فضاءات الإبداع القصصي بين الواقع والخيال

مقاربات في قصص أحمد زياد محبك

د. أحمد عبد المنعم عقيلي


حين يتحدث الدارسون والباحثون والمتخصصون في الأدب وانعكاساته في الواقع الثقافي من جهة، وفي الواقع الإنساني الاجتماعي من جهة أخرى، فإن الأنظار ستتجه إلى القصة - أيقونة الأدب، وشريكته الفضلى – فهي التي تنمو غالباً في ظلال المجتمع، لتواكب ظروفه المعيشية، وتلامس ظروف الناس وأحوالهم على اختلاف طبقاتهم، محاولةً رسم ملامح واضحة لهذا المجتمع، لبناء صلة الوصل بين أفراده من جهة، ورسم لوحة لأبرز أحداثه وانعكاساتها في بنيته الواقعية من جهة أخرى.
 

ولا شكّ أن لكلّ فن أدبي روّاده وأعلامه الذين أبدعت أقلامهم نتاجات أدبية خالدة، وفي القصة الأدبية على اختلاف أنواعها، تطالعنا أسماء كبيرة لمبدعين أغنوا المكتبة العربية بنتاجهم المتميز على امتداد وطننا العربي، عبر مسيرتها الممتدة والمتطورة منذ البدايات مروراً بالارتقاء، فالتطور والنضج، من أمثال: نجيب محفوظ، يوسف إدريس، يحيى حقي، زكريا تامر، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، أحمد زياد محبك وغيرهم كثير، علماً أنّ هذه الأسماء للتمثيل لا الحصر.

ولعلنا سنقف في قراءتنا هذه على ومضاتٍ جمالية لنتاج علم من أعلام القصة في عالمنا العربي، قدّم للمكتبة العربية كثيراً من الإبداعات القصصية التي لامست المجتمع وواقعه، بريشة فنان مبدع خالد، إنه القاص والروائي: الدكتور أحمد زياد محبك، فمن هو فارس قراءتنا هذه؟

إنه الأستاذ الجامعي، المفكرّ، الأديب، الناقد، والقاص، الدكتور أحمد زياد محبك...

أحمد زياد محبك في سطور:

الأستاذ الدكتور أحمد زياد محبك، من مواليد مدينة حلب، الجمهورية العربية السورية، عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين للميلاد.
واحد من أبرز الأدباء والمؤلفين والكتّاب العرب الذين كتبوا في الأدب العربي في العصر الحديث، وكانت لهم مساهمتهم البارزة وبصماتهم الخالدة، ولم تقتصر إبداعاته على القصة فحسب، بل كتب في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، إضافة إلى عمله الأكاديمي المتميّز، أشرف على عدد كبير من أطروحات الدكتوراه والماجستير، كما تقلّد مناصب أكاديمية وإدارية كثيرة، ترك فيها كلها بصمات إبداعية خالدة.
كتب الدكتور محبك كثيراً من المؤلفات الإبداعية، وهي مؤلفات تتسم بالتنوع، إضافة إلى دورها الكبير في إثراء الساحة الأدبية بغنى معرفي وعلمي وثقافي كبير، لعلنا نذكر من أبرزها:
حركة التأليف المسرحي في سورية، وهي دراسة بحثية علمية، صدرت عن اتحاد الكتّاب العرب في سورية، وذلك عام 1982م، وكانت في حوالي 430 صفحة.
وكتاب: من الحكايات الشعبية، وهو مجموعة من الحكايات الشعبية، ذكرها الكاتب بأسلوب متميز وشائق، وقد صدرت عن وزارة الثقافة السورية، عام 1983م، وهو في حوالي 194 صفحة.
ومن مؤلفاته القصصية: يوم لرجل واحد، وهو مجموعة من القصص القصيرة، صدرت عن اتحاد الكتّاب العرب في سورية، عام 1986م، في حوالي 200 صفحة.
ومن مؤلفاته أيضاً المسرحية التاريخية في المسرح العربي المعاصر، وهي صادرة عن دار طلاس في دمشق، عام 1989م، وهي في حوالي 374 صفحة.

وتتوالى نتاجاته الإبداعية، ومؤلفاته الأدبية الغزيرة بين القصة والمسرح والرواية والنقد الأدبي والتي يزيد عددها على 40 مؤلفاً، نذكر منها في الرواية والقصة القصيرة - موضوع دراستنا-:
شقة على شارع النيل، وردات في الليل الأخير، وحلم الأجفان المطبقة، وفوق سطح العمارة، والعودة إلى البحر، والأعمدة والغزالة، وحجارة أرضنا، وأبو معتز والكناريات، والتفاحة الأخيرة في الحقل، ويوم لرجل واحد، والرحيل من أجل مها، وطعم العصافير، وحمامات بيض ونرجيلة، ونجوم صغيرة، والليل لا يجف، وعريشة الياسمين، وما أزال أنتظر، وريش نعام، والسرير والمرأة، والكوبرا تصنع العسل، ونوافذ وشرفات، ولأنك معي، ونظرات متبادلة، وأيام عشناها، وغيرها كثير.

الفضاء الاجتماعي في النتاج القصصي لدى زياد محبك:

يجد المتتبع والقارئ المتفحص في النتاج القصصي للدكتور محبك، أن البعد الاجتماعي هو الأكثر حضوراً وقرباً منه، خصوصاً ما يخص الحياة وأعباءها وهمومها، وقد جسّد القاص الدكتور محبك هذا البعد من خلال رؤية ثاقبة ومتبّصرة للواقع الاجتماعي بمستوياته المتعددة، وإرهاصاتها الواقعية وانعكاساتها عليه، ملامساً في ذلك كله الطبائع النفسية والفكرية والثقافية لأفراد المجتمع على اختلافاتهم العمرية والبيئية.‏

ويجسّد الدكتور محبك في كتاباته القصصية رؤية القاص المبدع، ذو الرؤى العقلانية المتزنة الملتصقة بالواقع، والمحاورة له ولإرهاصاته الوجدانية والفكرية والثقافية المتأثرة بالظروف المعيشية على اختلاف طبقاتها الاجتماعية. ‏

والدكتور محبك قاصٌ محب للتفاصيل ولوع بها، إذ نراه في مشاهده القصصية متأنياً متمهلاً يطيل الوقوف على المشهد القصصي وانعكاساته الحسية والنفسية والوجدانية، ولغته في ذلك ناصعة نقية موحية ومغبرة، ويراها القارئ ويلامسها وكأنه يرى المشهد حياً ناطقاً، ولعلي به يحقق المقولة النقدية: (الرسم بالكلمات).

والدكتور محبك قاصٌ متمكن من أدوات القصة ومقوماتها، إذ نراه متوازناً في توظيف تلك المقومات من حوار ووصف وسرد شائقٍ يجذب المتلقي ويشد انتباهه، مع ملاحظتنا الدقيقة لولعه الكبير بجماليات الوصف وعمق التصوير، مما يضعنا في قلب الحدث القصصي وكأننا نعايش تفاصيله، أما الحوار، فحواراته القصصية غالباً قصيرة، ولكنها في الوقت نفسه موحية ومعبرة، وتبعد الملل عن المتلقي -الذي في ذاته غالباً لا يفضل الحوارات المطولة –

ومن الجدير ذكره أن معظم حوارات القصص لدى الدكتور محبك، نماذج لردود أفعال الشخصيات أمام الواقع الحياتي أو الظروف الاجتماعية والمواقف الإنسانية، والتي تصلح في كل موقف منها أن تكون ظاهرة اجتماعية ذات تأثير وأهمية في حياة القارئ، ولعلي أسمّيها –لو صح التعبير– ومضات اجتماعية صِيغت في قالب قصصي موحٍ ومعبرٍ وناجح.

والقارئ المتمعّن في نتاج الدكتور محبك القصصي يلامس واقعيته ونزوعه الإنساني، فهو لا يتحيّز، فيشوّه ويلون الواقع، أو يغيّر في ملابساته وتفاصيله كما يريد ويرغب، فكرياً أو إيديولوجياً، بل نراه ملتزماً بواقعيّة الأديب الموضوعي، وكأني به يمسك آلة التصوير، ليصور الواقع بتفاصيله: أفراحه، أتراحه، عقباته، صعوباته، نجاحاته، إخفاقاته، دون مواربة أو تشويه، وهو ينطلق من ذاته المبدعة وهو يحلّق في فضاءات العالم القصصي، ليوظف ثقافته وإبداعاته الفنية من وصف وسرد وحوار، بوصفه قاصاً متمرساً متمكناً، وهو ما تجلى على وجه الخصوص في مجموعاته القصصية الأخيرة، ولعلي أذكر هنا مجموعته القصصية: (نظرات متبادلة)، حيث أبدع في ابتكار صور جديدة، ووسائل تعبيرية فريدة، تتضافر فيما بينها لتمثّل الواقع وانعكاسته الوجدانية والنفسية على الفرد والأسرة والمجتمع، وذلك وفق المبدأ الفيزيائي المعروف: "لكل فعل رد فعل يعاكسه بالجهة ويساويه في الشدة "، وكأني به يقول: إن السلوكيات المجتمعية والتعابير النفسية والوجدانية لأبطال قصصه – الذين هم في الأصل أفراد من المجتمع – ما هي إلا انعكاس لواقعهم المعيش وطبيعته، بحلوه ومرّه.‏

وأما عن الزمكان في قصص القاص الدكتور محبك، فإننا نلمح ذلك النمو الزماني والمكاني الإبداعي المواكب للحدث القصصي، بشكل منطقي وموضوعي، يعكس تطور الأحداث الاجتماعية والإنسانية وأثرها في البنية القصصية وأثر ذلك كله في المتلقي، خصوصاً أن الدكتور محبك يقارب هذا الزمان والمكان بين ما كان –في الماضي– وما سيكون –في المستقبل– وذلك بناء على معطيات الواقع وتداعياته، فالفتى (سامح) في قصة (حبّات العنب)، يعيش بين واقعين: الأول واقعه المرير ومعاناته الاقتصادية وهو ابن لبائع خضروات بسيط، وبين واقع الفتى أحمد الذي يعيش في حياة فارهة غنية، علماً أن أحمد كان صديقاً له في المدرسة، لكنّ هذه الصداقة لا تحول فقره وبساطة عيشه إلى رفاهية وغنى، ولو أنه حاول أن يحلّق في أفكاره ويتخيل نفسه مكانهن فإنه لا شك سيعود إلى واقعه الذي فتح عينيه منذ الولادة عليه.

‏وأما الفضاء اللغوي والبنية النصية لدى الدكتور أحمد زياد محبك، فإننا نلحظ ذلك الغنى اللغوي والتنوع المتميز في أساليبه اللغوية، فهو ينوع في استخدام الضمائر، ونراه يكثر من ظاهرة الالتفات البلاغية، حيث تراه ينتقل من ضمير المتكلم، للمخاطب، فالغائب في إبداع منقطع النظير، وهو ما يشد المتلقي ويجذب انتباهه، ويدفعه للقراءة بنهم واهتمام، أضف إلى ذلك تمكّنه من التراكيب اللغوية التي يطوّعها بين يديه فتنداح جميلة كنهر دافق، حيث تراه يستخدم التراكيب الاسمية في مواضع يريد من خلالها التأكيد على ثبات الموقف وصلابته، أو يقرر حقيقة أو موقفاً ما لا لبس فيه ولا تغيير، وفي مواضع أخرى نراه يوظف التراكيب الفعلية بما تحمله من تجدّد وحركة، وهو بذلك يبث الروح والحياة في جسد الموقف القصصي الذي يقدمه للقارئ في ثوبه القصصي الجميل وهو ما نلمسه في أكثر من موضع في قصصه، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر، ما قدّمه في قصته (طعم العصافير) حين صوّر وبتراكيب فعلية تدل على الحركة كيفية طحن العصافير وسحقها تحت أسنان ذلك الجشع الذي يستعذب عذابات الآخرين.

وكذلك ما نراه في توظيف الكاتب البنية اللغوية الموحية والمعبرة والمناسبة في مشهد (أحمد وسناء) في قصة عريشة الياسمين، حين كانا يلعبان في الحديقة، حيث كانت جملها مليئة بالتراكيب الفعلية.

ولو وقفنا أخيراً على الفضاء الواقعي في قصص الدكتور محبك، لوجدنا أنموذجاً للنزوع الموضوعي الملتزم بالحقيقة بعيداً عن الأجواء الميتافيزيقية التي يلجأ إليها بعض الكتّاب في طرح بعض الحلول اللامنطقية أو الأسطورية التي تقزّم عقل المتلقي وتخاطبه بلغة اللامعقول، وهذا الأمر ينطبق على معظم نتاج الدكتور محبك القصصي على مستوى الأفكار والأحداث والشخصيات على اختلافها، سواء شخصية البطل المحورية، أو الشخصية المناهضة، أو الشخصيات الثانوية، وحتى الشخصيات المتمّمة، فهي كلها شخصيات منطقية واقعية تمثّل الحياة الاجتماعية التي يستلهم منها الكاتب مادته القصصية، حيث نراهم واقعين في تعاملاتهم الإنسانية، سواء مع ذواتهم، أو مع الوسط الاجتماعي الخارجي الذي يعيشون فيه، ولذلك نراه في تناوله هذه الشخصيات لا يطلق حكمه في هذا الواقع، فيقيّم فئة دون فئة، أو ينتقص من موقف دون آخر، بل يصور الواقع بشخصياته كما هو بما فيه من مفارقات وإخفاقات وأخطاء، ويترك للقارئ والمتلقي أن يحكم بنفسه، تاركاً له حرية الحكم، والاضطلاع بالواقع ومشكلاته، ليخرج بموقفه الوجداني الإنساني والأخلاقي، وعندها لا يكون القارئ قارئاً فحسب، بل ناقداً يلامس قضايا مجتمعه، ومعاناة أبنائه، وعندها يكون قد حقق الفائدة المرجوة من الفن القصصي، وهي الفائدة التي لا تقتصر في دورها على التسلية فحسب، بل على النقد الاجتماعي القائم على تجاوز الأخطاء وترسيخ القيم المجتمعية الإيجابية الخالدة.

وصفوة القول: ليست هذه المقالة دراسة أو قراءة نقدية في النتاج القصصي للكاتب والقاص: الدكتور أحمد زياد محبك، بل هي مجرّد ومضات نقدية، لامست فضاءات الإبداع القصصي لديه، من خلال تجلّيات الواقع الإنساني ومفارقاته المتنوعة وصوره المختلفة، بعيداً عن المقولات الاجتماعية، والأفكار الجاهزة والمسبقة، وقد وظّف لنجاح ذلك كافة وسائل وسبل ومقومات النص القصصي، للوصول إلى هدفه المنشود، وهو رسم صورة حية وواقعية وصادقة لواقعه الاجتماعي، في جسدٍ قصصي يحقّق الوحدة المثالية بين الشكل والمضمون.

أما عن الدراسة النقدية للفضاءات الإبداعية في أعمال الدكتور محبك القصصية، فهي تحتاج مئات الصفحات، التي لا أبالغ لو قلت إنها تشكّل أطروحة ماجستير كاملة.

ولعله ما سيكون إن قدّر الله تعالى، على يد طلابي في الدراسات العليا، وهو أقل قليل أقدّمه لعلم من أعلام الفكر والأدب العربي، للدكتور أحمد زياد محبك، الذي أفخر بأني كنت واحداً من الطلاب الذين تتلمذوا على يديه في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، وكان مشرفاً على دراساتي العليا في الماجستير والدكتوراه، حفظه الله تعالى وأدامه ذخراً وقدوة للأجيال.


المصادر والمراجع: 1. أحمد دوغان (2004م.). معجم أدباء حلب في القرن العشرين (بالعربية)، (ط. أولى)، الجمهورية العربية السورية، حلب: دار الثريا للنشر.2. عبد القادر عياش: معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين.3. كتاب مشترك: أعضاء اتحاد الكتاب العرب. دمشق: 1995م.4. محمد قرانيا: جريدة الأسبوع الأدبي، أيلول: 1996م.5. نماذج من مؤلفات الدكتور أحمد زياد محبك القصصية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها