النَّصُ التنبؤي.. وأشباح الكتابة؟!

أدريان لوب Adrian Lobe

ترجمة: شيرين ماهر


 مما لا شك فيه أن الدمج الذي شهدته الحوسبة مع تقنيات الذكاء الاصطناعي خلقت تنميطاً حداثياً مثيراً للفضول، حيث أصبح التنبؤ والاستشراف أحد الخصائص الجديدة التي تتيحها تطبيقات الأجهزة الذكية.. فالجميع على دراية بما يسمى خاصية "التصحيح التلقائي"، المتاحة في أغلب التطبيقات لتدقيق الكلمات إملائياً أثناء الكتابة على الحاسوب أو الهاتف الذكي. لكنها لم تكن سوى البداية، فهناك المزيد من التطورات التي تم إدخالها على هذه البرامج الإلكترونية، والتي ربما تنطوي على مزيد من الإشكاليات المثيرة للقلق، حيث صارت خاصية "Smart Compose الكتابة الذكية"، تسمح بإضافة عبارات زمن كتابتها هو الزمن الفعلي لظهورها لدى المستخدم. يُشاع أن مثل هذه الإعدادات الجديدة قد "وفرت" على المستخدمين ما يقرب من ملياري "نقرة" أسبوعياً. فعلى ما يبدو أن الأنظمة الذكية لا تقوم فقط بالتلصص على عقولنا؛ وإنما ينطوي الأمر على ما هو أكثر خطورة من ذلك.



عندما نرغب في إرسال رسالة نصية عبر تطبيق "ماسنجر"، فمن الممكن أن تقوم خوارزمية بالعمل ذاتياً بمجرد ملامسة الأزرار الخاصة بعملية تحرير النص. هناك أيضاً خاصية "التصحيح التلقائي" على أنظمة "apple"، التي تقوم بالتحقق من عملية الإملاء أثناء الكتابة، وتصحيح الكلمات التي بها أخطاء إملائية بصورة تلقائية وبأقل ضغطات ممكنة. تتيح هذه الخاصية أيضاً أداة تسمى "اقتراحات الكتابة"، والتي من شأنها إضافة الكلمات، أو إكمال العبارات تلقائياً، وكذلك استبدال النص.

إذا كنت على وشك صياغة سؤال ما، تقترح هذه الخاصية، بصورة تلقائية، الأفعال الأقرب للمعنى. وفي بعض الأحيان يؤدي الإكمال التلقائي إلى سوء الفهم وإعطاء معنى مغاير لما هو مقصود بالفعل، ومن ثم تكتسب كلمات عادية سياقات دلالية سلبية بواسطة الاستخدام العشوائي للخوارزميات. يوجد أيضاً العديد من المدونات على الإنترنت معنونة باسم "اللعنة عليك أيها المصحح التلقائي"، والتي تستعرض أكثر إخفاقات خاصية "التصحيح التلقائي" شيوعاً بين المستخدمين، بصورة مثيرة للفضول. للتخلص من هذه السلبيات، يمكن إيقاف هذه الخاصية على الهاتف الذكي، بواسطة تتبع الخطوات عبر مقاطع فيديو عديدة على YouTube.

تعاقد قسري

"التصحيح التلقائي" ليس خاصية جديدة في إعدادات الأجهزة الذكية. ففي عام 1997، أضافت شركة "Microsoft" هذه الأيقونة المصاحبة لأداة سحب ملفات الوورد إلى برنامج معالجة الكلمات، وهو بمثابة مساعد رقمي يقترح التنسيق، لكنه ببساطة أصبح يشكل مصدر إزعاج لمعظم المستخدمين، حيث صنفت مجلة "تايم" هذه الخاصية ضمن أسوإ 50 اختراعاً. ولكن في ظل التقدم الذي أحرزته ثورة الذكاء الاصطناعي، فقد تم تطوير خاصية "التصحيح التلقائي" بصورة أكثر براعة. وهو ما يطلق عليه حديثاً مسمى "الرسائل النصية التنبؤية"، وهو ما يشبه أحد أشكال الكتابة الاستشرافية. والهدف منها تمكين هذه البرامج تباعاً من التعرف على ما سيكتبه المستخدم بناء على محادثات سابقة والتعرف على أسلوب الكتابة الخاص بكل مستخدم.

وفي عام 2019، طورت إدارة "غوغل" أداة تسمى "الرد الذكي ySmart Repl" لتشمل جميع تطبيقات المراسلة الخاصة بنظام تشغيل"آندرويد". تعمل الأداة على النحو التالي: تقوم الخوارزمية بمسح الرسائل الواردة وتقترح قوالب رد مناسبة، إذ تحاول خوارزمية التعلم الآلي، التي تمت تغذيتها بواسطة استخدام بيانات بريد إلكتروني يمكن الوصول إليها للجمهور، وكذلك محاولة فهم واستيعاب طريقة وأسلوب المُرسِل. كذلك تعمل وظيفة الرد التلقائي في تطبيق LinkedIn بنفس الطريقة، حيث تحدد الخوارزميات الأنماط المستخدمة داخل الرسائل الواردة، وتقترح أيضاً "الردود النموذجية".

أشباح الكتابة

خاصية غوغل "Smart Compose الكتابة الذكية" تتجاوز وظيفتها ما هو أبعد من ذلك: فهي تقترح عبارات التحية والعبارات الأكثر شيوعاً في الرسائل الإلكترونية. كما تستكمل أيضاً العبارات التي بدأت في الزمن الفعلي للكتابة، حيث يتنبأ مولد النص المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والذي يعتمد على نموذج تنبؤ معقد، بما سيكتبه المستخدم بعد ذلك، بناءً على ضغطات المفاتيح. بضعة أحرف تكفي للخوارزمية لإكمال عبارة كاملة، والتي يمكن دمجها في النص من خلال النقر عليها. فعلى سبيل المثال، إذا كتبت "my a" باللغة الإنجليزية؛ فإن الخوارزمية لا تستكمل الكلمة فحسب، بل تضيف أيضاً عبارة كاملة استناداً إلى البيانات المخزنة لديها. وإذا كتبت "Co" في نهاية رسالة بريد إلكتروني بالفرنسية، يقترح البرنامج كلمة التحية "Cordialement". وباستخدام خاصية "استبدال النصوص" يمكن استخدام الاختصارات لاستبدال العبارات الطويلة. وعند إدخال الاختصار في حقل النص، يتم استبدالها تلقائياً بالعبارة التنبوئية، فعلى سبيل المثال، يمكنك كتابة "GM" وسيتم استبدالها تلقائياً بعبارة Good Morning". يبدو الأمر وكأن هناك "أشباحاً" لا يتوقفون عن العمل أثناء ممارستنا الكتابة.

يتم أيضاً تسريع اتصالات البريد الإلكتروني من خلال برمجة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي يصممها المطورون لتصبح جاهزة للرد من خلال ضغطات المفاتيح في غضون 100 جزء من الثانية. وفي الوقت نفسه، يتم إنشاء أكثر من 10% من رسائل البريد الإلكتروني المرسلة عبر حسابات Gmail بصورة تلقائية. ووفقًا لغوغل؛ فإن خاصية "الكتابة الذكية" قد وفرت للمستخدمين بالفعل ملياري "نقرة" أسبوعياً أثناء القيام بالكتابة، وهو ما يعتبره محللو البيانات بمثابة مكسب مذهل على صعيد الكفاءة وجودة إدارة البرامج. هناك أيضاً عدد من الخصائص المفيدة يتيحها برنامح الأوفيس الافتراضي؛ مثل تصحيح الأخطاء الإملائية، وتحويل المواعيد تلقائياً من التقويم إلى رسائل البريد الإلكتروني، وغيرها من العمليات التي توفر الكثير من الوقت والجهد بمستوى مقبول من الدقة والكفاءة.

مليارات التراكيب النموذجية

السؤال الأهم هو ما إذا كان معالج الرد التلقائي لا يزيد من حيز رسائل البريد الإلكتروني، عندما تصبح الاستجابة لهذه الرسائل أقل؟ والحقيقة أن المستخدم لم يعد مضطراً للنقر على المفاتيح بنفسه، فقط يقوم بالضغط على زر الرد التلقائي، ومع هذه الرافعة الأتوماتيكية، تنعدم مساحات التمايز والمفاضلة.

ومع ذلك، تعرضت خاصية "Google Smart Compose الإنشاء الذكي" لبعض الانتقادات؛ لأنها أتاحت استخدام الضمائر الشخصية المُحدِدة للجنس (هو/هي)، ولكن دون التمييز بين المذكر والمؤنث والمحايد، وهو ما أحدث إرباكاً في الصياغات التلقائية، إلا أن هذه المشكلة قد تم التغلب عليها حالياً، حيث باتت مواقع "Google" على الويب توفر إمكانية "استخدام النماذج المختلفة وصولاً إلى مليارات الصياغات والجمل النموذجية، بواسطة فهم القوالب اللغوية ومعرفة كيفية عمل آليات اللغة. ولكن لسوء الحظ، من غير المستبعد أن تتسلل التحيزات البشرية أيضاً إلى هذه الصياغات، فالأمر له إشكاليات أخلاقية بالتأكيد. وقد نشرت "غوغل" إخلاء طرف عن "التحيز غير المقصود"، الذي قد ينشأ من تنبؤات التعلم الآلي عند إكمال العبارات، حيث بذلت الشركة جهوداً كبيرةً لمعالجة هذه المشكلة المتعلقة بخاصية "Auto-complete/ الإكمال التلقائي" في محرك البحث غوغل. ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستأتي "الربحية التقنية" على حساب "استقلالية المستخدم"؟

"حفل الكوكتيل"

يتمثل تأثير الظاهرة المعروفة بـاسم "حفل الكوكتيل"، في قدرة المخ البشري على تركيز انتباه المرء السمعي على منبه معين أثناء تصفية مجموعة من المحفزات الأخرى، كما هو الحال عندما يمكن لصاحب حفل صاخب التركيز على محادثة واحدة فقط، حيث وجد علماء الأعصاب أن الدماغ البشري يقوم باستمرار بتوليد التنبؤات: أين يذهب الخصم في كرة القدم؟ وفي أي اتجاه يتحرك المشاة أثناء حركة المرور؟ وكذلك التنبؤ بالكلمة التي سيستخدمها الشخص الآخر بعد ذلك. إن عمليات المحاكاة تعمل باستمرار في دوائر التفكير داخل المخ - دون أن نلاحظ ذلك. حتى في البيئة الصاخبة، ينجح الدماغ البشري في قمع المحادثات الخلفية وتصفية الأصوات، حتى لو لم يكن من الممكن سماعها بشكل كامل. يشرح أطباء الأعصاب كيفية عمل المؤثرات التي تنسقها ظاهرة "حفل الكوكتيل" داخل الخلايا العصبية، مشيرين إلى أنه إذا كان هذا التنسيق المعقد للعمليات المعرفية في معالجة اللغة مؤتمناً (جزئياً)، فسيتم التعامل أيضاً مع البشر - من جانب الآلة - باعتبارهم "روبوتات". سيجد أي شخص سبق له استخدام خاصية "Smart Compose" أنها خاصية ذكية أو زاحفة معلوماتياً؛ لأن برامج الأوفيس المدعومة بالذكاء الاصطناعي لا تصل فقط إلى الكليشيهات الموحدة، ولكنها تقترح أيضاً العبارات التي كان المستخدم بصدد صياغتها بنفسه.

لماذا نواصل التفكير؟

بعد أن صارت التطبيقات وخواصها الذكية تطارد عقل الإنسان مطاردة تقنية بحتة، فقد باتت تحثه، بصورة غير مباشرة، على عدم التفكير.. لقد أصبح لدينا شعور بأن شخصاً ما يقرأ أفكارنا، كما لو كانت أصابع لوحة المفاتيح تتصل بشكل أو بآخر بعقولنا وتفرغ ما بها تلقائياً. ربما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى"الأنا البديلة" الأكثر مثالية التي "تلتقطنا"، وتضعنا في المكان المناسب على رقعة التواصل. ومع ذلك، تبقى الحقيقة هى أن أجهزتنا الذكية لا تقوم بنسخ عقولنا، لكنها تتعامل معنا، بشكل بحت، كـ"تيمات" للتفكير.. بالظبط كأجهزة إلكترونية تتعامل مع مدخلات محددة وفق برمجة اصطناعية. فكلما بحثت الخوارزميات في رسائلنا الإلكترونية ورسائلنا الصوتية، زادت معرفتها بعاداتنا وأساليبنا في التفكير والكتابة، وزادت دقة توقع الخوارزميات لما سنكتبه فيما بعد. وكلما زاد استخدامنا لقوالب الإجابات الجاهزة، كلما أصبح سلوك الاتصال أكثر قابلية للتنبؤ، وبالتالي أكثر قابلية للتحكم.

من المتوقع أن نصل، فيما بعد، إلى مرحلة جديرة بالتأمل، حيث تصبح الخوارزمية تعرفنا بشكل أفضل مما نعرف به أنفسنا، الأمر الذي سيضر -بالتبعية- بالعمليات المعرفية التي تتم بواسطة الإنسان؛ لأن الكمبيوتر يقوم بنفس هذه العمليات بشكل أسرع وأدق، ويوفر كذلك وحدات النص المناسبة. ومن ثم، ستكون النتيجة هي أن يواجه عقلنا مرحلة ضمور تدريجي بفعل انكماش مساحات التفكير والاستجابة المعرفية.. ببساطة سنتساءل لماذا نبذل الجهد في التفكير المعقد ما دامت الآلة في خدمتنا على نحو أكثر سرعة ودقة؟

هذا السؤال يفسر نظرية الفيلسوف الفرنسي "رولان بارت" التي أطلقها عام 1968، عندما أعلن "وفاة المؤلف" ودفنه أدبياً، معتبراً أن دور المؤلف ينتهي بمجرد طرحه موضوع الكتابة. فما بالنا إذا أصبحت الخوارزميات بإمكانها توقع ما نكتبه، فلن يكون إذن هناك موضوع منذ البداية. لقد مهدت بيانات المستخدمين الطريق لإلغاء وجودهم، ومن ثم يتحول الموضوع المصغر خوارزمياً إلى "كائن حي"، آلة كاتبة تنفذ أتوماتيكياً ما تمليه عليه.


 

رابط المقال المترجم:
Warum Ihr Smartphone schon weiß, was Sie schreiben wollen
تاريخ النشر : 14/5/2021

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها