العقّاد في سيرته الذاتيّة "أنا"

ديما يوسف سلمان

في مقدّمته لآثار جبران التي كتبها بالعربية يقول ميخائيل نعيمة: "يطوي العبقريّ في خلال عمر واحد أعمار أجيال سبقته، وأجيال تأتي من بعده فيموت ليحيا ويحيا غيره ليموت، ويحيا العبقريّ في قلوب الأجيال؛ لأنه يعطي آلامها الخرساء ألسنة من نار، ويمد آمالها المقعدة بأجنحة من نور". وهذا ما ينطبق على أحد عباقرة الأدب العربي الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلّفاته شعراً وعلماً وقصّةً ودراساتٍ، ولم يعرف أدبنا العربي المعاصر أديباً كالعقّاد في تنوع كتاباته، والفنون الأدبية التي تطرّق لها فهو أديب وباحث وشاعر ومفكر وناقد.


ولقد أبدع العقاد وأجاز عن هدفه من القراءة والبحث عندما قال: "لست أهوى القراءة لأكتب؛ وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرّك كلّ ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذي الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها في مقادير الحساب". فهل لكتاب "أنا" لعباس محمود العقاد الذي أفرده لسيرته أن يخبرنا عن مراحل وأبعاد وسيرة هذا الكاتب الكبير؟

لا شكّ أن هذا الكتاب بحد ذاته إضافة لأدب السيرة الذاتية، فعبر صفحاته يتحدّث العقّاد عن مراحل حياته بأسلوبٍ واضحٍ وشيّقٍ وجميل.. قدّم لهذا الكتاب الأديب والصّحفي المصري "طاهر الطّناحي" الذي كان من معاصري العقّاد، وهو الذي وضع عنوان الكتاب؛ لأنّ العقّاد قد عاجلته المنيّة قبل أن يتمّ جمع المقالات الخاصّة بهذا الكتاب، وفي حقيقة الأمر كان من المفترض أن يكون هذا الكتاب جزءاً من عملٍ كبيرٍ كان في نيّة العقّاد إعداده كتدوين لسيرته الذاتيّة، وكان بصدد تسميته (عنّي)، حيث كان ينوي أن يضع هذا العمل في جزئين، الجزء الأول يتحدّث عن حياته الشخصيّة، والجزء الآخر عن حياته السياسية والاجتماعية، ولكنّ العقّاد رحل عن هذا العالم دون أن يكتب الجزء الآخر فصدر عنه كتاب أنا كتوثيق لحياته الشخصيّة، فتناول العقاد في هذا الجزء مولده ونشأته وتعليمه وعقيدته، كما تناول بعض مبادئه والقضايا التي يؤمن بها. يقول الكاتب الطناحي في معرض تقديمه لكتاب العقاد: "وحياة العقّاد حياة ضخمة لا يجمعها كتاب واحد، فإذا كنت أقدم للقراء في كتاب أنا حياته النفسية والشخصية أو العقّاد الإنسان، فسيبقى بعد ذلك أمام المؤلّفين العقّاد الكاتب والعقّاد الشاعر والعقاد السياسي والعقّاد اللّغوي والعقاد الصحفي، والعقّاد الفنّان والعقّاد المؤرّخ والعقّاد المؤلّف، والعقّاد العالم والعقّاد الفيلسوف، فقد كان بحراً في اطّلاعه وإنتاجه، وكان فذّاً في مواهبه وعبقريته".

وما يتميّز به هذا الكتاب هو أنّ العقّاد لم يكتب عن العقّاد كما يعرفه الناس، بل كتب عن نفسه كما يعرفها هو، وقد قسّم العقّاد هذه السيرة في فصول ولكل فصل عنوان على نحو "أنا، أبي، أسرتي، أساتذتي.."، وبأسلوبٍ شيّقٍ يتحدّث العقّاد عن مولده ونشأته وتعليمه وعقيدته، كما تناول بعض مبادئه والقضايا التي يؤمن بها.

وفي البداية يستنكر العقّاد أن يكون رجلاً مفرطاً في الكبرياء والقسوة والجفاء، فهو كما يقول: "نقيض ذلك هو رجلٌ مفرطٌ في التّواضع، ورجلٌ مفرط ٌفي الرّحمة واللّين، ورجلٌ لا يعيش بين الكتب إلاّ ليباشر الحياة".

ثم يتحدث العقاد عن ولادته، حيث وُلد في أسوان يوم 28 يونيو سنة 1889 له إخوةٌ أشقاء وغير أشقّاء؛ لأن أباه كان متزوجاً قبل أن يتزوج أمّه وماتت زوجته الأولى ثم تزوج الثانية، يذكر كيف بدأت حياته الأدبية وهو في التاسعة من عمره، حيث كانت أول قصيدة نظمها في حياته هي قصيدة "مدح العلوم"، وجاء فيها:
علم الحساب له مزايا جمّة
وبه يزيد المرء في العرفان
والنّحو قنطرة العلوم جميعها
ومبين غامضها وخير لسان
وكذلك الجغرافيا هادية الفتى
لمسالك البلدان والوديان
وإذا عرفت لسان قوم يا فتى
نلت الأمان به وأيّ بيان

تدرّج في المدرسة ثم جاء القاهرة للكشف الطبي، حيث التحق بإحدى الوظائف الحكومية عام 1904 وكان عمره أنذاك 15 سنة، وكانت وظيفته في مديرية قنا ولم يكن مثبتاً في الوظيفة؛ لأنه دون سن الرّشد، ثم نقل إلى الزقازيق لكنّه سئم وظائف الحكومة وجاء القاهرة وعمل بالصحافة، ثم عيّن عضواً بمجلس الفنون والآداب، كما عين بالمجمع اللغوي. يَذكر العقّاد في كتابه أنّ والده كان متديّناً حريصاً على أداء الفرائض وكذلك كانت أمه. وقد أفرد العقّاد فصلاً عن بلدته فيتغنى بها قائلاً: "صفاءٌ في جوّ المكان قلّما تشوبه غاشية، وامتلاءٌ في جوّ الزّمان قلّما تخلو منه زاوية، تتنقل فيها من عصرٍ إلى عصرٍ، كما تتنقل فيها من حارةٍ إلى حارة وترجع في تاريخ مصر إلى أقصى الماضي فتلقى لها تاريخاً مثله". وهو أيضاً ممتنٌّ لبلدته أيّما امتنان بل يشكر القدر لأنه وُلد فيها، ويتنفّس من هواها معاني الوطن والإنسانيّة، حيث يقول: "فإذا ذكرت أسوان بلدتي جاز لي أن أذكرها فأقول مدرستي؛ لأنّني كما أسلفت أدين لها بالإنسانيّة في الأدب، والعالميّة في السياسة وبالوطن الذي تتّسع له آفاق الفكر وآفاق الشعور، لعلّي قد تنفّست هذه الدروس من هواء الموطن قبل أن أقبسها من صفحات كتاب".

في الفصل الثاني من الكتاب يقول العقاد عن أساتذته: "وما أحمد الله عليه أنّ أساتذتي جميعاً قد اخترتهم بنفسي"، وهو أصبح كاتباً كما يذكر بفضل ثلاثة أشياء هي (التّشجيع والظّروف والرّغبة)، وكان من أبرز المشجّعين له الشيخ محمد عبده الذي نال إعجاب العقّاد إلى أبعد حد كما يعترف.

لم يسعَ العقّاد للوظائف الحكومية وهو لم يحبّها على الإطلاق، والموظف عليه أن يتقبّل التسخير والطاعة حسب رأيه، كما يتحدث العقاد عن منهجه في تأليف الكتب الذي يتلخّص بكلمتين هما: التّقسيم والتّنظيم، فهو مدركٌ لقيمة الوقت حيث يقول: "إنّ أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه"، كما يقول: "كنتُ شيخاً في شبابي فلا عجب أن أكون شابّاً في شيخوختي".
 

وفي كلّ فصول الكتاب نتلمّس الأبعاد الإنسانيةّ لشخصيّة العقّاد، وتتّضح فلسفتُه في الحياة واهتماماتُه وآراؤه وأفكارُه التي تتوالى بأسلوبٍ شيّقٍ وعميق يميل إلى التّشريح الدّقيق لتفاصيل الفكرة، ليمحو أيّ غموض أو إبهام وفي أحيان أخرى يرسم العقاد أفكاره وخواطره بلغةٍ شاعريّة لا تخلو من رؤى فلسفيّة؛ اسمعه يتحدّث عن اللّيل والمشاعر التي تعتمل في النّفس الإنسانيّة "إنّنا نكبر باللّيل جدّاً يا صاح، إنّ اللّيل هو عالم النفس وأمّا النّهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان، إنّنا بالنهار جزءٌ صغيرٌ من العالم الواسع الكبير، ولكنّ العالم الواسع الكبير كلّه جزءٌ من مدركاتنا حين ننظر إليه في الليل، وهو في غمرة السّبات أو في غمرة الظّلام أنت تشمل الدنيا باللّيل وهي تشملك بالنهار".

ومثل هذه الخواطر والأفكار المنسابة نجده في هذا الكتاب في فصوله المختلفة؛ فقد كتب عن العمل والوقت وخواطر في الصحة والمرض، وعن رأيه في مراحل العمر وفي قضايا الحبّ والحياة والإيمان وغيرها، فنقرأ فكراً غنيّاً وآراءً وفلسفةً تحكي بواقعيّة وتحليليّة للنّفس الإنسانية وتأمّلاتها، وما يخالجها من مشاعر وهواجس وشكوك وقناعات، مما أضفى على هذه السيرة الذاتيّة أبعاداً فلسفيّة وفكريّة واضحة.

كان عام 1964 عام رحيل العقاد، ليرحل صاحب سلسلة العبقريات الشّهيرة، وصاحب الكتب المتنوعة شعراً وروايةً وقصّةً ومقالاً ومن بينها كتابه "أنا" الذي تحدّث عن العقّاد الإنسان، وجوانب من شخصيّته وآرائه وفلسفته في الحياة.. لكن يبقى الكثير عن فكر العقّاد وحياته الاجتماعية والأدبية، ونتاجه الفكري والأدبي الغنيّ والمميّز، ما يحتاج ربّما الكثير والكثير من الدّراسات والأبحاث عن عملاق الفكر العربي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها