هزَّ كتفَها برفقٍ.. همسَ في أذنيها لتستيقظَ.. تعبَ مِن الانتظارِ.. تناولَ أحجياتِهِ واستدارَ نحو النَّافذةِ يرشفُ الودَّ مِن أوجهِ العابرينَ، لطالما كانَ الغرباءُ منفذَهُ على العالمِ، يبادلُهم النظراتِ ويتحفَّظُ في إرسالِ ابتسامتِهِ، يعودُ إليها.. يهزُّ كتفَها برفقٍ.. يهمسُ في أذنيها لتستيقظَ.. يتعبُ مِن الانتظارِ..
يلتقطُ سجَّادَتها ويفترشُها للصَّباحِ، الصَّباحُ لا يجيءُ، ينتفضُ مِن رقدتِهِ وقد أرَّقَهُ الجوعُ.. يهزُّ كتفَها.. يهمسُ في أذنيها.. يتعبُ، التَّعبُ وشمٌ يغلِّفُ الرُّوحَ، أنفاسُها التي كانت تشبهُ المرجلَ البُخاريَّ لا تزالُ رائحتُها الحميميَّةُ تملأُ أجواءَ الغرفةِ، تغشى ملامحَهُ ابتسامةٌ كانت تنتمي إليها، لكنَّها ما زالت تُسرفُ في نومِها، غيَّبَهُ الجوعُ.. وما زال يهزُّ.. ويهمسُ.. ويتعبُ، الهمسُ عتابٌ نبيلٌ، يتَّجهُ للنَّافذةِ ويُدَلِّي رأسَهُ، الغرباءُ العابرونَ لا يجيدونَ الانتباهَ لقاطني النَّوافذِ المظلمةِ، يُثبِّتُ عينيهِ على نجمةٍ تتوهَّجُ حنيناً، الحنينُ علامةُ النَّبضِ، تسقطُ النَّجمةُ على جدارِ النَّافذةِ وتتسلَّلُ داخلَ قلبِهِ.. وتستقرُّ، يُحملقُ في البعيدِ نحوَ سماءٍ غريبةٍ تنتزعُ منهُ رعشةً صوفيَّةً يُغلِقُ على أثرِها النَّافذةَ، يرمقُها مِن بعيدٍ، يتعجَّبُ مِن صبرِها على النومِ الطويلِ، لقد كانت قبلَ اليومِ تنتفضُ من رقدتِها كلما دهمَ الجوعُ أحشاءَهُ دونَ حاجتِهِ لأن يهزَّ ويهمسَ ويتعبَ.
تقطعُ تصوُّراتِهِ المضطربةَ جلجلةُ جرسِ بائعِ الفولِ، كانت دائماً تزعقُ عليهِ وتُدلِّي سبتاً معلَّقاً في رُوحِها وتخلطُ الفولَ بابتساماتِها المرهقاتِ وأنينِها المكتومِ وترشُّ عليهِ من ملحِ عرقِها وتنفثُ مِن رئتيها المُثقَّبتينِ على اللُّقيمةِ قبلَ دسِّها برفقٍ في فمِهِ الرَّغويِّ، التَّذكُّرُ يُشرنقُهُ بغُلالةٍ مِن خشوعٍ، الجلجلةُ تتلاشى شيئاً فشيئاً.. يجري نحوَ النَّافذةِ ويفتحُها بنَهَمٍ، بائعُ الفولِ يذوبُ وسطَ العابرينَ، يعودُ إليها وقد امتلأَ وجعاً وغيظاً كظيماً.. اكتفى هزّاً وهمساً ولم يكتفِ تعباً..
جلسَ على حافةِ سريرِها، عندَ أقدامِها مباشرةً، ومالَ بجذعِهِ على ساقيها، ساقاها مرفأٌ للأنينِ، قبلَ أن يدهمَهما السُّكَّريُّ كانتَا كالوتدِ يحملانهما معاً دونَ أن يميدا، حاولَ التَّسلِّي بدفئِهما لينامَ عليهما حتى الصَّباحِ، ولكنَّ الصَّباحَ لا يجيءُ، قامَ ليبحثَ عن بعضِ اللقيماتِ المتناثراتِ، لم يجد، قرصَهُ البحثُ وغامَت عيناه، إنَّها لا تزالُ نائمةً بغيرِ اكتراثٍ، قلَّدَها بدمعتينِ دافئتينِ وقبَّلَ قدميها فسَرَت بجسدِهِ قشعريرةٌ ألجمَتْهُ، ليسَ أمامه سوى النَّافذةِ تشاركُهُ البرودةَ، النَّافذةُ حلمٌ يتشكَّلُ حسبَ الرَّغبةِ، الطَّريقُ ابتلعَ العابرينَ، لم يجد سوى قطَّةٍ تحتضنُ صغارَها وتلقمُهم أثداءَها وتدثِّرُهم بفرائِها الهزيلِ عن أعينِ الليلِ الباردةِ المتجهِّمةِ، عادَ بنظرِهِ ناحيتها، ما زالت ترفلُ في النَّومِ بهدأتِها غير المعتادةِ، ينبشُ أظفارَه في جدارِ النَّافذةِ ويُدلِّي رأسَهُ ثانيةً.. يسندُها على الجدارِ.. تتوهَّجُ النَّجمةُ في صدرِهِ.. تُغلِّفُهُ بغُلالةٍ مِن الدِّفءِ.. ينامُ على هيئتِهِ، والصَّباحُ يجيءُ.
يفيقُ على ازدحامٍ وجلبةٍ، نساءٌ يرتدينَ سواداً ويتجهَّمنَ بغيرِ مبرِّرٍ يدركُهُ، ينظرُ إليها وقد سُربِلَت بملّاءتِها الوحيدةِ، بطنُها ارتفعَت قليلاً، ورائحتُها المتعبَةُ تختلطُ برائحةِ الحزنِ، الجوعُ اندحرَ مِن أمام ذهولِهِ، اتَّجَهَ إليها لكنَّهُ خشي أن يهزَّها أو أن يكشفَ الملّاءةَ عن وجهِها المستغرقِ في نومٍ عميقٍ، لكنَّها لم تعتد أن تغطيَ وجهَها وهي نائمةٌ.. مَن هؤلاء اللائي يتجهَّمنَ دونَ سببٍ؟ مَن أدخلهُنَّ علينا؟ وكيفَ يتصرَّفنَ في أشيائنا البسيطةِ بهذه الطَّريقةِ؟ أليست الطرحةُ التي ترتديها المرأةُ البدينةُ ذاتَ السُّوارين كانت إلى الأمسِ بصندوقِ ملابسِنا؟ أليست تلك الأواني التي تخرجُ الآنَ مِن البابِ لنا؟ هكذا تصطكُّ الأسئلةُ برأسِهِ.. اقتربَ مِن أذنيها وهمسَ.. لم تُجب.. كرَّرَ.. لم تُجب.. زادَ.. لم تُجب.. صرخَ.. لم تُجب.. كشفَ وجهَها وارتمى على صدرِها.. لم تُجب.. أخذَ ينشجُ ويرجرجُ أعضاءَها.. يترسَّمُ في ذاكرتِهِ ملامحَها الجديدةَ حتَّى يعاتبَها.. يقبِّلُ كلَّ جسدِها مستعطفاً إيَّاها لتنهضَ.. يغلِّفُهُ الفزعُ.. ويذوبُ على سجَّادتِها الملقاةِ أسفلَ سريرِها.. ويستسلمُ لهروبِهِ الكبيرِ نائماً، لا ينتبهنَّ إليهِ، يفيقُ ليلاً على السكونِ المزعجِ الذي يتمطَّى بأذنيهِ.. يخرجُ مِن مخبأهِ.. يمسحُ الغرفةَ بعينيهِ.. ليست موجودةً على سريرِها.. السَّريرُ باردٌ مُبتلٌّ.. دهمَهُ الجوعُ ثانيةً.. أشياؤهما البسيطةُ غير موجودةٍ.. يعتلي السَّريرَ في استسلامٍ تامٍ.. يحملُ ارتعاشاتِه معهُ.. نجمتُهُ تتوهَّجُ في صدرِهِ.. تستسكنُهُ.. ويذوبُ في نومٍ عميقٍ.