المتابع للمشهد الثقافي والأدبي في ليبيا في السابق يجده غير واضح المعالم، رغم العديد من المحاولات الجادة والإنتاج المتميز لكثير من الكتاب والمبدعين الذين يعيشون خارج البلاد، ولكن يبدو أن المشهد الثقافي في ليبيا خرج من فترة بيات طويل، ليطل برأسه باحثاً عن آفاق جديدة للإبداع في ظل مناخ الحرية والتعددية. ورغم الأحداث الحالية وانسداد الأفق السياسي في البلاد؛ إلا أن المشهد الأدبي والثقافي يزدهر وينشط، فالكاتب والمسرحي والفنان لم ينزلق إلى الهبوط نحو المعترك السياسي.
وكان هذا الحوار مع الروائي والكاتب المسرحي الليبي معتز بن حميد الذي أكد خلاله أن ما يظهر من مشهدنا الأدبي والفني الليبي إلى السطح العربي ليس بناءً على معايير مدروسة؛ بل لمسألة المحاباة والوساطة الساذجتين.. وهذا بالطبع تتحمل مسؤوليته مؤسساتنا الثقافية، فهي تدعم الشخوص غير المناسبة. وقد كان لنا معه الحوار الآتي:
✦ ماذا عن خطوتك الأولى في أرض الكتابة؟
حكايتي مع النص الأول غريبة قليلًا.. فقد كانت تجربتي الأولى أثناء دراستي الجامعية. كتبت قصة قصيرة وشاركت بها في مسابقة على مستوى الجامعات العربية.. ورغم حصولي على الترتيب الأول؛ إلا أنني لم أواصل الكتابة الإبداعية بعدها إلا بفترة طويلة جداً. ربما سبب دخولي إلى عالم الصحافة قد أرهق قلمي الأدبي عن مزاولة كتابة القصة والرواية وغيرها من النصوص.
✧ كيف تقرأ المشهد الثقافي الآن في ليبيا؟ ومتى يعود النص المبدع؟
إذ كنت تتحدث عن المبدع في حد ذاته.. فالكاتب والمسرحي والفنان لم ينزلق إلى الهبوط نحو المعترك السياسي حتى فترات النظام السابق.. الكاتب الليبي –الحقيقي طبعاً– حاضر مع الأدب وجهاً لوجه الآن وسابقاً.. وهذا لا ينفي أن هناك من يشوه شكل مشهدنا. سؤالك هذا جيد لأنه يجعلني أخبرك بحقيقة أن ما يظهر من مشهدنا الأدبي والفني الليبي إلى السطح العربي ليس بناءً على معايير مدروسة؛ بل لمسألة المحاباة والوساطة الساذجتين.. وهذا بالطبع تتحمله مؤسساتنا الثقافية، فهي تدعم الشخوص غير المناسبة، وليس هناك نية صريحة منها لإحياء ثقافتنا التي كُتب عليها الوأد منذ عهد الحكم الذي ظلّ قرابة الأربعة عقود.
✦ صدر لك روايتك الأولى "رسائل الفردوس" حدثنا عنها؟
رسالة الفردوس تتناول في قالبها العام مسألة الحرب والسلام.. وخلالها حاولت البحث عن جواب السؤال الجدلي والأزلي: "لماذا الإنسان رغم هذا التطور الحضاري الذي وصل إليه، لا يزال يسيطر على أخيه الإنسان بفكرة إلغائه من الوجود"... قضية الحرب، وما يؤول إليه حال الأرض والبشر الذين يتعرضون لها. باختصار، تحكي رسائل الفردوس عن قصة كاتب صحفي يرغب في تدوين أحداث الحرب التي مضى عليها عشرات السنين، فاختار عقيداً متقاعداً ليسرد له خبايا الحرب.. وهذا العسكري كان حاضراً في مستشفى الأمراض النفسية منذ فترة الحرب؛ بسبب رغبته في إخراج فضائح الحرب آنذاك.. يتعرف الصحفي على هذا الأخير ويقنعه بأن يكون شخصية كتابه الرئيسة... وبعد موافقته يطلب منه العقيد أن يساعده في إيصال رسائل منه إلى ابنه الذي تطوع في الحرب سابقاً وتخلى عن أبيه. تجري أحداث الرواية وتنتهي بنهاية صادمة؛ لا أود هنا التصريح بها كي لا أخرب على القارئ متعة قراءتها.
✧ هل الرواية تروي الواقع الليبي بعين المثقف والكاتب؟
لا أنكر أنني –مثل أي كاتب متأثر بمحيطه– قد تأثرت بالأحداث العظيمة المؤسفة التي تعرضت لها بلادنا، فقد كانت الرواية حالة انفعال مع هول ما تغيّر في وطننا. كتبتها أواخر عام 2011، ولم أتطرق إلى قضية الحرب التي تبعت ثورة 17 فبراير بشكل مباشر؛ بل أخذت أحداثاً حقيقية وطوعتها داخل قالب درامي للحبكة الخيالية التي تدور داخلها شخوص وصراعات الرواية. وصنعت منها عملًا أدبياً يهتم بقضية إنسانية كبرى.
✦ باعتبارك تعمل في الصحافة، فهل ساعدك ذلك على إيجاد أفكار وشخصيات لقصصك، أم هي تجربة مُغايرة وتختلف عن القصة؟
جاك نكير، عام 1784 قال عن الصحافة: "إنها قوة غير مرئية، تُملي أوامرها على المدن والمحاكم على السواء.. وحتى في قصور الملوك؛ رغم أنها بلا مال وبلا سلاح وبلا جيش". وحتى عصرنا الحالي.. مهنة الصحافة تمنح صاحبها –الحقيقي– كل أنواع المعرفة.. هي بالطبع توسع عوالمك الإدراكية وتجعل ذهنك محمّل بمخزون بصري وثقافي عظيم. ولأنني كما ذكرت لك سالفاً قد امتهنت الصحافة أولاً، ثم توجهت لاحتراف الكتابة الأدبية؛ اعتبرها مصدر الإلهام الفعلي بالنسبة لقلمي.
✧ شخصيات الرواية كم اقتربت من الواقع؟ أم هي من خيالك؟
المبدع هو من يطوّع الواقع ويعكسه في قالبه الخيالي.. شخوص الرواية من نسج الخيال الصرف كما ذكرت؛ لكنني قد جعلت انفعالاتها وحالاتها مستمدة من شخوص حقيقة.
✦ كم استغرقت كتابة روايتك، وما المشاعر التي عشتها أثناء كتابتها؟
لا أستطيع تماماً حساب الزمن الذي استغرقته لكتابة الرواية، لكن هذا العمل بالتحديد كان رد فعل وإلهام انفعالي.. فإنني خلاف نصوصي الحديثة التي تأخذ مني فترات طويلة، هذه الرواية كتبتها في زمن قصير جداً.
✧ للكتابة مآزقها ومكائدها، فكيف تستطيع كروائي النجاة بنفسك من تلك النصوص الصعبة؟
سؤال صعب صراحةً... أنا أكتب عندما أجد نفسي راغباً في التعبير عن هموم قضية إنسانية تشغلني. وبخصوص النجاة من مآزق العمل الكتابي؛ عليك أن تكتب دون تكلف.. فالكاتب إذا حاول الاجتهاد في لغة الكتابة أو الأحداث سيكون نصه مشوشاً وغير صادق، وهذا سيلحظه أي قارئ.
✦ ماذا عن مسرحية (المُرّان) التي وقعتها في القاهرة؟ وما القضية التي تناقشها؟
هي نص مسرحي يتناول قضية إنسانية هامة تمس الآن كل قارات الأرض؛ وهي (الهجرة غير الشرعية).. رغم أنني أملك وجهة نظر فلسفية حول هذه التسمية؛ فأنا أسمي هذا النوع من الهجرة بـــ(هجرة المواطنة)، حيث إنني مع فكرة أن الإنسان مواطن عالمي. الله سبحانه خلق الأرض والسماء والبحر ملك للإنسان، وهذا الأخير بصراعاته وغرائزه الحمقاء امتلك فضاء الأرض والبحر والسماء. مسرحية المُرّان تبحث تساؤلات حول جغرافيا الإنسان وتماهيها مع إنسانية الجغرافيا. القصة تحكي عن مجموعة مهاجرين تم عزلهم في مخيم بأحد السواحل الأوروبية في بقعة وعرة، وكأن الطبيعة هي التي تحتجزهم.. وقد اخترت اسم (المران) وهي شجرة تنمو في سهول أوروبا كرمز لطموح هؤلاء المهاجرين وأحلامهم للوصول إلى عيش الإنسانية والكرامة التي افتقدوها في بلادهم، فهم يحاولون اقتلاع الشجرة والعبور بجذعها ذلك الوادي الجارف الذي يحيط بمخيمهم.. والمفارقة في العنوان كانت باعتبار أن الشجرة كائن جغرافي على خلافهم هم كائنات غير جغرافية حرة يمكنها التنقل... لقد حاولوا أثناء فعلتهم هذه أن يتحدّوا الطبيعة ويطوعوها تحت سيطرتهم.
✧ هل تم تقديم المسرحية علي أي المسارح العربية؟
الآن هناك قراءة جادة من مخرج عربي للنص.. وربما سنتفق قريباً على تقديمها للركح المسرحي.
✦ كيف ترى المشهد المسرحي العربي بشكل عام والليبي بشكل خاص، في ظل التطورات التي تشهدها البلاد العربية، وكذلك التطور التكنولوجي الهائل حالياً؟
المسرح العربي على صعيد الكتابة هناك محاولات حقيقية، اتسمت بطابع الهُوية والتجديد والابتكار.. أما فيما يخص الرؤية الإخراجية، فاللأسف لا تزال أغلب المحاولات هي اقتبسات من المسرح الغربي. حتى التكنولوجيا لم نطوعها بشيء له خصوصية عربية. ومسرحنا الليبي ينقصه أساساً النصوص المحلية.. أغلب الأعمال السابقة التي لاقت نجاحاً عربياً هي نصوص تم إعدادها من المسرح العالمي والعربي.
ولا ننسى –وهذا واقع لا يخبئه التاريخ– أن سياسة النظام السابق قد حجمت دور المسرح بين الجماهير. لذا نحتاج في وقتنا هذا إلى حكومة واعية ومدركة لدور الفن في بناء مجتمع ناضج... وكي يرتقي المسرح عندنا يتطلب مشروع دعم كبير. أنت تعرف أن المسرح عمل جماعي يحتاج إلى مجهود بشري ومالي كبيريْن.
✧ بين السرد والكتابة المسرحية كيف يجد الأديب منجزه؟
كلاهما مرتبط بالآخر من ناحية موضوع النص.. الاختلاف يكون في القالب الفني، وصعوبة كتابة المسرحية عن الجنس الأدبي الآخر، هي أنك مطالب أن تصل إلى القارئ أو المتفرج فكرة النص عن طريق الحوار فقط.. تحيزي يكون إلى المسرح قليلًا؛ لأنني عشت في عوالمه وعملت فترة قريباً من الركح.. لذا تذوقت من لذته. وحتى الآن أنا كتبت أربعة نصوص مسرحية، وفقط (رواية واحدة ومجموعة قصصية واحدة).. ولا زلت منهمكاً هذه الأيام في إكمال عمل مسرحي جديد.
✦ في إحدى روايته، قال الروائي الكبير "ماريو بارغاس يوسا": "عندما يفشل الإنسان في حياته، يصبح كاتباً".. إلى أيّ مدى يمكن أن تكون هذه الجملة واقعية؟
أعتقد أنه لا يقصد الفشل بمعناه الحرفي، والذي نفهمه نحن... هذه الجملة تحتاج إلى تحليل عميق.. ربما كان يقصد أن أعلى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان هي أن يتحول إلى كاتب... فبعد أن يتذوق تجربة الفشل في حياته تكون خبرته قد اكتملت وانتقل إلى مرتبة أخرى حكيمة.
✧ ما زال الأديب الليبي في المنفى يعاني التهميش من قبل المؤسسات الثقافية، ووسائل الإعلام والصحف في تسليط الضوء على تجارب أدباء المهجر ما رأيك؟
دعني أخالف هذه المرة... من قال ذلك؟! على العكس تماماً.. إذا سألت أي شخص عربي أو ليبي حتى عن اسم كاتب ليبي معروف سيذكر لك ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط.. وهؤلاء من أخذوا نصيبهم من الشهرة؛ هم عاشوا طوال عمرهم في المهجر... منهم من دفعت به الحكومة التي سبقت ثورة 17 فبراير طيلة الأربعين عاماً؛ دفعت به لتجميل نظامها، ومنهم الآخر الذي ترك البلاد بسبب الخلاف مع النظام. أما من عاش داخل ليبيا فقد حُرم من أن يحصل على فرصة جادة لنشر منتوجه الأدبي، وعاش في المنفى داخل وطنه.. هناك كُتاب في ليبيا لو أخذوا فرصة حقيقية ربما تراهم الآن يتربعون على القائمة الأولى في المشهد العربي.
✦ هل استطاع الأديب الليبي من خلال منجزه الإبداعي كروائي وشاعر وقاص أن يرتقي إلى حجم الدمار والفجيعة والمأساة التي يعانيها الليبيون حالياً؟
للأسف لا.. معظم الكتابات (أو ربما جُلها) التي ظهرت موازية للأحداث الأخيرة، لم تكن بمستوى المأساة، ولم تضف شيئاً يُذكر؛ سواء من الناحية التوثيقية أو الحالة الإبداعية.
✧ يهدف النقد إلى إضاءة العمل الإبداعي، هل تعتقد أن مشهد النقد الليبي متذبذب، ولا نشاط للناقد الليبي فيه كما يُشاع؟
صحيح جدّاً... النقد الليبي هو نفسه يحتاج إلى إصلاح ونقد. أغلب القراءات التي ظهرت تحاكي العمل الإبداعي لم تُبنَ على دراسات حقيقية كلها تكون فريسة المجاملة والمحاباة.. اللهم إلا ما يقوم به الدارسون في الجامعات، هي محاولات أكاديمية جيدة.. لكنها للأسف لا تصل إلى الوسط الثقافي أو تظهر في وسائل الإعلام.. فقط تكون مركونة في أرشيف الكليات المعنية بالنقد الأدبي.
✦ هل الكتابة تمرد؟
بالطبع... يقول الروائي الكبير صاحب جائزة نوبل عام 1998 جوزيه سارماغو: "لو توقفتُ عن التمرد سأموت".
✧ ما رأيك في ظاهرة المسابقات الروائية وانتشارها الكبير في الوطن العربي؟
من وجهة نظري (وهذا قد يخالفني عليه كثير من الكتّاب) أراها ممتازة جدّاً.. فهي تمنح الشاب اليافع في عالم الأدب حزمة من التشجيع تجعله يُقدم على العطاء الأدبي الوفير.
✦ كيف تقيم العلاقة بين الروائي والنقاد في الوطن العربي؟
للأسف بعد غياب عمالقة النقد العربي أمثال طه حسين (رحمه الله)، وغيره الكثير في ذلك الزمان؛ أصبح النقد مجرد شكل من أشكال الدعاية الآن. لم نعد نعرف نمطاً واضحاً من أنماط النقد.
✧ ابتعادنا كعرب عن القراءة لمنجزنا العربي أولا، وقلة الكتب المترجمة وقراءتها ثانياً، ألا يدل ذلك على عزلة ثقافية عربية تفتقر إلى من يكسر هذا العزلة؟
عزلة!!.. أنت قلتها بنفسك. نحن من صنعناها، وكوّنا جداراً سميكاً بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين الثقافات الأخرى. والسبب الرئيس في ذلك تدني منظومة التعليم منذ الطفولة في بلداننا العربية.. وهذا بالطبع لم يرسخ قواعد سليمة لدى القارئ العربي.
الآن تلاحظ حتى طلبة الكليات المتخصصة في الآداب لدى الجامعات العربية، أغلبهم في عزلة عن المشهد الأدبي العالمي، فما بالك بالقارئ العام.
✦ الملتقيات الثقافية العربية قياساً بالفترة الزمنية القصيرة لفعالياتها، هل هي قادرة على أن تقوم بدورها في تنمية الحراك الفكري والتواصل بين المثقفين؟ وما الذي ينقصها لتكتمل باكورة إنتاجها؟
المشكلة لا تكمن في قصر مدتها الزمنية... المعضلة الأساسية هي المعايير التي توضع لاختيار الممثلين لهذه الملتقيات.
✧ بمن تأثرت في كتاباتك الروائية والمسرحية عربياً وعالمياً؟
ليس تأثراً بمفهومه الصريح.. لكنني أحببت واقتربت كثيراً من كتابات أندريه جيد، وبعض من الأدب الروسي (قديما).. وكتابات ساراماغو، وكتّاب من أمريكا اللاتينية (حديثاً). في المسرح أحب كثيراً أعمال جان بول سارتر، وأيضاً مؤلفات برنارد شو المسرحية.
✦ كيف تؤثر الجوائز في مسيرة المبدع، وهل للإبداع حدود تؤطره؟
لا ظن أنها تحد من المبدع وتضعه داخل إطار معين... بالعكس أراها تسلط الأضواء عليه، هي تفرش سجادة حمراء تحت أقدام الكاتب؛ وحينها يستطيع قول ما يرغب به، ويظهر منتوجه كما يشاء.