
بعد وفاة عالم السيمياء والروائي الإيطالي أومبيرتو إيكو دأبتْ دور النشر على نشر نصوص ومقالات كان قد ألقاها في مناسبات عدّة، من بينها كتاب صدر مؤخراً عن دار Harvard University Press تحت عنوان "فوق أكتاف العملاقة".
كان إيكو قد كتبَ المقالات التي ضمّها الكتاب لصالح مهرجان ميلانو الثقافي، وهو مهرجان يقام سنويًا منذ عام 2000، وقد أعدَّ المقالات لقراءتها جهرًا على الجمهور. يشتمل الكتاب على اثنتي عشرة محاضرة ألقاها إيكو في الاحتفالية المُشار إليها، وأعاد فيها النظر في بعض الموضوعات التي كانت تشغل باله طوال حياته (الجمال، القبح، والحقيقة والدين، إلخ)، وقد نسجت المحاضرات معًا خيوط الموضوعات الرئيسية التي كان إيكو مهتمًا بها في معظم حياته العلمية، ويمكننا القول إن مهنته بأكملها كفيلسوف وروائي ومفكر قد بُنيت من خلال السعي الدؤوب إلى معالجة بعض الأسئلة العويصة: إلى أي مدى تبلغ حدود معرفتنا؟ لماذا نروي القصص؟ لماذا نحتاج دائمًا إلى الإيمان بشيء ما - بالله أو بالنيويورك تايمز أو بآخر نظريات المؤامرة؟ هل يُمكن إنشاء عمل إبداعي جديد من الصفر؟
لنبدأ من الفصل الأول على أكتاف العمالقة، هو اسم محاضرته الأولى وعنوان الكتاب يشرح مسيرة التقدم الإنساني عبر تقديم نمط/أنموذج يرسم من خلاله آلية تجدد حضارتنا. يذهب إيكو إلى أن العالم مكوّن من أقزام وعمالقة من صغارٍ وكبار، وعادة ما يكون الطرفان في حالة عداء مستمر، يقع اختيار إيكو على استعارة "قتل الأب" تعبيرًا عن مسألة الصراع بين الأجيال. فإبراهيم [نبي الله] كان على استعداد للتضحية بابنه، أوديب يقتل لايوس، وزحل يلتهم ابنه، ناهيك عن أن الساحرة القاتلة "ميديا" في الأسطورة الإغريقية لم تكن أمًا مثالية. لنقرأ الفقرة التالية من الفصل الأول:
"لطالما أسرت انتباهي العلاقة التاريخية المتوّترة بين العمالقة والأقزام. في الوقت ذاته فالجدل الشهير حول مسألة العمالقة والأقزام ليس إلا فصلاً من فصول الصراع القديم الدائر بين الآباء والأبناء، الذي ما يزال يثير قلقنا بشدة كما سنوضح لاحقًا. إننا لسنا في حاجة إلى استشارة مُحللين نفسيين لإدراك حقيقة أن الأبناء يميلون إلى قتل الآباء، وأنا أستخدم المصطلحات الذكورية الطابع هنا فقط وأنا أستخدم المصطلحات الذكورية هنا تماشيًا مع ما جاء في النصوص الأصلية".
يرى إيكو أن كل جيل يرتكب – مجازيًا- جريمة قتل الأب، هذا هو الأنموذج الذي يرسم مسار البشرية، حتى في اللحظة التي حلّتْ فيها لاتينية العصور الوسطى محلَّ اللاتينية الكلاسيكية العتيقة، فبدأتْ اللغات الأوروبية المحلية في توطيد أركانها. ففي نهاية القرن الخامس الميلادي شرع المثقفون والشعراء في التفاخر بالتجديد اللغوي، ولا أدلَّ على ذلك من "دانتي الليجيري"، الذي عـدَّ نفسه مبتكرًا ومجددًا لغويًا، وثائرًا على التقاليد اللغوية القديمة. يؤكد إيكو: "صحيح أن قتلَ الأبناء لآبائهم صورة قاسية، لكنها أصدق تعبير عن ثمثيل عن القطيعة الجذرية مع الماضي". وهنا تحديدًا، يطوّر "إيكو" أطروحته الخاصة في الكتاب، وهي أطروحة مؤداها أن القطيعة تفضي دائمًا إلى اللجوء إلى الجد بدلًا من الأب، بمعنى أن المفكر المعاصر يؤسس أفكاره الجديدة أو يعيد تأويلها بناء على "مرجعية" نسيها الآباء. يقول إيكو:
"لقد أحدث توماس الأكويني ثورة واضحة في الفلسفة المسيحية، إلا أنه لم يكن يردد سوى الأفكار التي جاء بها القديس أوغسطينوس قبل ثمانية قرون"،
مستدعيًا الصورة التي رسمها برنارد فون شارتيس، والتي استلهمها إيكو عنوانًا للكتاب:
"إننا أشبه ما يكون بالأقزام الجالسين فوق أكتاف العمالقة، فـنبصرُ ما لا يبصرون، لا لأننا أقوى بصرًا أو أكبر شأنًا، بل لأن حجم العمالقة يرفعنا ويسمح لنا برؤية ما لا يقدرون على رؤيته".
يضيف "إيكو" عبارة بليغة تبيّن الغرض من وراء دراسة مجاز قتل الآباء برمتها إذ يقول:
"ينبغي على أي مفكّر معاصر يريد أن يؤخذَ على محمل الجـدّ أن يبيّن للناس بطريقة أو بـأخرى أن لديه شيئًا مختلفًا عما قاله أسلافه المباشرين، وحتى لو لم يفعل ذلك، فعليه على الأقل أن يتظاهر".
يواصل "إيكو" تطوير أطروحته عندما يشير إلى أن هذا التقليد/الأنموذج قد حُطّمَ منذ اختراع جهاز الكمبيوتر، مشيرًا إلى أن الكمبيوتر كان أول من حسم نزاع الأب/الابن. فالأب يجلب لابنه جهاز كمبيوتر (وهي وسيلة تضمن التفوق المعرفي لاحقًا) ويضعه أمامه، فيعرب الابن عن امتنانه، ومن هنا فالكمبيوتر لا يفصل بين الأجيال، بل يربط بينها. لنلاحظ أن المحاضرة ألقيت سنة 2001، ولا أدري ماذا سيكون رأي إيكو لو رأى الهوّة الشاسعة بين الأجيال لو نظرَ لحالنا اليوم!
ينتقل إيكو إلى نقطة مهمة مؤداها "ألا بداية جديدة لا ترتكز على القديم"، متسائلًا – في الوقت ذاته- وماذا عن الثورات المعرفية/الفلسفية التي هدمَتْ السابق؟ هل نكرر حقًا ما قاله القدماء؟ يؤكد إيكو أن عصر التنوير كان حدثًا حاسمًا مفصليًا في تاريخ أوروبا، إلا أنه لم يخل من أضرار جانبية، حيث قُتل لويس السادس عشر بوصفه نموذجًا للأب، واتُخذَ كبش فداء على قربان تدشين العصر الجديد، لكن الحداثة اتكأتْ على قتل/تشويه صورة التراث الكلاسيكي، فيضرب المثل بالرسّام الإسباني "بيكاسو" الذي شـوَّه الوجه البشري، مستوحيًا موتيفات من رسوم "المونتيور"، نصف الإنسان/نصف الثور، و"مارسيل دو تشامب" رسم لوحة الموناليزا وتحت أنفها "شارب"، لكنه كان يحتاج إلى اللوحة الأصلية ليبتكر فنّه السوريالي.
يؤكد إيكو: "كل ما يطمح إلى أن يكون جديدًا وأصيلًا، يحتاج حتمًا إلى القديم، لكي يميّزَ نفسه". حتى ثورة الطلاب في 1968 لم تكن جديدة في شعاراتها كل الجِدّة، حيث رفعتْ شعارات "يحيا ماركس"! أو "تشي جيفارا"، إلخ. في فصل آخر يطرحُ تساؤلًا لفتَ انتباهي: كيف نجمع شتات أنفسنا مرة أخرى؟ فيجيب إننا بحاجة إلى قصة جيدة لأجل ذلك. المعنى قبل كل شيء مسألة سرد. هذا هو السبب في أن الدين كان عند الحضارات القديمة أفضل مصدر للمعنى، ويجب هنا أن أنبّه القارئ إلى ضرورة التفرقة بين رؤية إيكو للدين وما يعرضه لرؤى القدماء. فالدين يروي كل شيء في الوجود، ويجعل الأشياء ذات وجودٍ مفعم بالمعنى بقدر ما يضعها داخل قصة، وعبر فعل السرد يجلب الدينُ النظامَ إلى الفوضى ويسبغ معنى على عالمٍ خلوّ من المعنى. يرى إيكو أن الفهم السردي للمعنى كان مهمًا جدًا في الغرب لدرجة أن المسيحيين في العصور الوسطى نظروا إلى العالم كما لو كانوا يقرؤون كتابًا، أو "كتاب العالم" (ليبر موندي) كما وصفوه. في فصلٍ تالٍ يحمل عنون "عن الجمال" يروي إيكو بداية قصة اهتمامه بفكرة "الجمال" كمفهوم فلسفي وحضاري وكيف انتهى تصوّره حول الجمال، إذ يقول:
في سنة 1954 أنجزتُ أطروحة حول قضية الجمال، وفي سنة 1962 بدأت العمل على مشروع لكتاب مصوّر حول تاريخ الجمال، وهو مشروع الذي ألغاه الناشر لأسباب مالية عادية، برغم أن ربع العمل أو خمسه على الأقل قد أُنجِزَ بالفعل. ثم استأنفتُ العمل على المشروع قبل بضع سنوات، لسبب بسيط هو أنني لا أحب ترك الأشياء نصف منتهية. بالنظر إلى فترة الخمسين عامًا التي ألفيتُ فيها نفسي متأملًا مفهوم الجمال من وقت إلى آخر أدرك الآن أنه يمكنني تكرار إجابة القديس أوغسطين عندما سُئل عن طبيعة الزمن: "إذا لم يسألني أحد عنه فإني أعرف ما هو، وإذا سألني أحدٌ فلن أعرف".
وفي معرض حديثه عن نظرية المؤامرة (الفصل 11 – ص: 180) يقول: إن نظرية المؤامرة قديمة قِدمَ الدهر، مشيرًا إلى كارل بوبر الذي أعطانا فكرة عن الموضوع في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه في أربعينيات القرن الماضي، حيث شارك أفكاره القائلة بأن تفسير ظاهرة اجتماعية يتمثل في اكتشاف الرجال أو الجماعات المهتمة بحدوث هذه الظاهرة (في بعض الأحيان تكون مصلحة خفية يجب الكشف عنها أولاً)، والذين خططوا وتآمروا لتحقيقها. تنشأ هذه النظرة لأهداف العلوم الاجتماعية، بالطبع، من النظرية الخاطئة التي مفادها أن كل ما يحدث في المجتمع، وعلى الأخص الأحداث المأساوية كالحروب والمجاعات هي نتيجة خُطة دُبّرتْ على يد أفراد وجماعات معينة، هذه النظرية نتيجة نموذجية لعلمنة الخرافة الدينية. يشير إيكو في النهاية إلى أن هناك ملاحظة لطيفة وردتْ على لسان الشاعر والمخرج الإيطالي بازوليني تقول: "إن المؤامرات تجعلنا نفكر في أفكار مجنونة لأنها تحررنا من عبء مواجهة الحقيقة"، لكن المفارقة أنه عندما قُتل بازوليني نفسه كانت الادعاءات حول تورط المخابرات الإيطالية ذائعة ومُصدّقة على نطاق واسع.