الوجه الآخر للمبدع بيرم التونسي

ناجي محمد كامل العتريس


بين الحين والآخر أهرع إلى الأعمال الكاملة للعبقري بيرم التونسي؛ لأستمتع بمفرداته الشعبية المستمدة من قاع الحارة المصرية، وبصوره الشعرية الساخرة غير المسبوقة. لم يفشل بيرم مرة في مد روحي بالبهجة، ورسم البسمة على شفتي وكأنها المرة الأولى التي أقرؤه فيها. وبيرم من الشخصيات التي تُثير الإعجاب والتأمل والحيرة، فعلى مستوى الكتابة والشعر لا يختلف عليه اثنان، ولكن على المستوى الشخصي تجد صورة مناقضة تماماً لأعماله، وتتعجب كيف لهذه الروح المعذبة المملوءة مرارة وجهامة ونظرة تشاؤمية للحياة وللناس أن تأتي بهذا الأدب الساخر الضاحك الذي يجعلك تستلقي على قفاك من الضحك؟


لم تكن الحيرة من نصيبي أنا وحدي بعد اكتشاف هذا التناقض العجيب بين أعماله وواقعه الحياتي، ولكني وجدت كثيرين من معاصريه يذكرون كيف كان عبوساً ساخطاً على الدوام ينفر من الناس، بل يكرههم ويضيق بهم، وكان لا يشغله من الأدب إلا ما سوف يربحه من عائد مادي بسيط.

كان يشعر أنه خُلق للزجل وأن الزجل خُلق له دون سواه؛ لذلك لم يسمعوا منه كلمة ثناء أو تقريظ لأي زجال مهما بلغ فنه من جودة وتميُّز، ونسي بيرم الذي كان باعتراف الجميع موهوباً استثنائياً أن المواهب كالجمال لها أشكال وألوان ووجوه متعددة.

يقول فنان الكاريكاتير الشهير رخا -وكان من أصدقاء بيرم- إن بيرم كان مهموماً دائماً بمطالب الحياة، ولا يستطيع أن يكتب في بيته، فكان يخرج إلى مقهى يكتب فيه فإذا تعرف عليه أحد وسُرَّ لرؤيته واقترب منه محيياً أو معبراً عن إعجابه تجهَّم بيرم في وجهه، وأعرض عنه ونأى بعيداً حتى لا يتشجع بترحيبه ويجالسه، ويمضي الوقت في كلام فارغ من وجهة نظره، ويضيع النهار دون أن يكون قد كتب شيئاً يكسب به "رزق العيال" على حد تعبير بيرم الحرفي متشكياً من سماجة هؤلاء السخفاء الذين يريدون إضاعة وقته في مثل هذا العبث، هذا على مستوى الأشخاص العاديين والذي قد يكون معه الحق في البعد والانزواء حتى يستطيع العمل والإبداع، فيحاول تصدير نفسه على هذه الصورة حتى لا يقترب منه أحد ويعطله عن الإنجاز.. لكنه على مستوى الأدباء والكتاب أيضاً كان على هذه الصورة من التجهم والنفور، بل والعداء وقد خصص الزجال الشهير أبو بثينة فصلًا في كتابه "الزجل العربي ماضيه وحاضره ومستقبله" عن بيرم وعلاقته به، وكيف كان بيرم يكن له الكراهية والعداء دون سبب رغم محاولاته الكثيرة للتقرب إليه، وإعطائه حقوقه المادية لعلمه بظروفه المادية الصعبة التي واجهته من جراء النفي والتشريد، ولكنه أبى بل وكتب عنه زجلاً قاسياً قال فيه:
"خراب ما يحتاج لمعاينة
وفن باير وأهي باينة
أميري جوز أم بثينة
وأنا الرعية أنا وعيالها"

ويرجع ذلك إلى نزعة التعالي وحب التفرد وسخطه على تلقيب الناس له بلقب "أمير الزجالين"، بل وهاجم الكاتب والشاعر متعدد المواهب حسين شفيق المصري "حسين يا بن شفيقة/ ضجرت منك الخليقة/ أنت في الكتاب/ كالجميز في وسط الحديقة" لاعتقاده ولتصوره الخاطئ أن شفيق يحاربه، رغم أنه كان لا يذكر بيرم إلا بالخير والمديح، بل ونشر له ذات مرة زجلاً بجوار الباب الذي كان يحرره شعراً بعنوان "المشهورات" في مجلة الفكاهة، وتألم حسين شفيق المصري كثيراً من فظاظة وعداء بيرم غير المسبب فقال مخاطباً إياه وغيره:
"هنيئاً لكم أعراضكم، لست طاعنا
عليكم ولو أفحشتمو عدد الرملِ
لكم سيئات أنتم تعلنونها
سفاها وبعض الفعل يغني عن القولِ
أجانبكم لا عن قلى أو ملالة
ولا خوف أن يعزى إلي سوى فضلي
فإن لكم شأنا، وشأني غيره
ويحكم رائيكم ورائي بالفعلِ
كذبتم بذمي إذ كذبت بمدحكم
فهذا بذا والمسك أسود كالوحلِ"

وهنا نقول إنه قد يكون أبو بثينة والمصري بالفعل كانا يحاربانه ويقطِّعان فيه، وأنه يرد العداء بعداء أقسى منه، وأن أبا بثينة كتب هذا الكلام في كتابه على طريقة "عدوك ابن كارك"؛ لكن الكاتب الجميل يحيى حقي يؤيد غلاظة طبع بيرم وفظاظته، وبُعده عن الضحك والسخرية في حياته؛ فيحكي في كتابة الرائع "كناسة الدكان" عن إعجابه الشديد ومعه كل أفراد أسرته بفن بيرم التونسي وأزجاله، وأنه لم تكن تظهر قصيدة جديدة له في المجلات والصحف إلا واحتفلوا بها وتلوها في جلساتهم العائلية، وضحكوا لها كثيراً واستمتعوا بها رغم عشقهم للفصحى، وظل بيته وفيا لبيرم باقيا على حبه والإخلاص له يحزنهم أشد الحزن أن يفلت زجل منهم، وظلوا يتتبعون أخباره ويرثون له وهو يتلطم في غربته في فرنسا، ويضحكون معه وهو يروي لهم حكايات "سيد ومراته في باريس"، واعتزازهم واحتفاظهم بأعداد مجلة "المسلة" التي كان يصدرها ويعجبون بجرأته ووطنيته وسخريته، وإن ضاق صدرهم قليلا ببعض التلميحات النابية الفجة يقصد "الوزة قبل الفرح مدبوحة"! هذا الإعجاب الشديد بفن بيرم جعل يحيى حقي يكتب مقالا يشيد فيه ببيرم وأزجاله، بل وعده أيضاً إماماً في فن القصة، وظهر المقال في المجلة فطار حقي من الفرح و"تمطع"، وحزم المجلة وأرسلها بالبريد المسجل على عنوان بيرم في باريس بعد أن حصل عليه من الصحيفة التي تنشر مذكرات "سيد ومراته في باريس"، وترقب كلمة أو إشارة من الشاعر الكبير يطمئن بها إلى أنه قد قرأ مقاله عنه، وقد كان كل ما يرجوه سطر واحد يحمل تحية من بيرم ليمتد بينهما جسر ولو في الهواء؛ إلا أن هذا لم يحدث ومرت شهور وربما أعوام ونسي حقي حكاية المقال والمجلة، وذات يوم ابتسم الحظ له وقابل بيرم التونسي فذكَّره بحكاية المقال والمجلة، وسأله هل وصلته المجلة وقرأ المقال فإذا به لشد دهشته لا يجد من بيرم شكراً ولا حناناً؛ بل وجده قد اربدَّ وجهه واغبرَّ وفاجأه بقوله "هو إنت الله يخرب بيتك"!

وعلامة التعجب من عندي وأسقط في يد حقي واضطرب وتصور أنه أساء إليه في مقاله من حيث لا يدري؛ لكن صدمته كانت أبشع عندما علم منه أن سبب ثورته أنه كان في باريس يشكو من الجوع والإفلاس، ولا يمتلك إلا فرنكات معدودة لا تكفي حتى لأكله في هذا اليوم، وكان ينتظر على أحر من الجمر وصول أجر بعض مقالاته وأشعاره بالبريد، فلما وصله إخطار من البريد بوجود طرد مسجل هرع إليه كالمجنون آملا أن تكون حوالة بريدية ببضعة جنيهات من صاحب المجلة التي يكتب فيها في مصر، وفوجئ بأنه مطالب بدفع أرضية؛ لأن الرسالة وصلت منذ شهر ولم يتيسر تسليمها له لأنه غير عنوانه عدة مرات ولم يتردد بيرم في دفع الرسوم والتي كانت آخر ما تبقى معه من نقود. وما كاد يفك الطرد حتى وجد فيها مجلة فقط فرماها على الأرض وهو يلعن ويسب من أرسلها له، وتسبب في دفعه للغرامة، وهي آخر ما يملك من مال وصدمه بقوله: "عرفت الآن أنني لم أقرأ مقال حضرتك يا سيدي! تعجب حقي من أسلوب بيرم في المعاملة ومخالفته للشخصية التي رسمها له في خياله كرجل طريف بحبوح ابن نكتة سريع الإقبال على جليسه ويهش له رجل يكره الغم والنكد، لا يحب الشكوى، سعيد بالمكانة التي بلغها، فإذا به يجد إنساناً يحب العزلة ولا يحب التحدث مع الآخرين، وإذا تحدث كان حديثه مقتضباً.. ليس له صبر ولا مرارة الأخذ والرد، وجل حديثه عن شكوى من مطربة أكلت حقه، وعن الإذاعة التي أهملت أوبريت له وأن حقه مهضوم.

يبدو أن معاناة بيرم في سنوات نفيه الطويلة من قرص الجوع والبرد والإفلاس الذي يطارده، وخذلان أصحاب المجلات له، وأكل مستحقاته وإيمانه بأنه الأكثر موهبة، ورغم ذلك يعيش مثل هذه العيشة كل ذلك جعل نظرته سوداوية للحياة، وأساء الظن بالناس. وقال الكاتب الكبير محمود السعدني إن روح بيرم الساخرة ظلت كامنة تحت السطح، فأبدع ما أبدع رغم المرارة التي تعشش في داخله، وأنا أتفق مع رأي الكاتب الكبير عبد الوهاب مطاوع في أن العبقرية لا تخضع لأي مقاييس أو قواعد، والموهبة الطاغية كحالة بيرم هي التي تنقب في الصخر لتطل برأسها منه، كما يثقب ماء النبع قشرة الأرض ليسيل على سطحها فيرتوي منه الظامئون حتى ولو كره النبع ماءه أو لم يعرف قدره أو يحتفل به.

***​

في النهاية لا يبقى سوى أن أقول: إنه بيرم الذي هو مثل الشمس التي كلام الأنام فيها أنها الشمس ليس فيها كلام. كانت هذه السطور محاولة مني لرسم الوجه الآخر لشاعر الشعب بيرم التونسي الذي أمتعنا بإبداعه وما زال.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها