أصدرت ربا شعبان مجموعة من الأعمال الإبداعية منها: "صهيل الصباح"، و"سنخدع السراب". وهي شاعرة وكاتبة، وقاصة تمتلك مفاتيح الدخول إلى قلب المتلقي، وفي قصتها الطويلة" المرأة التي قرأت الجهات" الصادرة عن دار المحيط للنشر في الفجيرة عام ألفين وثلاثة وعشرين بنت في مائة وخمس صفحات من القطع المتوسط قصة طويلة، مبنية على سيرة افتراضية لشخصية حقيقية هي مريم الإسطرلابية العالمة العربية التي تعد من واحدة من أشهر العلماء المسلمين، وهي امرأة ذكية ترعرعت في حلب في القرن العاشر الميلادي، الثالث الهجري، وعملت في مجال العلوم الفضائي، وكان لها أثر مشكور ممدوح في علم الفلك، فهي اخترعت الإسطرلاب المعقد وطورته، وهو نفسه ذات الصفائح إحدى الآلات الفلكية القديمة التي كانت تستخدم كساعة يد، وفي حل المسائل التي ترتبط بالأجرام السماوية، وفي معرفة الجهات.
وقد اعتمدت ربا شعبان في نسجها لقصة مريم على خيالها وتوقعاتها جامعة بين نظرة الواقع العربي المتأخر للمرأة وتوقعاته منها، فمريم التي عاشت في القرن العاشر الميلادي القرن الثالث الهجري عصر الازدهار والعلم، ورثت علم والدها كوشيار الجيلان أو أبو الحسن الجيلي العالم الفلكي الجغرافي ومكتبته، وأثبتت نفسها محاضرة في دار العلوم وبيت الحكمة، وتتدرج الكاتبة مع مريم الإسطرلابية منذ ولادتها حتى وفاتها محاولة بناء نسيج سردي يضع مريم المبتكرة ضمن منظور الزمن المعاصر للمرأة، وجعلها تتحرك بين عقبات كثيرة تعيشها المرأة في زمننا المعاصر ضمن الزمن السردي الذي ولدت فيه وعاشت، فهي تواجه التمييز بالتفوق والحب والحنان، وتكسب مكانتها كسباً، وتفرضها فرضاً لا وراثة كما الذَّكر.
وحدّدت الكاتبة الفئة التي يمكنها أن تقرأ هذا النص ب17+، وهذا وضع على عاتقها عبئاً ثقيلاً، فهي اضطرت لذلك إلى اختيار اللغة وتنقيتها، واختيار الألفاظ من ضمن معجم مناسب لهذه الفئة العمرية، ثم إنها اضطرت إلى التسلح بكل ما يمكن أن يظهر من معلومات تاريخية وعلمية وفلكية، وبخاصة في حقول العلوم التي برعت فيها مريم الإسطرلابية، وأن تجمع ذلك في عمل إبداعي يليق بها ككاتبة ناضجة وشاعرة عالية القدم. فهل نجحت ربا شعبان في نسجها وهي تحمل تلك الأثقال والمحددات على جملها وخيالها؟ وهل أنتجت شيئاً جديداً يستحق القراءة والإشارة إليه؟
تبيّن عتبات النص بأن الكاتبة قد بدأت الكتابة وفق مخطط مرسوم بدقة، وهي لذلك اختارت مفرداتها وعباراتها وعتباتها بدقة وحرص شديد لإيصال رسالتها وهدفها من بناء هذه القصة ونسجها، وهي كما أرى تأكيد قدرة المرأة على العطاء المميز، وأنها لا تقل ذكاء عن الرجل فـ"المرأة التي قرأت الجهات" هي عتبتها الأولى التي تشير إلى أن العشوائية لا مكان لها في هذا النص الذي يتحدث عن سيرة افتراضية لامرأة استثنائية متفوقة تقرأ الجهات. وإصرار ربا شعبان على أن تكون لفظة المرأة هي الأساس في عتبة النص يشير إلى مضمر رافض لما تواجهه المرأة في الزمن المعاصر، فهي كلام مضمر كثير على قدرة المرأة العربية، وعلى ما تواجهه في الزمن المعاصر من انتقاص لمكانتها وتقليل من شأنها، ويؤكد ذلك كله اختيار لفظة تقرأ فالقراءة تعني المعرفة والإحاطة والتمكن والسيطرة.
وكان الإهداء هو العتبة الثانية فعلى عباراته المعتمدة على الفعل الدال على العمل والحركة علّقت الكاتبة كثيراً من الإيحاءات عن سبب آخر للنبوغ والتفوق؛ فقد أهدت نصها إلى مدن عربية كانت قبلتها الحقيقية هي الحضارة، وخطتها للتفوق هي العمل الجاد، ورصد نجوم الهداية، واحتضان الضوء والتمسك به، فهي مدن عرفت الوجهة الصحيحة، وأنصتت لصوت الجهات فرسمت خرائط الحب، وضبطت أوقات الصحو والمطر، ثم إنها أهدت النص لرجل هو أبوها الذي أوحت عباراتها عنه بأنه آمن بها وبتفوقها، فحرسها ودافع عنها، وساندها في مشوارها، كما فعل والد مريم الإسطرلابية، ليظهر النص المضمر واضحاً من خلف هذه العبارات، بأن المرأة في مجتمعنا العربي احتاجت دائماً إلى يد ذكورية قوية تحميها وتحرسها وتستند إليها لتبدع وتتفوق.
وبنت الكاتبة القصة على ست عشرة عتبة كانت كل عتبة باباً لرصد طور من أطوار حياة مريم الإسطرلابية أو حال من أحوالها، وجعلت أولاها "امرأة قرأت الجهات"، ومن هذه العتبة بدأت ربا شعبان القص، ومشوار السرد الافتراضي الخيالي في محاكاة لأسلوب الحكي المعتمد على المقدمة المدهشة المستفزة، وإثارة تشويق المتلقي لمعرفة ما سيأتي بعد ذلك، فقد انفتحت هذه العتبة على مجموعة من الأسئلة التي مهدت بها الكاتبة لمشروعها السردي، وأسباب كتابته، ودوافعها لكتابته، فبينت أنها قرأت كثيراً عن صحابيات وأديبات ومفكرات عربيات، ولكنها لم تقرأ من قبل عن مخترعة عربية إسلامية، ثم إنها أعطت مثالين على اهتمام الغرب بمريم الإسطرلابية، وتساءلت بحرقة عن سبب اهتمام الغرب بمريم الإسطرلابية وإنصافهم لها دون العرب. وتابعت طرح الأسئلة السابرة المشوقة، في "أوراق مبعثرة" فهي بعد أن شبّهت التاريخ بالرجل الأعور، تساءلت عن سبب إغماضه عينيه عن ذكر مريم الإسطرلابية، وإعطائه نصف الحقيقة عنها.
أما في "المحاق مخاض الضوء" فاعتمدت على تقنية الحوار لتوضيح علاقة الأب بابنته، وموقف المجتمع من الأنثى، فهي صفحات كشفت الكاتبة فيها عن علاقة الأب العالم بابنته الصغيرة ذات خمس السنوات، وكيف دخل حبها إلى قلبه، فشبهت العلاقة بينهما بحال المحاق الذي يولّد الضوء، وهي عتبة أخرى عن انتزاع الأنثى الحب لا حصولها عليه بهدوء وعفوية، وفي هذا الباب أيضاً إدانة لموقف الرجل الشرقي من الأنثى. فقد وصفت حال الأب العالم أبي الحسن الجيلي المترقب الباحث عن وريث من صلبه، وردة فعله حين سمع أن المولود أنثى، في إيحاء ذكي إلى أن العالِم كما بقية المجتمع يرى الأنثى ضعيفة غير قادرة على حمل الرسالة والعبء، واستلام ثروته الثمينة، فاستحضرت على لسان العالم الآية القرآنية "وليس الذكر كالأنثى" لتأكيد ذلك الموقف الجمعي المستخف بالمرأة غير المؤمن بقدراتها.
ومن عتبة "الهلال ابتسامة السماء" وفي "تربيع أول نصف القمر" بلغت مريم الإسطرلابية سن الخامسة عشرة ومرحلة الشباب التي أظهرت تألق مريم وتفوقها وحبها للفلك والعلوم، فقد قفزت ربا شعبان بالسرد وبمريم قفزة زمانية طويلة، أوحت بما لاقته فيها هذه العالمة من عناية أبيها واهتمامه وحمايته وحراسته لها لما وجد فيها من صفات النبوغ والتفوق، ولإيمانه بقدرتها على حمل العبء واستلام الإرث، فقد أوصاها يوماً أن تحقق ذاتها بنفسها، ولا تنتظر من أحد أن يكون بديلاً عن ذاتها. وفي هذه المرحلة أظهرت الكاتبة أن الأنثى على الرغم من ظهور تفوقها إلا أنها بقيت في نظر المجتمع ضعيفة بحاجة إلى حماية ورعاية، تقول مريم: ما هذا يا أبي لم أعهدك إلا منصفاً مع النساء؟ وأظهرت الكاتبة في هذا الباب قدرة الأنثى على التفوق، وغيرة الذكر الأخ من تفوقها، واعترافه بذلك، ومن هذه العتبة بشرت الكاتبة بنبوغ عالمة مشهورة تصل شهرتها الآفاق حين قصت رؤياها علينا بأنها تحولت إلى قمر صغير على شكل هلال.
وحاولت ربا شعبان من خلال هذه السيرة الافتراضية لمريم الإسطرلابية وصف بعض الجوانب المعتمة في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في العصر الثالث، وهو عصر الازدهار فألمحت إلى التنجيم، وهو كما يبدو ظاهرة اجتماعية انتشرت في القرن الثالث الهجري في الدولة العباسية. وخلقت ربا شعبان في هذا الباب الأسباب التي دفعت مريم إلى اختراع الإسطرلاب، وأعطت لمحة تاريخية وصفية عن الإسطرلاب وتقنية الوصف هي واحدة من ضمن التقنيات الكثيرة التي استخدمتها ربا شعبان لبناء القصة إلى جانب الحوار والتصوير والمونولوج والقطع الاسترجاعي.
وقادت ربا شعبان شخصية مريم بفنية عالية، وباستخدام تقنية السرد حيناً والحوار والمنولوج والوصف حيناً آخر لدخول مريم الحياة العلمية والاجتماعية من أوسع أبوابها حين حركت الحوار لينقل الأخبار عن ذلك، فقد أعطت مريم الإسطرلابية أول دروسها في دار العلوم باقتدار بعد أن وفر لها أبوها ووقار العلم الذي تحمله الحماية والرعاية لتكسر الصورة النمطية للمرأة، وتصبح حديث أهل بغداد. واستخدمت ربا في هذا الباب المنولوج تقنية سردية تمكن الشخصيات من الحديث واختصار الأحداث وتحريك الزمن، فقد مكنها من إعطاء توضيح أكثر عن طبيعة المواجهة التي خاضتها مريم، والطريقة التي أعطت بها دروسها، وشدت إليها العيون وجذبت القلوب ونالت الإعجاب والمدح والاستحسان. ومن ذلك حين همس حيان لنفسه: "أحب الطريقة التي تبدأ بها العرض..."، ثم عادت ربا شعبان لتؤكد كفاح الأنثى الشرقية من أجل تأكيد مكانتها في حوار مريم مع أبيها، واستحضارها لقول المتنبي على لسان مريم:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
وقوله على لسان أبي الحسن:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... وما التذكير فخر للهلال
وحاولت الكاتبة في الأحدب (جناح نجاح) وصف مكانة حلب السياسية والعسكرية، ووصف الحياة الثقافية والاجتماعية فيها، وإظهار مكانتها في القرن الثالث الهجري باستخدام تقنيات السرد المختلفة لخلق التشويق وبناء الحدث، وتنويع وسائل العرض والسرد، وهو باب طويل نسجت ربا شعبان حواراته بجمالية عالية ومهارة لافتة، فقد أجرت حوارات كثيرة بين شخصيات كان لها دور في تطور أحداث القصة، وخدمة أفكار الكاتبة؛ كالحوار بين مريم وأخيها، والحوار بين سيف الدولة ومساعده عمار بن محمد، والحوار بين مريم والمتنبي، وفي هذا الباب نسجت ربا شعبان أحداثاً افتراضية أعطت القصة دفعة تشويقية ضرورية منها: دخول مريم قصر سيف الدولة قادمة من بغداد، والتقاؤها سيف الدولة وأخته خولة والمتنبي، وتحذير المتنبي مريم الإسطرلابية من شر يحيط بها، لتظهر بداية العلامات السوداء في حياتها في القصر.
وقفزت الكاتبة بمريم الإسطرلابية في "تربيع أول نصف القمر" قفزة زمانية أخرى، فهي قد صارت محاضرة في دار العلوم، وظل سؤال قدرة الأنوثة حاضراً في هذا الباب، وظهر لأول مرة عنصر مساند للمرأة حامٍ لها، وهو وقار العلم، وفي هذا الباب بعث سيف الدولة في طلبها بعد أن عرف عن قدرتها ومكانتها وأحلامها، ووعدها بتوفير كل سبل الراحة لها، وأن يوفر لها كل ما يلزمها، وهو باب استطاعت ربا شعبان الدخول منه إلى عصر المتنبي، ومجلس سيف الدولة، وأن تبني حوارات دالة موجهة بمهارة وإتقان للإخبار عن انتصار سيف الدولة في معركة الحدث الحمراء، ووصف مجلسه العلمي والأدبي.
وأدخلت في "خسوف جزئي (سم ترياق)" عنصراً تشويقياً جديداً للقصة فبينت أجزاء الإسطرلاب وصناعته، ثم أعطت نفحة عاطفية تطري بها النص فجعلت حيان تلميذ أبي الحسن يميل إلى مريم ويعلن حبه لها، ولعل الكاتبة بذلك قد حاولت بث دفقة من التشويق بإعطاء القصة بعداً اجتماعياً، وهي استخدمت لذلك المنولوج؛ وهو كان تقنية سردية فاعلة في توضيح المشاعر والمواقف، واختصار الأحداث والأعمال، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة. وظلت قضية الأنوثة والذكورة حاضرة في هذا الباب، فبعد أن اعترف أبوها وحبيبها حيان بتميزها وهي امرأة، ظلا يكرران إنها ليست مثل أي امرأة. وحركت الكاتبة في هذا الباب الأحداث قليلا لمزيد من التشويق، فبنت قليلا من الميل بين عمار ومريم الإسطرلابية، وجعلت مريم تطلب من أبيها الحضور إلى حلب، وأجرت حوارات موجهة للتعريف بالفارابي، وحواراً نفسياً (منولوج) عميقاً وصفت من خلاله بيئة حلب الثقافية والعلمية والأدبية، وأعطت صورة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية في حلب "فأبو فراس في الأسر، والنساء على نوافذ الانتظار والحرب، والمتنبي في بلاط سيف الدولة، والفارابي الفيلسوف الموسيقي المعروف يسكن في قصر سيف الدولة. ودرجت ربا شعبان على تغيير الراوي فمرة هو الكاتبة، ومرة هو البطلة مما أعطى القصة دفعاً تشويقياً مميزاً، كما أنها استخدمت تقنية الاستعانة بالشعر؛ شعر المتنبي وأبي فراس لمزيد من التشويق والإمتاع، واستخدمت تقنية الاقتباس والهامش، فاقتبست من أقوال الفارابي، وبنت علاقة مفترضة بين المتنبي وخولة أخت سيف الدولة، وأدخلت حدثاً تراجيدياً دالا إلى القصة وهو سرقة مشروعها بعد أن أتمته وأكملته، ونسجت علاقة متينة بين خولة ومريم الإسطرلابية.
أما في "البدر اكتمال الرؤى" فعادت ربا شعبان إلى استخدام المنولوج؛ فهو كان تقنيتها النافعة في التوضيح والشرح، فقد بدأت الباب بحديث نفسي عميق، ثم استخدمت تقنية القطع الاسترجاعي لتعيد تذكير القارئ بقضية الأنوثة والذكورة، وتؤكد أن تحقيق المرأة لذاتها سيكون على يدها لا على يد آخر فهي تذكرت حديث أبيها:
"لست كأي امرأة، أنت امرأة تسمع صوت الجهات، تقرأ النجوم، تحفظ مواسم المطر والصحو عن ظهر قلب، ترشد الضالين وتقف على خرائط الوقت".
وحاولت ربا شعبان في هذا الباب إمداد القصة بنوع من الحركة الهادئة الهادفة بإدخال أخبار أبي فراس في الأسر إلى القصة، وحين أفرج عنه، ووصف حب خولة للمتنبي، وحزنها لمغادرته قصر سيف الدولة. وحضر سؤال الأنوثة والذكورة في هذا الباب في حديث مريم عن رغبة أمها في أن تراها أما لها أولاد، ثم وصلت بالقارئ في هذا الباب إلى اختراع الإسطرلاب، وتركها حلب وزواجها من حيان.
وفي خسوف جزئي اختصار الضوء، أدخلت ربا شعبان باستخدام الحوار والمنولوج والوصف عناصر تشويقية معتمدة على الخبر: حمل مريم، وحزنها على موت خولة، وتسمية مريم ابنتها باسم خولة اعترافاً بالفضل والجميل.
واستمر الحديث في "أحدب ثاني انتماء للأرض" عن خولة أخت المتنبي، ونسجت فيه ربا شعبان أحداثاً افتراضية كثيرة لمد القصة بالمتعة والتشويق وجعلها أكثر إقناعاً منها: تعب مريم من الحمل، كثرة الحاسدين والكاشحين والخراصين من حولها الذين تقولوا على عملها واختراعها الأقاويل.
وظهرت قضية الأنوثة والذكورة بقوة مرة أخري في تربيع ثانٍ انتماء للأرض "إذ ظهرت الأنثى متمثلة في شخصية مريم وهي قادرة على العطاء، محبة تضحي بكل ما يريحها من أجل أمومتها المنتصرة، فهي رضيت بالأمومة، وتخلت من أجلها عن أشياء كثيرة تحبها، كتوقفها بسبب الأمومة عن إلقاء المحاضرات في دار العلوم، وبيت الحكمة.
وتوجت الكاتبة عمل مريم الإسطرلابية بالإخبار عن نجاح اختراعها وانتشار استخدامه، فهو قد نجح وفاز وتطور وظهرت منه أنواع مختلفة بين أيدي الناس.
وتلاعبت الكاتبة بضمير السرد لتعطي القصة دفعاً تشويقياً آخر ومرونة للحكي في "كسوف الشمس موت ضوء"؛ فهي ربطت بين عاطفة الفقد الإنسانية وعاطفة الفقد الفردية ببناء جمل شعرية مكثفة "ثمة أقمار وشموس في أعناقنا تنكسف لموت أحدهم". ولعل أنا الكاتبة قد توحدت بمريم وهي تتحدث عن أبيها الذي مات في عبارة "لا أحد يشبه أبي أو يملأ مكانه".
تحققت وصية أبيها وحلمه بأن يرث ثروته العظيمة من يستحقها في "الهلال الظلام يتمدد"، فقد ورثت مريم الإسطرلابية كتب أبيها وضمتها إلى مكتبتها، وبدا الفصل بعيداً عن السرد، فهو تعداد مباشر لإنجازات مريم الإسطرلابية وكتبها، وفيه سرد خال من اللغة الأدبية العالية، واقتراب من اللغة الإخبارية التي حملت أخبار موت سيف الدولة، وتلميحاً إلى ما حل ببغداد على يد المغول، وعودة مريم إلى دار العلوم ودار الحكمة. لكن ربا شعبان في هذا الفصل لم تضاد بين الأنوثة والذكورة، وإنما حاولت أن تصلح بينهما، فهي تقول على لسان مريم:
"مخطئ من يقول إن الأنوثة والذكورة ضدان".
وفي "المحاق نهاية المعركة" كان النهاية العالية لمريم الإسطرلابية، فأعادت ربا شعبان الحوار الذي جرى بين مريم وأبيها على لسان خولة وأبيها مستخدمين الجمل نفسها، في إيحاء لطيف أن مريم المرأة الناجحة المتفوقة لم تمت فقد ورّثت صفاتها لابنتها خولة. "الحياة يا بنتي لا تظهر لنا وجهها كاملا".
وأما "كويكبات مريم الإسطرلابية"، فهو باب خارج عن السردية القصصية لأن قصة مريم انتهت بحوار الأب مع ابنته خولة، وإنما هو باب فضلةٌ ذكرت فيه ربا شعبان باستخدام الحوار الإخباري الجاف احتفاء هنري هولت العالم الأمريكي بفضل مريم الإسطرلابية بتسميته مجموعة من الكويكبات المكتشفة من مرصد بالومار الأمريكي باسمها.
وأكدت ربا شعبان "رؤية من وحي الإسطرلابية"، احتفاء الغرب بمريم الإسطرلابية في رواية أنا وابنتي لتيدي ألغور.
وظهرت قضية الأنوثة أو النسوية في باب "طوبى للنساء" الذي أكدت فيه ربا قدرة المرأة العربية وتميزها إذا ما لاقت الاهتمام والتقدير.
لقد نسجت ربا شعبان في قصتها الطويلة عن مريم الإسطرلابية حوارات كاشفة سابرة للحياة الاجتماعية والعلمية والثقافية والعسكرية والسياسية في العصر الثالث الهجري، واستطاعت أن تجعل المتلقي يعيش في ذلك العصر بسلام وهدوء لتتبع أحداث قصتها بناء على ما توافر بين يديها من معلومات وأخبار، واستخدمت ربا شعبان في قصتها هذه لغة مناسبة للفئة التي تخاطبها، مع فلتات من الشعرية العالية واللغة القوية المكثفة التي لم تؤثر في توصيل الرسالة للقارئ. وهي بنت قصتها وفق التسلسل الزمني الصاعد، لكنها كانت تستخدم تقنيات القطع الاسترجاعي والمنولوج والحوار لإيصال الفكرة. وبنت حواراتها بناء على ما توافر لديها من أخبار أدبية وتأريخية، ثم إنها نوعت في ضمير الراوي، ونوعت في تقنيات السرد لجعل القصة أكثر إقناعاً وتشويقاً. ونجحت في استخدام معجم شعري مناسب للفئة العمرية التي تخاطبها، كما أنها نجحت في بناء نسيج سردي مفترض لسيرة حياة مريم الإسطرلابية، مما يبشر بمزيد من القصص عن أبطالنا وعلمائنا وفلاسفتنا باستخدام التقنيات السردية نفسها واللغة الهادئة نفسها.