نقدُ الأفعال المشوّشة على تجربة "الحج"

في رحلة "بوشعرة الحجازية"

بوشعيب الساوري



تميّزت الرّحلات الحجّية المغربية على امتداد عدة قرون ابتداءً من القرن الميلادي الحادي عشر إلى يومنا هذا، بكونها تلفيظاً لتجربة أداء الرّكن الخامس من أركان الإسلام الذي استطاع أصحابُها إليه سبيلاً، سيراً على سنّة مغربية لافتة ممتدّة في الزمان ومتجذّرة في الثقافة المغربية، من خلال تتبّع تفاصيل هذه التجربة الفريدة في حياة كل مسلم بكل مفاجآتها التي صارت حكايات تختزن الكثير من العبَر، عبْر رصد محاسنها ومزاياها وفضْح وإدانة مساوئها ومعيقاتها.


 

تتمثّل محاسن هذه التجربة في معانقة الرّحالين المغاربة للديار المقدسة في مكة والمدينة، وتجديدهم للرابطة الدينية بمهبط الوحي عبر الوقوف عند آثار المراحل الأولى للإسلام المخلّدة في الأمكنة من جهة، وإفصاحهم عمّا تولّده تجربة الحج في نفُوسهم من مشاعر الغبْطة والفرح من جهة ثانية، ومن جهة أخرى إشادتهم بكل الأفعال البشرية المساعدة على إنجاح رحلة الحج في كل مراحلها ومحطّاتها براً وبحراً، بُغْية استكمال رُكن أساس من أركان الإسلام.

في حين تكمُن مساوئها في متاعب السّفر ومجاهله التي يكشف عنها الرحالون من خلال وضعهم اليد على كل ما يتدخّل من قريب أو من بعيد في عرقلة السير العادي للسفر والحج من عوامل طبيعية وبشرية على وجه الخصوص، تصل أحياناً إلى التحايل على الحجاج والتّلاعب بهم، واستغلالهم وابتزازهم مادياً، وما تولّده من مشاعر سلبية كالخوف والغضب، وهذه النّقطة هي التي ستحظى باهتمامنا.

لقد تباين الرحالون المغاربة، على امتداد قرون عديدة، في رصد متاعب السفر إلى الحج ومصاعبه؛ فهناك من اكتفى بالتلميح وهناك من اختار التصريح بالكشف عن الفاعلين وشجْب سلوكاتهم، وإدانتها والدعوة إلى إصلاح الوضْع بتدخّل السلطات بقرارات حكيمة تحترم خصوصية وقُدسية هذه الشعيرة الدينية وتراعي حُرمتها، وهناك من أوجز وهناك من استفاض، وذلك تبعاً لظروف وملابسات تجربة كل سفر من جهة، ومن جهة ثانية تبعاً لخصوصية شخصية كل رحالة، ومن جهة أخرى بحسب سياقات تلفيظ تجارب أسْفار الحج.

من أهم الرّحلات الحجّية المغربية التي لفتت الأنظار إليها بحسّها النقدي الحاد يمكن أن نذكر رحلة ابن جبير في القرن الثاني عشر الميلادي، ورحلة العبدري في القرن الثالث عشر، ورحلة الحجوي في بداية القرن العشرين، ونضيف إليها رحلة محمد بوشعرة سنة 1930م، المندرجة ضمْن الرّحلات الحجية المغربية التي لم تهادن كل العوامل البشرية التي تشوش على تجربة السفر إلى الحج في كل محطاتها، سواء على متن الباخرة الفرنسية أو في محطات النزول، أو في الديار المقدسة أو في محطات الحجر الصحي، وعملت على التصدّي لها بالنّقد الصّريح لفاعليها الهادف إلى التصويب ودعوة المسؤولين للتدخّل بغية وضع حدّ لها بغية تحسين ظروف تجربة الحج مساراً ووصولاً.

قادتنا قراءة نص الرحلة الحجازية لمحمد بوشعرة السلوي إلى التوقّف عند ثلاث مراحل مهمة في هذه الرحلة، كانت مجالاً لتوجيه سهام نقْده لبعض الممارسات التي كانت تسيء للحجاج وتمنعهم من ممارسة شعيرتهم الدينية كما يجب. وقد سجّلنا حضور النقد في مستوى أول في رحلة ذهاب محمد بوشعرة عبْر سفن أوروبية، وفي مستوى ثان أثناء المقام بالديار المقدسة وأداء المناسك وزيارة المعالم الدينية بالديار المقدّسة، وفي مستوى ثالث خلال رحلة العودة التي لم تسلم من ممارسات تؤذي الحجّاج.

 

1. نقد ممارسات مشينة في رحلة الذهاب

سيراً على سابقيه من الرحالين المغاربة، لم يغفل محمد بوشعرة الحديث عن محَن تجربة السفر في رحلة الذهاب ومعاناة الحجاج من سوء الأحوال الجوية الناتجة عن تحوّل السفر إلى الحج من البر إلى البحر، وهي مألوفة في الرّحلات البحرية، لكن ما هو لافت في هذه الرّحلة هو توقّف الرحالة، بعين ناقدة، عند بعض السلوكات المشينة التي طالت الحجاج من قبَل بعض الأشخاص وهم على متن السفينة.

من بين السلوكات التي استفزّت محمد بوشعرة، ولم يستسغها تصرفات بعض السماسرة المتحايلة على الحجّاج والهادفة إلى سلبهم أموالهم. يقول: "وقد جاء عندنا ونحن بالبابور جماعة من السّماسرة الذين يظهرون الأخذ باليد ويبطنون غيره بجعل التعمية عن أعين الناس بالأدب الظاهر ليتوصّلوا إلى سلب أموالهم". ومن بين هؤلاء الحاج ناصر من يهود الشام الذي قال عن تحايله وخداعه ويدعو إلى الاحتياط منه: "والحاصل أن المسمى الحاج "ناصر" هو من يهود الشام يظهر المحبة والنصيحة ويخفي المكيدة والدسيسة وله اطلاع كبير، فينبغي للحاج وغـيـره ممن يمر على مـرسـيـليـا أن يـتـخـذه واسطة في أمـوره لكـن يتعين الاحتياط منه جداً {ولا تومنوا إلا لمن تبع دينكم} (آل عمران: 73). ومن سـيـاسـتـه في التوصل لأغراضه أن جعل في محل الأكل والشرب والنوم المذكور، تحفاً جميلة تروق الناظر موضوعة على هيئة مخصوصة ومرآة من البلور تناسب تلك التحف وأواني للأكل والشرب من أرفع ما يوجد، وجعل جل القائمين بشؤون المحل نساء وذلك كله وسيلة لجلب أموال الناس".

استنكر بوشعرة سلوكات بعض العسكر العاملين في السفينة المستفزة للحجاج والممتهنة لهم، من ذلك تبول أحدهم الذي أصاب المصلين الذي دفع الحجاج إلى الاحتجاج: "وفي ليلة السبت كانت جماعة من الحجاج تصلي العشاء بالطابق السفلى وشرذمة من العسكر كانت مسافرة معنا بالبابور تطل عليهم، فعمد فرد منها وبال فأصاب البول المصلين فاجتمع الحجاج وذهبوا إلى كبيرهم وإلى "كميسار" الباخرة وحكوا لـهـمـا الـواقـعـة فـحكما عليهم بالسجن ما داموا في الباخرة. والسجن هو ملازمتهم لمحلهم بالبـاخـرة بأن لا يتـعـداه أحـد منهم وهنا انتهت القضية، وهذا من الامتهانات التي تصيب المسافر في المرتبة الرابعة لاسيما من يريد حج بيت الله الحرام".

2. نقد ممارسات مسيئة للأماكن المقدسة

توجّه محمد بوشعره بنقده هنا إلى مجموعة من النقط، من بينها نقده لما يجري من تحايل في بعض أضرحة الأولياء المشهورين بالصلاح حتى يزداد الإقبال عليها كما ذكر في دمشق: "وزرنا بإزائه قبري ابنيه سعد الدين وعماد الدين. كذا قبور من معهم بالضريح، كما زرنا المسجد المجاور لضريحهم ثم زرنا ضريح السيد محمد أيوب الذي رأينا إحدى قدميه بادية من القبر إن صح ذلك، المتوفي سنة سبع وثلاثين وسبع مائة على ما قيل لنا لما كنا بداخل ضريحه. وأن سبب بروز إحـدى قـدمـيـه مـن الـقـبـر أنه رمى بها لما علم الناس يتحدثون في شأنه وينكرون كـرامـتـه، فـبـرز بهـا مـن الـقـبـر إشارة إلى أن رجله موضوعة على كل أحد، فبقيت مرتفعة من القبر إلى وقتنا. وزرنا بإزائه قبر أخيه صلاح الديـن ومـا حكى لنا من السـيـد مـحـمـد أيـوب لا يسلم، وإنما هو من مبتدعات المتصرفين في الضريح ليزداد إقبال الناس عليه سيما وقد دلت القرائن على أن تلك الـقـدم مفتعلة". واعتبرها من الأمور المنتشرة في العالم الإسلامي عامة والمغرب خاصة بقوله: "بل مثله واقع في وقتنا وذائع في مغربنا من انتساب الأقوال والأفعال التي يأباها الشرع إلى الأولياء، بحيث لو فرضنا صدورها منهم لحكمنا بزندقتهم، ومع هذا وجدنا من يسلم ذلك ويعتقده ويزيده توضيحاً لمن لا يعرفه ليتوصل إلى سلب الأموال بالحيلة وللحصول على السمعة والرياسة. ولو تتبّعنا أقوال الأولياء وأفعالهم وأحوالهم التي كانوا عليها لوجدناها على الأساس المتين والمنهج القويم حاشاهم من ذلك كله".

ولم يستسغ محمد بوشعرة ما فعلته الحركة الوهابية بقبور البقيع من تعد وتدمير: "ثم نبهنا عن أمور حدث اعتقادها عند زيارة قبر خير الأنام، بسبب ما حل بتلك البقع الشريفة من التشويش في الأذهان والأفهام لنكون على بصيرة من سلامة العقيدة وإجراء الأمور على مقتضيات شرع الإسلام". ويستنكر تعديهم على القبور بالبقيع بالمدينة المنورة: "فزرنا بعد المشاهد والآثارات الباقية بعد التحطيم؛ لأن جل القبور قد درست معالمها بالكلية، لما حل بالجميع من قبل اليد العادية والتجرؤ الواقع من الدولة الوهابية". وهو أمر يصعب على الحجاج معرفة أصحابها: "ولم يبق ظاهراً منها إلا القليل وهو المعروف عند المزورين والأمر لله ما شاء فعل".

وأيضاً نقده التملك بمِنًى الذي يخالف السنة النبوية في قوله: "ثم إن أرض مِنًى لا ملك لأحد فيها فهي لعامة الناس، فكل من نزل منزلا بها كان مختصاً به إلى أن يقضي مناسكه كما سيأتي في حديث سيدتنا عائشة رضي الله عنها. واليوم صارت أرض تجارة بإذن الحكومة السعودية ووقع بناء الدور بـهـا والأحـواش وصـارت تكـرى بالأثمـان الباهظة ووقع التنافس بين الحجاج، فتراهم يسألون عن محل إقامتهم بمنى فالذي يستقر بالدار يفتخر على الذي يستقر بالحوش ولم يدر كل واحد منهم أنه مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. فـقـد صـار منزل الحاج بمِنًى بمنزلة المنتزه لا بمنزلة محل قضاء النسك، وفي كل عام يزيد ذلك تفاحشاً نعوذ بالله من الجهل..".

ووجه نقداً حاداً لظاهرة لافتة تتمثل في نوم بعض الحجاج في الحرم الشريف، يقول ممتعضاً: "قد ساءنا ما كنا نراه كل ليلة من نوم بعض الحجاج في الحرم الشريف، وبعد صلاة العشاء ينقلون فراشهم إليه وبلا فراش أيضاً، وإذا جئنا للحرم في الفجر نجدهم مشبوحين على الأرض مانعين الناس من المرور، وفي بعض الأحيان نطأهم بأرجلنا، ثم إذا حان وقت الفجر أتى المكلفون بالحرم بيدهم قضيب من عود يضربون بها الأرض وينهضونهم ويقولون الصلاة، فيقومون مرعوبين فيذهبون، فيتوضؤون ويرجعون لصلاة الصبح، فمنهم من تفوته صلاة الفجر ومنهم من تفوته صلاة الفجر والصبح معاً ويصلي منفردا وهكذا". وينتقد عدم تدخل الحكومة لوضع حد لهذه الممارسات: " ولا من يتكلم على هذا المذكر ولو بالإشارة، ولا يخفى على أحد ما يصدر من النائم حالة نومه، كما لا يخفى عليه فعل ذلك المنبه الذي يضرب الأرض بالقضيب ويسوء الأدب على بيت الله، فهل هذا بيت الله أو مأوى لاجتماع الناس فيه للنوم وغيرها فلم لا تغير الحكومية هذا الفعل المنكر؟ بل أقرته بسكوتها وزادته انتشاراً بسياستها وهي تقول بالوقوف عند الجادة، وقد صار الحرم الآن محل اجتماع فترى أهل مكة ومنهم المطوفون يحلقون فيه قبل الصلاة وبعدها ويصرفون إليهم الحجاج ويستغرقون الوقت بالكلام الخالي عن الفائدة، وكأن الحجاج لم يعلموا ما هم قادمون لأجله ولأي سبب تركوا أوطانهم وهجروا أهلهم وأولادهم وأقبلوا لهذا المقام بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لزيارة ربهم في بيته العتيق، ولم يدر كل واحد هل يعود لذلك مرة أخرى أو يعوقه عائق، يحول بينه بالأولوية والأحرى. بل هو مقام التضرع والابتهال ومحل الخضوع والتذلل والسؤال".

نقد اختلاط النساء والرجال في الطواف وما يترتب عنه من ممارسات تسيء إلى الشعيرة الدينية وقدستيها: "ومثل ما هو حاصل في حالة الطواف من اختلاط النساء بالرجال وإن كان الشارع أباحه، لكن حيث فسد الزمان وانتشر فساده وقل الحياء وفشا في النساء وأصابت سهامه الرجال، يتعين على الحكومة أن تجعل لهن وقتاً خاصاً بهن وإن كـان لـيـلا فـهـو الأولى. وقد كنا نرى حالة الطواف اختلاطهن بالرجال ولكثرة الازدحام يلتقي جسم الرجل بجسم المرأة سيما عند استلام الحجر الأسود، وكنا نرى المرأة تدفع الرجل بجميع ذاتها والحالة أن الرجل لابس لثياب إحرامه فقط".

3. نقد إجراءات الحجر الصحي

من الظواهر التي صاحبت تحول رحلات الحج من البر إلى البر ظاهرة الحجر الصحي التي كانت تفرض على الحجاج في بعض محطات العبور أثناء رحلة العودة، خوفاً من تفشي عدوى بعض الأمراض والأوبئة بسبب الاختلاط الذي يحدث خلال فترة الحج، لكن طريقة إجرائها كانت تضايق الحجاج وتهينهم في كثير من الأحيان لذلك توجهوا لها بسهام النقد.

لم يسلم منها محمد بوشعرة بدوره، فصب جام غضبه عليها وعلى الساهرين عليها، وخصوصاً في الطور بمصر، بل وصل به الأمر إلى الدعاء على القائمين عليها: "ثم صعد إلينا الطبيب المكلف بالمحجر الصحي وأذن أولا بنزول المرضى الذين كانوا بمستشفى البابور ثم ثانياً الحجاج وكنا إذ ذاك أربع عشرة مائة. فنزلنا مصحوبين بجميع حوائجنا وبقيت الباخرة فارغة من أمتعة الحجاح، وقد وجهت إلينا مراقبة الصحة أعوانها بمواد الرش والتبخير، وذهبنا نحن إلى المكلف بفحص الحوائج والأمتعة ودفعها للتبخير، ثم إلى المكلف بأخذ ملبوسنا ودفعه للتبخير كذلك. ودخلنا المغتسل بالمآزر فقط، وبعد الفراغ منه ناولوا كل واحد منا قميصاً يستر به بدنه ريثما تخـرج حوائج الملبوس من آلة الـتـبـخـيـر. وبعـد ردها إلينا ذهبوا بنا إلى المحجر الصحي على هيئة المحبوسين، فقضينا به بقية يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وفي كل يوم يتفقدنا الطبيب ويبحث عن المرضى. ويوم وصولنا إلى الطور توفي بمستشفاه الطبي، السيد الصديق نجل السيد الحاج علال بن الميلود السلوي بحضـور والده كان معه، وتولى إقباره الطبيب المكلف بالمستشفى بعدما أذن لوالده في جعل عملية الرش والتبخير والذهاب للمحجر، ولم يحضر إقباره".

 

تركيب

هكذا تبينا واحداً من مميزات تلفيظ محمد بوشعرة لتجربة سفره إلى الحج، ألا وهو الحس النقدي، الذي جعله يكرس خاصية ميزت العديد من الرحلات المغربية على مر القرون وهي الطابع النقدي. وقد توقفنا عند نقد بوشعرة للعديد من الأفعال البشرية التي تخدش الركن الخامس من أركان الإسلام، وتشوش على أدائه، وتتمثل في ممارسات أثناء رحلة الذهاب وأثناء تجربة الحج وأثناء العودة منه.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها