛ يقول سليطين:
لمن نكتب..
ونحن ندير مرايا العدم
في كل شيء؟!
سبقَنا ظلُّنا إلى المقبرة
وما زلنا في الطريق
نحزن قليلاً
ونقرأ اليافطات الملونة
عن سعادة العالم بنا.. [5-6]

إن رفض الاستلاب الواقعي لا ينفك يظهر بالرفض الكلامي أولاً، فإذا غابت جدوى الكلمات، ضاعت النتيجة المرجوة لتبديل قباحة المحيط، فيحلُّ الصمت بديلاً، وفعل الكلام مرهون بالقدرة الإنسانية على التغيير، وهو خصوصية فحولية تثبت الفاعلية الاجتماعية9.

كما أن غياب فعالية التلقي يُفقد الشاعر شهية الكتابة، وهذا يظهر من تعميم تجربته مع قباحة الاستلاب على المجتمع بأكمله، المجتمع السائر نحو الهاوية، في موقف فردي- اجتماعي في آن، ويترافق ذلك مع حضور مفروض مبهرج لعبارات تخل توازن الواقع بعدم ملاءمتها له، فالعجز من جهة، وغياب فعل التلقي من جهة ثانية، وحضور غير المرجو من جهة ثالثة، أقام ثالوث اللاجدوى الشعرية.

ويعود غياب القدرات الكلامية إلى حضور نص آخر مضاد، يغيّب قسريًا كلام الذات؛ وهذا ما يدعو الشاعر لإعادة البدء من جديد، في عملية تطهير تواصلي؛ يقول:
أريد أن أنظف نفسي قليلاً
بارتقاء سلالم الصمت والنسيان
أريد أن أفر إلى قبو أول
في ألسنة الأشياء المنعقدة
بثديها الكوني الأبلغ
أريد أن أتلعثم في الكل
أن أتلعثم في مطر أول
على نافذة العالم المبصرة [42-43]

ففي محيط ممتلئ بالقباحة بكل أشكالها ومن بينها التواصل القبيح، يغدو الصمت هو الطرف النقيض، ومن ثم فهو يمثل الجميل/الطاهر/السامي، إذ يمثل غياب السلطة الكلامية في ظل حضور السلطة المضادة قيمة إيجابية مقترنة بالطهر (أنظف نفسي)، ويمثل شكلاً آخر من الرفض، كما تبدو زاوية النظر المكانية منخفضة حين يدخل في صراع كلامي عبثي مع السلطة المضادة، فيكون الصمت حينها ارتفاعًا مكانيًا يمثّل سموًا بالموقف الرافض، ويتغيّر المنظور المكاني بالانخفاض نحو المكان المغلق (القبو)، الذي يتبدّى بصورة إيجابية، والذي يمثّل هنا مهربًا، فهو بدلالته الحاملة لمعاني التغيير الثائر، يشكل أيضًا حالة رحمية تحتضن محاولات الكلام الأولى التي تستمد أساسها من (الثدي الكوني الأبلغ)، فيستمد سلطة الكلام من مصادره الأم، فهو بحاجة لأن يتعلم من جديد بكل تلعثم المبتدئين أصولَ الكلام الذي سيقاوم فيه الكلام المضاد، فأدوات القمع تتطلب تجديدًا لغويًا يعود به إلى مصادر القول الأولى، ومن هنا ينتقل المنظور المكاني إلى مكان مغلق أيضًا، لكنه مطل (على نافذة العالم المبصرة)، فهو قد خرج من حالة العمى المكاني في القبح، إلى إبصار الحقائق والإشراف عليها بأدواته الرافضة الجديدة.

وقد يتبدى الغياب مفردًا في تمثيله لقيمة القبيح، فحين تغيب الموضوعات أو الخصائص المرغوبة فإن النقص يحيلنا مباشرة على القبح بأعتى أشكاله المخيبة للأمل؛ يقول سليطين:
كانت المدينة..
المدينة التي كانت..
هي كلُّ ما تبقى من الرغوة والملح
من الأحلام المبتورة
والشواطئ الضريرة..
هي كلُّ ما تبقّى من خصوبة الموت
في عيون أسيادها الغُزاة. [22]

إن حالة الزبد التي مثلتها المدينة بالرغوة والملح شكلت ملامح غياب الخصائص المرجوة، بله المنطقية، وحضور العبثية والموات وانعدام الخصب، وليس غياب الخصائص المكانية في المدينة هو ما ينفرنا، لكنه غياب الأفق الحضاري (الأحلام المبتورة، والشواطئ الضريرة)، ويبدو النقص الحضاري المعبر عنه بطريقة شكلية موضحًا لسمات القبح المحيق، فالعمى مثلاً -تاريخيًا- لا يعرف على أنه محض حالة جسدية؛ لكنه يحيل على جملة من التوصيفات المترافقة مع المخيال الجمعي؛ كالبليد والجاهل والذاهل والعشوائي والمتعثر10 وسواها من الصفات التي تدل على غياب الوعي في كل من الحاضر والمستقبل، كما يدل البتر في الأحلام على حالة من العجز تعيق الحركة نحو الأمام، ففي العمى نقيض للجمال الذي يفترض الكمال أو التكامل، وكذلك البتر الذي يترافق مع نقص في الحيوية والحركة، ومن ثم نقص في الحياة ذاتها، فملامح المدينة تراجعت وغابت حتى تلخصت بجملة من النواقص. وذلك أن الملامح غير المتناسبة قد لا تحيل على القبح بالضرورة، في حين أن غياب الملامح هو ما يعنيه القبح، بل هو واحد من أشد مظاهر القباحة تعقيدًا11، فتبدو المدينة بحالة المرآة غائبة الفعالية والملامح؛ أي عاكسة لقبح السلطة المضادة (عيون الغزاة)، وهي عيون ناقلة لعدوى القبح؛ عيون ميدوزا التي تحول كل ما تنظر إليه إلى كتلة من موات.

الأشكال والمشاهد الجمالية:

وذلك حين يركز الشاعر على تصوير بعض الأشياء والأمكنة والأشكال والمشاهد المفعمة بالقبح، في تنقل بين موضوع جزئي يحدد صفاته وملامسته لواحدة من الحواس الجمالية العليا أو الدنيا، انتقالاً إلى تصوير مشاهد تحتوي عددًا من العناصر القبيحة بذاتها، والقبيحة بعلاقاتها أيضًا. وقد يُقدّم القبيح حسيًا واجتماعيًا بالترادف مع شيء من الكوميديا، يقول سليطين:
ما لكم يا أشباهي..!
ما لكم توقفتم عن المضغ
وتلكأتم في ازدراد العصور القادمة! [54]

ويتبدى المنحى الحسي في النص بفعل (الازدراد)، فإن مذاقات الأشياء غير الملائمة لا ترتبط فقط بالتجربة الإنسانية-الفردية، ولا ترتبط فقط بالمذاق القبيح حسيًا، لكنها ترتبط كذلك بما هو مرفوض اجتماعيًا، أو ما أخذنا عنه تصورًا مقززًا من غير أن نجربه، "فالمذاقات القبيحة ترتبط ثقافيًا بالإيتمولوجيا [الأصول]، ولذلك فهي تنبثق مما نخافه أو نخشاه"12، ومن هنا يتمازج رفض طعام ما -حسيًا أو وجدانيًا- بما نخافه لا بما نكره مذاقه فحسب، وكذا فإن طعم العصور القادمة لن يكون مختلفًا كثيرًا عن مذاق ما يعانيه مجتمع سليطين آنئذ، لكنه مُجبر على "ازدراده" من غير رغبة منه.

إن تقديم القبيح بصيغة كوميدية يحيل أولاً على النقد الاجتماعي اللاذع، في محاولة أخيرة لتغيير الواقع المستلَب، وهي طريقة فعالة في التأثير الاجتماعي؛ وذلك لما تحمله الكوميديا من تحريض للعقل والمنطق، على عكس التراجيديا أو توصيف القبيح اللذين يحيلان على التأثير الوجداني أولاً، فالمزج بين الإنسانية وما للحيوانات من خصائص الخضوع والاجترار هو انحراف عنيف نحو القباحة الإنسانية-الاجتماعية المثيرة للاستهجان، "ففي شتى الحالات التي نكون فيها إزاء انتحال أو إزاء انحراف عن الحق، ترانا نقع على متناقضات مفاجئة وناصعة الوضوح، كما نقع على تغيرات في المنظر وتحولات في الإدراك الباطني، تهز الخيال وتنبه على نحو بالغ"13، فشدة الانحراف تثير تنبيهًا لدى كل من المتلقي الداخلي والمتلقي الخارجي، مما يدفعه -ولو بأمل ضئيل- نحو التغيير.

إن التحريض العقلي للكوميديا حول انفصام المجتمع عن إنسانيته إلى تمثيله قطيعًا من المجترات لا يخلو من المتعة الجمالية بشقيها؛ الإيجابي والسلبي؛ وذلك لأن "الحطة وعدم التناسب يضايقاننا حتى في المزاح، ويظلان دائمًا مصدر كدر، وأن ما نشعر به من لذة إنما يأتي مما في الموضوع المتخيل من حركة باطنة معقولة"14، فمصدر المتعة الجمالية الإيجابية يتأتى من الحركة العقلية التي تلقي نظرة شمولية ناقدة على المجتمع المستلَب، والمتعة الجمالية السلبية تتجسد بحالة من الوجوم والكدر، فهذه الابتسامة المريرة هي مصدر الكوميديا السوداء في هذا النص، وهذا التعقيد الشعوري فيما يخص الكوميديا السوداء ينبع عن عملية التصور، "فعملية التصور تتضمن مشاعر مختلفة، بالحركة والعلاقة، مشاعر قابلة للتدرج الذي لا حصر له، وللتعقيد الذي لا ينتهي، تتفاوت من الجلال إلى الملل، ومن الشجن إلى المرح"15، فهي إذًا شبكة أو سلسلة من المشاعر التقويمية الجمالية تبدأ وتصب في النقد الاجتماعي ومحاولة كسر قيد الواقع المرير.

وقد يتوزع الحاسة كلٌّ من قيمة الجميل وقيمة القبيح؛ كما نجد في نص يدور في فلك حاسة اللمس؛ يقول سليطين:
ثلاثة أحجار..
أمرر يدي عليها
وأمتلئ بالزهو!
كنت أتخير لها الأسماء
أناديها..
وأتبادل معها
ثلاثة أحجار..
وأنا رابعها [19]

إن كلاً من العدد ثلاثة والحجارة تمثل رموزًا مقدسة ثقافيًا، إذ "غالبًا ما تكون الحجارة في نظر البدائيين مثقلة بالمقدس"16، فللحجارة قدسية الأصنام والتماثيل وخصائص الخلود النسبي إذا ما قورن وجوده بأنواع الوجود الأخرى، وبما أننا أمام عنصر بدائي فإن التعرف إليه سيكون عبر الحاسة الأكثر بدائية، وعلى طريقة الأطفال؛ يتلمس الشاعر الأحجار متحسسًا ماهيتها، التي بدت منتمية إلى قيمة الجميل-المريح، فيمتلئ بالفرح البدائي. فالاتساع الذي تمنحه الموضوعات الملموسة وأشكالها تنقل اللمس أبعد من أصابع اليدين كي يشمل كامل الجسم البشري17، أما عددها، فعند كثير من الشعوب نرى الرقم /3/ هو رقم التناسق؛ بل الكمال18، فالثالوث المخلد الراسخ دفعه إلى إطلاق الأسماء عليها، أي الاعتراف بوجودها الفعلي، ومن ثم تبادل الحديث/الوجود معها، ليكون رابعها، و"العدد /4/ هو عدد الثبات"19، في محاولة منه لترسيخ وجوده الفردي بالاعتماد على عنصر طبيعي يمتاز بالرسوخ من جهة، وبالفعالية المقدسة من جهة ثانية، وتستدعي صورة الأحجار الثلاثة في مخيلتنا العربية مشهد الأثافي، مما يجعل حضور الحجارة الفاعل وفق النظرة الفطرية خاضعًا للاستلاب، أو الاستهلاك والتشيؤ وفق معطيات الواقع المرير، ففي وسط المحيط القبيح، تُصاب الموضوعات الإيجابية بعدوى القباحة.

وفي تجاور بين المجردات من جهة، وبين الأمكنة والروائح والملمس، يقول سليطين:
رائحة الغربة
في الملابس
على حيطان البيوت
تخزُ المسامات التي نستقبل بها الحياة
الغربة التي كبرت تحت سقفنا الواطئ
مر عامان على الموت الأقصى..
ولم تندمل.
كانت تتكلم في الأثاث
وفي حواس الأشياء
الغربة التي كبرنا معها..
كانت فردًا من العائلة [25-26]

يدور النص حول موضوع الاغتراب ضمن المكان الأليف، فالشاعر لا يتحدث عن الغربة الحقيقية بالخروج من الوطن، لكن نصه يعبر عن اغتراب ضمن الوطن، بل ضمن البيت، وذلك حين يتحول أكثر الأماكن تعبيرًا عن الألفة إلى مكان موحش، وحين يتضخم الشعور فإنه يتحول إلى موضوع يكاد يكون حسيًا، وقد عبر عنه في نصه بحاسة الشم، وذلك لارتباط الشعور بما هو زمني ومكاني، "بإغلاق أعيننا وآذاننا وتحويل رادارنا الحسي بعيدًا عن البصر والسمع، سيترافق الشم مع مجال زمني ومكاني"20، إذ تعد الذاكرة الشمية هي الأكثر ارتباطًا بالأمكنة والمواقف والذكريات بشكل غامضٍ يكاد يكون غير واعٍ، "فالروائح تحرض الروابط مع الماضي من خلال تجارب الحاضر"21، وبذلك فإن الرائحة القبيحة للغربة هي المعبرة عن الزمن الموحش "للموت الأقصى" و"للغربة التي كبرنا معها"، وكأننا أمام حالة تفسخ شعوري تجاه استمرارية القباحة زمنيًا ومكانيًا، كما أن الروائح الكريهة قد تخترق الحواس الأخرى، فمن الروائح ما هو مؤذٍ للعيون، ويخلف آثارًا لاذعة على الجلد، ومنها ما يعطل عملية التنفس/استمرارية الحياة، ومن هنا كانت رائحة الغربة "تخز المسامات التي نستقبل بها الحياة، لم تندمل"، "فمن بين جميع الحواس، أكثرها تعديًا – بمعنى عبور الحدود- هي حاسة اللمس. اللمس يتغلغل عبر بقية الحواس بما أن الجلد يمثل الحاجز بين النطاقين الداخلي والخارجي، وكل عضو هو بشكل أساسي امتداد؛ الرؤية والسمع والشم والأكل كلها توسع الشعور والملمس، اللمس يدخل اللحظية إلى القباحة"22، وهنا يتعمق الحضور الزمكاني لقباحة الغربة، وهذا التراسل في الحواس يعمق التأثير الشعوري الذي صار مشتركًا مع عناصر المكان "كانت تتكلم في الأثاث، وفي حواس الأشياء"، وهنا ينتقل إلى التعبير الفعلي الأعمق وهو الكلام، إلى أن يصل بها إلى أعلى درجات الفاعلية الوجودية؛ حين يؤنسنها بوصفها فردًا من عائلته، فالغربة حاضرة باستمرار من خلال تجسديها أولاً برائحة وملمس يطرقان كلاً من الذاكرة والواقع، إلى أن تعلن وجودها الأقصى بدخولها مكونًا اجتماعيًا من المفترض أن يكون الأكثر ألفة، وهذه أقسى حالات الاستلاب؛ حين نألف وجود القبيح.

وفي الختام، تظهر قصيدة النثر لدى سليطين في ذروة وظيفتها الفنية الثورية، الذي تنحو منحى التعبير الحر عن المواقف، مع روحية تنويرية تهدف إلى التغيير، فتثور في المضمونات والشكل الفني على حد سواء.
 


هوامش: 1. عفش، ساندرا، القيم الجمالية في الأدب الأندلسي، دائرة الثقافة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2023م، ص: (59). 2. انظر: ستيس، والتر، معنى الجمال، تر: عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2000م، ص: (96).│3. كليب، سعد الدين، في النقد الجمالي، دائرة الثقافة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، ط (1)، 2020م، ص: (224).│4. نفسه، ص: (225).│5. انظر: نفسه، ص: (226).│6. هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، تر: رشا صادق، دار المدى، بغداد، العراق، ط (1)، 2020م، ص: (154).│7. كليب، سعد الدين، في النقد الجمالي، ص: (226).│8. هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، ص: (93).│9. انظر: الغذامي، عبد الله، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط (3)، 2006م، ص: (157).│10. انظر: هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، ص: (134).│11. انظر: نفسه، ص: (122).│12. هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، ص: (203).│13. سانتيانا، جورج، الإحساس بالجمال، ص: (261).│14. نفسه، ص: (265).│15. نفسه، ص: (263).│16. سيرنج، فيليب، الرموز في الفن-الأديان-الحياة، تر: عبد الهادي عباس، دار دمشق، دمشق، سوريا، ط (1)، 1992م، ص: (366).│17. انظر: هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، ص: (205).│18. انظر: سيرنج، فيليب، الرموز في الفن-الأديان-الحياة، ص: (446).│19. نفسه، ص: (451).│20. هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، ص: (191).│21. نفسه، ص: (184).│22. نفسه، ص: (204).
المراجع:
• سانتيانا، جورج، الإحساس بالجمال، تر: مصطفى بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر، لاتا.
• ستيس، والتر، معنى الجمال، تر: عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2000م.
• سيرنج، فيليب، الرموز في الفن-الأديان-الحياة، تر: عبد الهادي عباس، دار دمشق، دمشق، سوريا، ط (1)، 1992م.
• عفش، ساندرا، القيم الجمالية في الأدب الأندلسي، دائرة الثقافة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، ط (1)، 2023م.
• الغذامي، عبد الله، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط (3)، 2006م.
• كليب، سعد الدين، في النقد الجمالي، دائرة الثقافة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، ط (1)، 2020م.
• هندرسن، غريتشن. إي، التاريخ الثقافي للقباحة، تر: رشا صادق، دار المدى، بغداد، العراق، ط (1)، 2020م.

 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها